منذ فيلم الافتتاح وحفلة عرضه الصاخبة والتي دارت تحت وقع الارتياح الذي يشعر به أهل الفن والثقافة عموماً من جهة، لمجيء رئيس شاب للجمهورية الفرنسية يبعث الأمل الأوروبي في نفوس كانت قد اتّسمت بمقدار لا بأس به من الكآبة خلال المرحلة السابقة، ولوحظت في الدورة السابقة لمهرجان كان؛ ومن جهة ثانية للهزيمة التي منيت بها الجبهة الوطنية الفرنسية وكل العقول المتحجرة التي تساندها في الانتخابات ذاتها، منذ حفل الافتتاح هذا، وحضور مونيكا بيلوتشي، وسط رهط من نجوم التمثيل والإخراج، سيدة للاحتفال، أعطت هذه الدرة السبعون من مهرجان «كان» السينمائي الدولي نكهة سينمائية حقيقية، ولا سيما أن فيلم الافتتاح هذا، والذي قُدّم خارج المسابقة الرسمية، يدور في أجوائه، كما في جوهر موضوعه من حول السينما. تحديداً من حول تصوير فيلم سينمائي. وكما يحدث عادة بالنسبة إلى هذا النوع من الأفلام، بدا «أشباح إسماعيل» للفرنسي آرنو ديبليشان، قاسماً للنقاد منذ عرضه الأول، بين من رأوا فيه «تحفة سينمائية استثنائية ترفع من شأن السينما الفرنسية» (لوي غيشار في مجلة «تيليراما») ومن رأى فيلمه فيلماً كان يمكنه أن يكون جيداً «لكنه تاه في طريقه ولم يعرف كيف يربط بين الجانب الذي يشكل موضوع الفيلم ذاته، والجانب الذي يشكل موضوع الفيلم داخل الفيلم» (كما يقول نيكولا شالر في «النوفيل أوبسرفاتور»). والحقيقة أن الوقت لا يزال أبكر من أن يسمح لنا بالاعتداد بأي من هذين الرأيين اللذين يتقاسمهما على أي حال عدد من النقاد الذين كتبوا عن الفيلم حتى الآن. ونحن ما أوردناهما إلا للدخول في موضوع يشكل حصة أساسية من المناخ العام الذي يخيّم على هذه الدورة من «كان». اخدم نفسك بنفسك! إنه، وبكل بساطة، موضوع السينما نفسها: السينما عن السينما. الأفلام التي تجعل من الحديث عن السينما موضوعاً مميزاً لها. و «أشباح إسماعيل» هو فيلم من هذا الطراز، يقدم لنا بطله المدعوّ إسماعيل فويّار (ماثيو آمالريك)، وهو يعيش أزمة إبداع في وقت يشتغل فيه على إنجاز فيلم جديد له. الفيلم المزمعة كتابته عمل تشويقي جاسوسي، من النوع الذي يهتم به ديبليشان نفسه منذ زمن بعيد على أي حال. وهو من أجل إنجاز الكتابة يتوجه للإقامة في جزيرة صغيرة نائية مع امرأته سيلفيا (شارلوت غينسبورغ) ليعمل بهدوء بعيداً من الزحام في كتابة النص الذي يستعيره من حياة ومغامرات أخيه بول ديدالوس (لويس غاريل، الحاضر كذلك في فيلم آخر هو «المريع» عن فصل من حياة جان لوك غودار حين كان يصور فيلم «الصينية» في الستينات، كما سنرى بعد سطور). المهم أن إسماعيل ينهمك في الكتابة بنشاط حين تظهر له فجأة امرأة صباه وحبيبته السابقة كارلوتا (ماريان كوتيّار) التي كانت ماتت قبل تسع سنوات... ولسوف يمضي جزء من زمن الفيلم قبل أن نعرف ما إذا كانت ميتة بالفعل تعود الآن، أم أنها لم تمت أصلاً. المهم أن عودة هذا الشبح، تخلخل حياة إسماعيل وأفكاره. ومنذ تلك اللحظة سيحدث الكثير من الاختلاط بين الحياة التي يعيشها إسماعيل، وبين المشاهد التي يسجلها على الورق. وإذا كان علينا أن نلاحظ هنا تشابهاً في الأسماء والمواقف بين هذا الفيلم وتحفة هتشكوك «فرتيغو»... فإن