في فيلمها الجديد "موسيقى من القلب" تقوم ميريل ستريب بتشخيص حال معلمة موسيقى هجرها زوجها الذي تحب وترك لديها ولدين صغيرين ووضعاً مادياً صعباً عليها تجاوزه بالبحث عن عمل. العمل الوحيد الذي تجيده هو العزف على الكمان، ولديها في البيت 50 كماناً صغيراً، توزعها على طلاب احدى المدارس الابتدائية في الحي الفقير المختلط الذي تنتقل للعيش فيه. هذا العمل كمدرسة موسيقى لم يأت بسهولة اذ أن المدرسة ليس لديها الميزانية التي تخولها الصرف على حصة موسيقية، لكن استعداد روبرتا غيوسباري ستريب أثر في المديرة جانيت أنجيلا باسيت ولو انه لم يترك التأثير السريع نفسه لدى عدد من أولياء الأمور. أم الصبي الأفرو-اميركي كريم مثلا تقول انها لم تضع ابنها في المدرسة ليتعلم موسيقى البيض، لكن جزءاً من تحديات روبرتا المتواصلة يقوم في إقناع مثل أم كريم ان الموسيقى لا تعرف اللون العنصري وأنها سبيل لإسعاد الصغار في عالم ضبابي يعيشون فيه هذه الأيام. حياة روبرتا الخاصة لا تخلو من المشاكل، فكثير من الوقت السينمائي يمضي وهي تحاول استعادة زوجها، قبل ولوج علاقة عاطفية مع صديق قديم أيدن كوين ولاحقاً، ما نراها تحاول فهم ولدها الأكبر والتغلب عن شعوره العدائي نحوها ونحو المجتمع الناتج من دون ان يعمد الفيلم الى الاستعانة بمرشد نفسي عن فقدانه الأب وشعوره بأن أمه هي السبب في ذلك. هذا يقع بعد عشر سنوات من انفصالها عن زوجها وبينما تواجه تحدياً جديداً في عملها الذي نجحت في الاستمرار به، فالحكومة قررت تقليص المعونة المالية التي تتلقاها المدرسة بين مدارس أخرى. وذلك يعني ان روبرتا وتلامذتها لن يستطيعوا القيام بالحفل الكبير الذي خططت له روبرتا بحماس. لكنها تعلن لأولياء الطلاب الذين اجتمعوا، أنها ستجد السبيل الى ذلك. وهي تجد السبيل فعلاً في خاتمة عاطفية وعلى مسرح كبير ضامة المواهب الشابة الى بعض كبار العازفين على الكمان وحاصدة التصفيق من المشاهدين داخل الفيلم وخارجه. كل ما نراه مستوحى من أحداث حقيقية تم تسجيلها من قبل في فيلم وثائقي بعنوان "أعجوبات صغيرة" لالان ولانا ميلر. فالأحداث واقعية والشخصيات حقيقية ولو ان ستريب لا تعمد الى تشخيص المرأة التي وقعت الأحداث معها، بل - وحسناً تفعل - تنطلق لتمارس عملها كممثلة محترفة ومستقلة. دورها في "موسيقى من القلب" لا يقل إجادة عن أي من أعمالها البارزة من قبل مثل "اختيار صوفي" و"العشب الحديدي" و "قلب محروق". مخرج الفيلم هو ويز غرافن في أول محاولة له للخروج من سينما الرعب "صراخ"، "كابوس شارع ايلم" الخ… التي أجاد الى سينما الدراما العاطفية ذات الأسس الانسانية/ الاجتماعية. وهو على الرغم من مادة لا تعرف المفاجآت وكثيراً ما تمر بفترات من اللاحدث، وضع كامل رغبته في تقديم عمل لا يخلو من اللمسات الاجتماعية. سواء في المحيط المباشر مع بطلته التي تلملم شتات حياتها بعدما قطعت مرحلة الشباب، أو في المحيط الاجتماعي من حولها، معلقاً على وضع أبناء حي هارلم والوضع المعيشي المتعثر الذي يترك تأثيره على الأولاد والآباء، ويحد من الملكات