تطرقت الحلقتان الأوليان الى قرار تشكيل المجلس الاقتصادي الأعلى في السعودية على اعتاب الألفية الثالثة التي تزخر بمتغيرات محلية وإقليمية ودولية. وشدد الكاتب على التركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكثيفة العمالة، ودعا الى تنشيط سوق رأس المال السعودية عبر اجراءات عدة منها اعطاء دفعة قوية لعملية التخصيص. شجعت سياسة الحرية الاقتصادية التي تتبعها المملكة العربية السعودية التي تتفق مع الشريعة الاسلامية في احترام الملكية الخاصة وحرية التملك والاستثمار وتوظيف ملكات الانسان في الابداع العلمي والعملي وإعمار الأرض، فضلاً عن الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تتمتع به المملكة، على تدفق الاستثمارات الاجنبية الى السعودية اضافة الى عودة الاموال المهاجرة اليها. وتجدر الاشارة الى ان جذب المملكة لهذه الاستثمارات، يأتي في ضوء العديد من المزايا والحوافز التي تقدمها المملكة للمستثمر الاجنبي، وفي مقدمها تمتع رأس المال الاجنبي بالمزايا التي يتمتع بها رأس المال الوطني. ولم تكتف الحكومة بعدم فرض ضرائب على المنتجات الوطنية بل عمدت ايضاً الى انشاء المؤسسات التمويلية الحكومية التي تمنح المستثمر قروضاً من دون فوائد لآجال طويلة. ولترسيخ قاعدة صلبة للصناعة، انشأت الحكومة المدن الصناعية في مختلف المناطق بلغت مساحتها الاجمالية اكثر من 75 مليون متر مربع. والواقع ان من اهم ملامح مميزات مناخ الاستثمار الصناعي في المملكة توافر المواد الخام والمواد الوسيطة بكميات كبيرة، ومواصفات جيدة وبأسعار معقولة، اضافة الى السياسة الصناعية التي تنفذها المملكة لحماية وتشجيع الصناعات المحلية، وتوفير التجهيزات الأساسية اللازمة للصناعة، كما تتوافر في المملكة الثروة المعدنية التي تتمثل في الخامات المعدنية وغير المعدنية التي تشكل مورداً مهماً للمواد الخام اللازمة لاقامة الصناعات الجديدة، ولتوفير احتياجات الصناعة القائمة من المواد الأساسية والوسيطة. وبالاضافة الى ذلك، هناك ميزات اخرى تتمثل في حرية تحويل الأرباح وأصل رأس المال واستقرار سعر صرف الريال السعودي بالاضافة الى ان المملكة تمثل سوقاً كبيرة للاستهلاك، حيث تقدر السيولة المتاحة بأكثر من 200 بليون ريال، كما ان موقع المملكة المتميز يتيح للمنتج سهولة الوصول الى الأسواق الخارجية. ولكن على المزايا السابقة التي جعلت من السعودية منطقة جذب استثماري، يلاحظ انحسار تدفق الاستثمارات الاجنبية الى المملكة في الأعوام الاخيرة، الأمر الذي يستدعي اعادة النظر في قانون الاستثمار الاجنبي المزمع اصداره ليراعي النقاط الآتية: 1 - ان يرتبط السماح للمستثمرين الاجانب باقامة مشاريع داخل المملكة بنقل التكنولوجيا المتطورة، وبتوظيف وتدريب نسبة عالية من العمالة السعودية. 2 - اعطاء الشركات والمصانع التي تستخدم مواد خام محلية او مواد نصف مصنعة ميزة تفضيلية لجهة الضرائب والاعفاء الجمركي، حتى وإن تطلب الأمر اعادة النظر في النظام الضريبي لما في ذلك من تشغيل للمصانع الاخرى داخل المملكة وتدعيم نظام التكامل الاقتصادي الداخلي. 