هذا ليس من قبيل الصدفة. فمن الواضح هنا أن المخرج الفرنسي، الذي كثيراً ما اهتم على خطى المعلم الكبير، بالحبكات البوليسية والجاسوسية في أفلامه السابقة، إنما يريد من «أشباح إسماعيل» أن يكون واحداً من أكثر أفلامه ذاتية، بدءاً من التحية التي يوجهها إلى ألفريد هتشكوك، وصولاً إلى جعله بطل الفيلم كاتباً ومخرجاً سينمائياً، ليبدو في نهاية الأمر وكأنه أنا/ آخر له. ومن هنا، ومهما كان الأمر، ومهما كان من شأن قبول هذا الفيلم بصفته فيلم افتتاح مميّزاً خارج المسابقة لدورة من «كان» تريد لنفسها أن تكون استثنائية، لا بد من قبوله بوصفه تحية حقيقية للسينما ذاتها. عملاً يفتتح دورة من «كان» تجعل من السينما أحد أعمدة مواضيعها وجوهرها في زمن تبدو السينما معرضة للعديد من الأخطار. في هذا الإطار وحده، لا بد من تحية «أشباح إسماعيل» كعمل سينمائيّ/ سينمائيّ، وضع المهرجان مباشرة في قلب السينما. غودار غودار السينما إذاً حاضرة في شكل متعدد، أشرنا إلى بعض وجوهه في رسائل سابقة. ولكن لا بد من التوقف هنا في شكل أساسيّ أيضاً عند فيلم آخر عن السينما من توقيع ميشال هازانوفيتس، السينمائي الذي فاجأ جمهور «كان» قبل سنوات بتحفة سينمائية من نوع نادر قدّمت بالأسود والأبيض لتطوف حول العالم بعد «سعفة ذهبية» كانيّة بدت أكثر من مستحَقّة. ونتحدث هنا طبعاً عن فيلم «الفنان»، الذي اعتُبر يومها تحية بديعة للسينما الصامتة في لحظة نهايتها وانبثاق السينما الناطقة. هازانوفيتس، يعود الآن في المسابقة الرسمية بفيلم آخر عن السينما، وبشكل أكثر تحديداً، عن شيخ السينما جان – لوك غودار. وليس الفيلم وثائقياً كما كان في الإمكان أن نتوقع، بل هو عمل روائيّ يلعب فيه الممثل الشاب لوي غاريل دور غودار وهو في أواسط الثلاثينات من عمره يوم كان يعيش مرحلته النضالية/ الماوية الصاخبة، ويوم اقترن بالممثلة والكاتبة الشابة، التي اقتبس فيلم هازانوفيتس وعنوانه «المريع» سيناريو فيلمه من كتاب وضعَتْه عن حياتها مع غودار. الفصل الذي يشكل موضوع الفيلم، هو ذاك الذي يصور غودار وهو يشتغل على فيلم «الصينية» ويستعد، بشكل غير واضح إلى مبارحة مرحلة الشغف النضالي ليخوض تجارب سينمائية جديدة ومتنوعة. ومن هنا، من الواضح أن الفيلم يغوص في سنوات الستين وأجوائها بشكل قد يبدو، بصورة أو أخرى، قريباً من ذاك الذي صوّره برناردو برتولوتشي في فيلمه «الحالمون» قبل سنوات عن المرحلة ذاتها. السؤال اليوم هو: هل يحضر غودار العرض العالمي الأول لهذا الفيلم الذي يجعل حياته موضوعاً سينمائيّاً؟ وما الذي سيكون عليه رأيه في ما ترويه عنه امرأته السابقة واستحوذ عليه مخرجٌ دائماً ما أبدى تقديره إياه؟ كل هذا سنعرفه لاحقاً... وعندما يشاهَد هذا الفيلم المثير للفضول. أما الآن، فيكفينا أن نوجه إليه تحية مشابهة لتلك التي يمكن توجيهها إلى فيلم الافتتاح لمجرد كونه فيلماً يجعل من السينما نفسها موضوعاً له. ... وفصول من تاريخ السينما طبعاً لن نحصي هنا كل الأفلام أو التظاهرات التي تدور من حول السينما ونتحدث مجدداً عن كون هذا الفن السابع أضحى، وبكل بساطة، جزءاً أساسياً من تاريخ الزمن الذي نعيش فيه، وبأكثر