الثقافية والفنية وتحقيق الطموحات والمواهب. هذا التعليق يبقى خلفياً ومن دون تعمق أو تحول لممارسة نقد أو تحليل ما، لكنه أفضل ما عند غرافن ليقدمه في فيلم يسير، في كل النواحي الأخرى، سيراً حثيثاً في تحقيق التوقعات التي تطرحها الأحداث من دون عناصر مفاجئة. مخرج مستقيم المخرج الاميركي الآخر ديفيد لينش يسير أيضاً في عكس اتجاهه السابق. في أفلامه الأولى، من "رأس محلوق" 1978 الى "مخمل أزرق" 1986 وصولاً الى "الطريق المفقود" 1996 أنجز أعمالاً يلعب فيها الخيال دوراً رئيسياً الى حد ان الماثل على الشاشة يصبح غير قابل للقراءة بسبب الغموض الذي يلفه، سواء أكان هذا الغموض ملائماً كما في "مخمل أزرق" مثلاً أو مفتعلاً "الطريق المفقود". لكنه في "قصة سترايت" التي تدور حول رجل عجوز اسمه سترايت يؤديه رتشارد فارنسوورث يجنح الى البساطة المتناهية. ويبدو العنوان تعليقاً على هذا الجنوح، إذ ان كلمة سترايت تعني ايضاً خطاً مستقيماً ومباشراً، وهذا ما يقدم الفيم عليه. والفيلم عرض سابقاً في "كان" ويتسلل هذه الأيام الى العروض التجارية في اميركا واوروبا. سترايت مزارع عجوز من الوسط الأميركي يقرر زيارة أخيه دور صغير لهاري دين ستانتون الذي يعيش في ولاية أخرى. انه لم ير شقيقه منذ تسع سنوات أو أكثر وذلك نتيجة جفاء بينهما. سترايت ليست لديه امكانيات السفر بالطائرة ولو فعل فليست هناك طريقة للوصول من المدينة الى بيت أخيه الريفي النائي، ولا يستطيع أيضاً قيادة السيارة. الوسيلة الوحيدة المتاحة له هي ان يركب ذلك المحراث الصغير والقديم ويقطع المسافة من بيته في ولاية أوهايو الى بيت أخيه في ولاية ويزكونسين وحيداً. ليس من مغامرات على الطريق الطويل. هذا الفيلم بسيط كما الملخص السابق وما يقع خلال الرحلة لا يخرج عن هذا التبسيط. لكنه التبسيط الذي يعجز البعض عن تقديمه. التبسيط الصعب تناولا، والمؤثر في نتيجته كما لا شيء آخر. فيه يتفادى لينش صيغ هوليوود التقليدية كما تفاداها من قبل، انما فوقها يتفادى ما قام به هو أيضاً. بذلك يخلو الفيلم من المغامرة ومن المفاجأة كما من الفلاشباك ومن أي عارض قد يأخذك، متفرجاً، بعيداً عن ذلك الرجل العجوز في مهمته التي تعني له الأرض كلها. وفي النهاية يدمع القلب برقة عندما ينجح الشقيقان في اللقاء. واللقاء لا يتم عاصفاً بالقبل والإحتضان، لكنك سترى فيه ما لا شكل فيزيائياً له: العاطفة الوثيقة بينهما وهي تغسل جفاء سنوات الأمس. في ذلك المشهد النهائي ينظر هاري دين ستانتون الى المحراث الصغير الذي ركبه اخوه العجوز ويسأل "جئت لتراني؟". السؤال يلخص الرحلة بكاملها. رتشارد فارنسوورث ممثل كومبارس في معظم سنوات الأمس البعيد. تراه مثلاً كأحد الأشرار في فيلم كلينت ايستوود "الخارج على القانون جوزي ويلز" لكنه في العام 1980 انطلق الى البطولة لأول مرة في فيلم "الثعلب الرمادي"، لاعباً دور لص قطارات خرج من السجن في مطلع القرن العشرين ليكتشف حياة جديدة فيها سينما صامتة وقطارات أسرع من تلك التي اعتاد سرقتها. تصوير فردي فرنسيس يمنح هذه القصة البسيطة ثراء خاصاً، لكن الفيلم بأسره قائم على الكتفين الضعيفتين لهذا الممثل العجوز الذي لو فشل في تجسيد الشخصية التي يقوم بها، أو لعبها على النحو غير المرغوب أو المناسب لسقط الفيلم بأسره. رصاصة في القلب بيرس بروسفورد هو مخرج آخر يقدم هذا العام على تحقيق فيلم يختلف عما اعتاده. على عكس كرافن ولينش اعتاد بروسفورد أنواعاً درامية مختلفة، من الاجتماعي الداكن في "جرائم القلب" مع سيسي سبايسك التي تطل ايضا في "قصة سترايت" الى الدراما الجنوب اميركية في "قيادة سيارة الآنسة ديزي"، الى الدراما الحربية في "بريكر مورانت"، أحد أعماله الأولى. في "خطورة مزدوجة" يقدم بروسفورد فيلماً بوليسياً ويسرده جيداً. على عكس التوقعات التي تتسلل عادة الى النفس واعدة بفيلم آخر حول جريمة نصف كاملة، يجيء هذا الفيلم كنصف دراسة في حق امرأة في الانتقام من الرجل الذي أودى بها الى السجن حيث أمضت ست سنين من عمرها. هذا مفجع، المفجع أكثر هو ان هذا الرجل ليس سوى زوجها. آشلي جد Judd زوجة سعيدة ومغدورة. بعد قليل من بداية الفيلم يختفي زوجها من على اليخت الذي اشتراه لها تاركاً وراءه دلائل بأنه قُتل وأن القاتلة ليست سوى زوجته. هذا ما يقودها الى السجن حيث تتعلم هناك ان القانون الأميركي لا يحكم مرتين على جريمة القتل نفسها اذا ما كان القتيل لا يزال حياً ثم قتله المتهم سابقاً بقتله. وهي اكتشفت ذلك بالصدفة حينما كانت تتحدث مع إبنها الصغير وصرخ ذاك منادياً أباه. بكلمات أخرى: تستطيع بطلة الفيلم حين قضائها مدة عقوبتها ان تقتل القتيل لأنه - قانونياً - مات. طبعاً عليها ان تكتشف مكان وجود زوجها الذي ادعى موته والذي تقمص شخصية اخرى وخانها مع أعز صديقاتها ثم وعلى الأرجح دبر موتها ايضاً. تومي لي جونز الذي رأيناه يركض وراء أعتى الأشرار في "اللاجئ" و"عدو الأمة"، يمضي معظم هذا الفيلم وهو يلهث وراء المرأة التي عهدت اليه لمراقبة سلوكها، وهي بعد أيام قليلة تفلت من مراقبته وتمضي في بحثها عن إبنها وزوجها. لاحقاً يتبنى وجهة نظرها مقتنعاً أنها بريئة مما نسب اليها، وان الرجل الذي تلاحقه ليس سوى زوجها بالفعل. وهذا الزوج لن يتوقف عن محاولة الايقاع بها وقتلها. وفي مشهد مشدود نراه يحبسها في تابوت محكم ويتركها في غرفة في مقبرة لتموت فيه. رغم ان الفيلم تشويقي الا انه تشويقي جيد وجديد. مثل "الحاسة السادسة" هذا فيلم راشد في المواصفات الفنية كما في الأحداث. يبتعد عن الرخص في معالجته العامة ويقتصد في المفارقات التي كان يمكن ان تنتج عن مناسبات معهودة: دخول البطلة الدور البطولي الأول للممثلة الجيدة جاد إلى السجن لا يحول الفيلم الى مناسبة لاستعراض البيئة هناك، ووصولها الى زوجها المتخفي لا ينتج عنه حل سريع أو مواجهة تقليدية. الوحيد الذي يكرر دوراً سابقاً هو لي جونز، لكنه يفعل هذا مع اختلاف، هو الآن أكثر هدوءاً وسخرية مما كان عليه والفيلم الجديد لا يرتكز الا جزئياً على ملاحقته. انه فيلم عن امرأة أصيبت في القلب عندما اكتشفت خداع زوجها ولن تمسح الجرح الا إصابة في قلب الرجل الذي مات مرتين.