3 - طالما ان المملكة تعتبر سوقاً كبيرة للعديد من المنتجات وينتشر فيها العديد من الوكالات التجارية الضخمة، سيكون من المفيد الزام هذه الوكالات خصوصاً تلك التي تزيد مبيعاتها عن 100 مليون ريال سنوياً بإقامة صناعات تجميعية ذات نسبة مرتفعة او جزئية، وذلك يعتمد على طبيعة نوع الصناعات، فإذا كانت صناعة ميكانيكية او كهربائية يمكن ان تقام مصانع بتصنيع بعض قطع الغيار على ان تكون شريكاً أساسياً لهذه المصانع في الخارج. بمعنى ان تصدر قطع الغيار للمصانع الأم في الخارج أو بعض اسواقها. واذا كانت الصناعات كيماوية او بتروكيماوية لا بد ان تصنع بمواصفات الشركات الخارجية داخل المملكة. وهدفنا من هذا الاقتراح هو ألا ينظر الينا العالم نظرة سوق استهلاكية فقط، فيجب ان نكون شركاء في الانتاج. 4- اذا كانت مهمة السياسة الاقتصادية اعادة توزيع الدخل بما يحقق المزيد من العدالة الاجتماعية يجب على الشركات الاجنبية المشتركة طرح اسهمها للاكتتاب العام، مع اعطاء هذه الشركات بعض المميزات كاطالة مدة الاعفاء الضريبي او خفض الشريحة الضريبية. ولا شك ان طرح اسهم الشركات الاجنبية او جزء منها للاكتتاب العام سيساهم في امتصاص السيولة المحلية، كما يساعد ايضاً على ايجاد قنوات استثمارية جديدة. 5- بالنسبة لمشاريع التوازن الاقتصادي التي تعتبر ريعاً حقيقياً لمكانة المملكة الاقتصادية، يجب ايضاً ان نربط بين حجم المشروع وامكان تحويله الى شركة مساهمة، وهذا يندرج تحت العدالة التوزيعية التي تحرص عليها المملكة بايجاد فرص استثمارية شريفة لمواطنين. انفقت الدولة بلايين الريالات لتهيئة مشاريع البنية الاساسية لهذه الاراضي من كهرباء، ومياه، وصرف صحي، وهاتف… الخ وذلك بهدف تحقيق اكبر استفادة ممكنة لمحدودي الدخل، ولكن بالمقابل نجد ان العديد من ملاك هذه الاراضي لم يستغلوها الاستغلال الامثل الذي يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني بل استخدموا هذه الاراضي في المضاربات التي لا تعود بالنفع الا على انفسهم فقط، ومن هنا فقد يكون ضرورياً فرض ضريبة على الاراضي غير المستغلة داخل النطاق العمراني، وقد تكون في صورة عينية توزع على محدودي الدخل. ولسنا البلد الوحيد الذي يلجأ الى مثل هذه الضريبة، فجميع دول العالم بما فيها الدول المتقدمة تقوم بفرض مثل هذه الضريبة. ومن جهة اخرى قد يكون من المفيد ايضاً دفع زكاة على الاراضي اسوة بعروض التجارة، فسوق الاراضي في المملكة لا يقل عن 150 بليون ريال حسب تقديرات خبراء العقارات، ومن هنا فحصيلة الزكاة لن تقل عن اربعة بلايين ريال سنوياً، خصوصاً ان الزكاة تدفع لذوي الاستهلاك العالي، بمعنى انها ستضخ مرة اخرى في الاقتصاد الوطني. الصناعات ذات الميزة النسبية نظراً لتوافر العديد من الخامات وبكلفة منخفضة نسبيا وباحتياطات كبيرة خصوصاً بالنسبة للنفط والغاز الطبيعي، يمكن التركيز على الصناعات ذات الميزة النسبية خصوصاً الصناعات البتروكيماوية التي تمثل فيها كلفة المواد الخام اكثر من 60 في المئة. وفي هذا الصدد يجب ان يكون هناك جهاز خاص يشرف على هذه الصناعات، ويتبنى رعايتها وتحديد الصناعات التي يمكن ان تقوم سواء في شكل اساسي او صناعات تكميلية، واعطائها الاولية، فهناك بعض الشركات في اميركا خصوصاً في مجال صناعة البتروكيماويات يبلغ انتاجها 35 بليون دولار وبالتالي فعلى الاقل هناك 500 صناعة يمكن انشاؤها. زيادة الائتمان لصناعات التصدير تقوم المصارف والمؤسسات التمويلية الاخرى بدور مهم وحيوي في تمويل المشاريع الصناعية، فعادة ما تحتاج هذه المشاريع الى جرعات تمويلية لعملية الانشاء او التجديد او التوسع في خطوط الانتاج، كما تحتاج الى رأس مال جارٍ لمواجهة احتياجاتها من المستلزمات الانتاجية، فاذا نظرنا الى التمويل الممنوح سواءً من المصارف التجارية او من صندوق التنمية الصناعية السعودي لقطاع الصناعة نجد انه ما زال ضئيلاً بالمقارنة بما تحصل عليه قطاعات الاقتصاد الوطني الاخرى، الامر الذي يتطلب من هذه الجهات التمويلية زيادة الحصة المخصصة لقطاع الصناعة وخصوصاً الصناعات التصديرية باعتبارها اهم قطاعات الاقتصاد الوطني الاساسية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى يجب اعطاء اسعار فائدة تفضيلية داخل قطاع الصناعة نفسه ليتم التركيز وبأسعار فائدة منخفضة على تمويل الصناعات الاساسية والصناعات الصغيرة والمتوسطة دون الصناعات الاستهلاكية، واذا كانت مشكلة الضمانات تمثل عقبة امام قيام المصارف بتمويل الصناعات الصغيرة والمتوسطة، فيمكن للمصارف ان تستعيض بدلاً من الضمانات تمويل المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية والتي تقوم باعدادها مكاتب استشارية متخصصة ذات سمعة وخبرة كبيرة، كما يمكن ايضاً تعيين المراجع الداخلي والخارجي وكذلك الاطلاع على الحسابات الخاصة بهذه الشركات، كما يمكن ايضاً في هذا المجال قيام البنوك بالتعاون مع وزارة التجارة ومجلس الغرف التجارية بانشاء مؤسسات لضمان التصدير. الصناعات الاستخراجية على رغم توافر العديد من المعادن في الاراضي السعودية كالحديد والنحاس والفوسفات والذهب، ليست هناك صناعات استخراجية ترتكز على هذه المعادن، الامر الذي يتطلب انشاء شركات تعدينية متخصصة لا تقل كفاءة وانتاجاً عن الشركات النفطية، ويقتضي ذلك وجود جهة متخصصة تتولى الاشراف على عمليات التنقيب عن المعادن وانتاجها وتسويقها خصوصاً في اعقاب اكتشاف احتياطات كبيرة من الحديد والنحاس والفوسفات والذهب وبناء الصناعات التي تقوم على هذه المستخرجات. البحوث والدراسات الاستشارية تزداد البحوث والدراسات الاستشارية اهمية يوماً بعد يوم، واذا كانت الدولة سمحت بانشاء عدد من المراكز الاستشارية المحلية، وان كان عددها قليلاً لا يتجاوز اربعة مراكز بالنسبة للصناعة، فيجب الاستفادة من الدراسات التي تجريها هذه المراكز في مجال التنمية الصناعية بدل الاعتماد على البيوت الاستشارية الخارجية، بما لا يسمح بتطوير المعرفة داخل المملكة وعدم العلم على تنميتها داخلياً، وهنا نؤكد على ضرورة تكليف شركة او مجموعة استشارية لتحديد اكثر الصناعات ملاءمة لبلادنا، ليتم الاخذ في الاعتبار مدى توافر المواد الخام اللازمة لهذه الصناعات، والتكامل مع الصناعات الاخرى فضلاً عن كونها تسد حاجة ضرورية وماسة للاقتصاد الوطني، ثم توضع في خطة واحدة تروج على رجال الاعمال بدلاً من التبعثر الحالي. هذه بعض رؤيتنا التي نطرحها امام المجلس الاقتصادي الاعلى ونحن على مشارف الألفية الثالثة. * اقتصادي سعودي.