مما فعل أي فن آخر، لكننا نشير أخيراً إلى برنامج خاص من برامج المهرجان، أُدرج ضمن إطار البرنامج الأعمّ «كلاسيكيات السينما»، وعنوانه الخاص هو «وثائقيات حول السينما». ويتألف هذا البرنامج من خمسة أعمال متنوعة حُققت جميعاً في العام 2017 تحت شعار «تاريخ السينما من طريق السينما نفسها»، والأعمال هي التالية: «التاريخ البلجيكي لمهرجان كان» لهنري جيرلاش (بلجيكا، ساعة ودقيقتان)، وهو كما يدل عنوانه نوع من تحقيق سينمائي يتسم بالمرح والإيجابية في تصويره لاكتشاف جمهور كان السينما البلجيكية دورة بعد دورة، فيما يعتبره صانعوه نوعاً من «حكاية بلجيكية لأكبر مهرجان سينمائي في العالم». «دافيد ستراتون – حياة سينمائية» لسالي آيتكن (أستراليا، ساعة وسبع وثلاثون دقيقة). والفيلم يقدم نفسه بوصفه «مغامرة حب» عاشها الناقد ستراتون في البلد الأسترالي الذي تبناه وجعله يكتشف نفسه من خلال حبه للسينما ودفاعه عن عوالمها ونقده أفلامها. كما أن الفيلم يعتبر في الوقت ذاته أنشودة حب للسينما الأسترالية التي يمكن القول إن مهرجان كان عمل دائماً على اكتشافها وتتبع جديدها. «عامل السينما» لطوني تزييرا (الولاياتالمتحدة، ساعة ونصف الساعة تقريباً). يتحدث هذا الفيلم عن ليون فيتالي الذي كان ممثلاً فتياً في فيلم «باري لندون» لستانلي كوبريك ليصبح من بعده وبالتدريج ولمدة عقدين من الزمن أحد أقرب مساعديه. ويغوص الفيلم في تلك العلاقة المركبة والمعقدة التي قامت على الدوام بين كوبريك وفيتالي مستندة إلى نوع من التفاني والتضحية اللذين دائما ما أبداهما الشاب تجاه معلمه الكبير... ناهيك بفرح العمل مع أستاذ سقراطي من طينة كوبريك بالنسبة إلى شاب لم يعرف منذ بداياته طريقاً إلى السينما خارج الدروب التي رسمها ذاك الذي كان ولا يزال يعتبر واحداً من أكبر مبدعي الفن السابع في تاريخ هذا الفن. «أن تصبح كاري غرانت» لمارك كيدل (فرنسا، ساعة وخمس وعشرون دقيقة). قد يكون غرانت منسياً بعض الشيء اليوم، ومن هنا يبدو من العدل أن يأتي هذا الفيلم لتذكيرنا بذاك الذي كان ذات يوم «نجم النجوم» في السينما الأميركية، قبل أن يغرق ذات يوم في المخدرات ويمضي سنين أساسية من كهولته وهو يداوي نفسه من تلك الآفة ومن الشياطين التي خلقتها لديه. واللافت في هذا الفيلم أننا نرى غرانت نفسه وهو يحكي لنا قصته بلهجة لا تخلو من المرح والظرف على رغم المأساة التي عاشها. «جان دوشيه، الفتى الصاخب» لفابيان هاجيج، غيّوم نامور، وفنسان هاسّير (فرنسا، ساعة ونصف الساعة). يقوم هذا الشريط على فكرة طريفة: ثلاثة من الشبان من محبي السينما يلاحقون حياة وكتابات الناقد السينمائي والباحث الفرنسي المعروف، طارحين أسئلتهم على رفاقه وأصدقائه والسينمائيين الذين كتب عنهم وأولئك الذين اختلفوا أو اتفقوا معه ولا سيما مع الجانب الفلسفي غير السهل من كتاباته الفلسفية. ومن خلال دوشيه، على أي حال، ثمة في هذا الفيلم جزء من تاريخ مجلة «دفاتر السينما» التي كتب فيها دوشيه وتعتبر بدورها جزءاً أساسياً من تاريخ السينما والسينيفيلية الفرنسيتين، وبالتالي تاريخ «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية...