أشار ياسر الزعاترة في مقاله صفحة "أفكار" في 21/12/1998، إلى أزمة "الجماعة الإسلامية" في مراجعة موقفها من العنف. وتساءل هَلْ سر التحول في سلوك "الجماعة" مرتبط بالفتوى، أي بالحكم الشرعي الذي استندت إليه أم بالجدوى، أي باكتشاف عدم القدرة على تحقيق منهج العنف في الواقع؟ والسؤال مهم لأن مسألة تراجع "الجماعة الإسلامية" عن ممارسة العنف، إذا كان يرجع إلى اكتشاف خطأ في الفتوى أو الحكم الشرعي، فإن هذا يعني أن مسألة مراجعة العنف هي مسألة مبدئية وليست لحظية أو ظرفية، أما إذا كانت مرتبطة بالواقع وعدم جدوى ممارسة العنف لعصيان الواقع على الاستجابة مع منهج العنف، فإن ذلك يعني أن المسألة لحظية أو ظرفية وحين تتغير الظروف فإن "الجماعة الإسلامية" ستعود إلى ممارسة العنف. وفي الواقع لا يمكن الفصل أو التمييز بين الفتوى والجدوى، أو بين الحكم الشرعي والواقع الذي يطبق فيه هذا الحكم. وهناك باب كبير في أصول الفقه يرتبط بما يطلق عليه فقه التنزيل - أي تنزيل الحكم أو الفتوى أو المدرك الشرعي مجرداً على واقعه الذي يطبق فيه. وحين لا يكون الواقع قابلاً لتنزيل الحكم عليه لاختلاف مناطه ومفرداته عن ما يقصده الحكم أو حين يكون الواقع قابلاً لتحقق الحكم لكن بلا جدوى وبلا مقصد، فإنه لا يصبح صالحاً للتنزيل على الواقع. أي أن الجدوى تمثل مطلباً مهماً لدى الفقيه الذي ينزل الحكم الشرعي على الواقع ليقول بأن هذا الحكم مناسب لذلك الواقع أم لا. وعبّر الفقهاء والأصوليون عن الجدوى بالقصد أو الغاية، فهناك جدل حقيقي بين الفتوى والواقع الذي يمثل المقصد أو الجدوى أو الغاية. وهنا فإن مسألة الخروج على الحاكم هل هي حلال أم حرام، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجدوى أو المقصد أو ما يطلق عليه الفقهاء والأصوليون "تحقيق المناط". وفي الفقه الإسلامي التقليدي تأكد الجدل بين الحكم الشرعي في هذه القضية، وبين الجدوى أو الغاية أو المقصد الذي يرمي إليه هذا الحكم الشرعي. أي أن مسألة الحل أو الحرمة لا تنفصل بحال عن الجدوى أو الغاية أو المقصد وتصبح قضية الجدوى عنصراً مهماً من عناصر تخريج الحكم الفقهي أو الشرعي بالحل أو الحرمة. وبمراجعة الفقه الإسلامي في قضية الخروج على الحاكم المسلم نلحظ ثلاث مدارس كبرى، تؤكد في تطورها العلاقة بين الفتوى والجدوى، المدرسة الأولى يمثلها ابن حزم بشكل أساسي في كتابه "الفصل في الملل والنحل"، حيث يؤكد الخروج على الحاكم مع أقل الظلم، حتى ولو قُتلت نفس واحدة. وهذه المدرسة تستند إلى المثالية التي قدمها الحسين بن علي، في خروجه على يزيد بن معاوية، إذ أنه خرج مع أنه كان بإمكانه أن لا يخرج، واعتبر هؤلاء الحسين إمامهم وهم يرون أن فعل الصحابي يقوم حجة يستند إليها. لكن أصحاب المدرسة الثانية، ويمثلها ابن تيمية والجويني إمام الحرمين، يتحدثون عن المصالح والمفاسد ويجيزون الخروج على الحاكم المسلم إذا كانت المصلحة في الخروج عليه تغلب على المفسدة. وتستند هذه المدرسة في الواقع إلى الذين عارضوا الحسين في خروجه مثل عبدالله بن عمر، إذ رأوا أن الواقع في العراق لا يصلح لخروج الحسين أي أن خروجه خطأ، لا باعتبار خطأ الفتوى أو الحكم الشرعي وإنما باعتبار عدم ملاءمة الواقع أو عدم الجدوى بتعبير الزعاترة. ومسألة الصالح والفاسد هي في الواقع تأكيد للجدل بين الحكم الشرعي أو الفتوى وبين الجدوى، بل إن الجدوى تصبح في ذاتها جزءاً من الحكم الشرعي ذاته بحيث لا يمكن القول إن هذا حلال أو حرام، إلا إذا كانت هناك جدوى من ممارسته. أما إذا لم تكن هناك جدوى أو تحققت مفسدة، فإنه لا يمكن القول بأن الخروج على الحاكم حلال أو حرام. أي أن الجدوى أو المصلحة هي جزء من تخريج الحكم باعتبار أن الحكم تحول إلى خطاب شرعي تكليفي تبنته فئة معينة أو جماعة معينة، أي أنه بتعبير آخر انتقل من حال المطلق الى حال النسبية ومن حال السكون إلى حال الحركة. ونقصد بالنسبية هنا - أي تحققه في حال محددة ذات مواصفات معينة تتم معرفتها باستقراء الواقع، ومن ثم فإن الفتوى أو الحكم مختصة بهذه الحال تحديداً وحين تزول فإن الحكم يعود الى إطلاقه وسكونه. المدرسة الثالثة في الفقه الإسلامي التقليدي ذهبت إلى إدعاء إجماع على عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم. وفي الواقع فإنه بمتابعة التطور الفقهي لقضية الخروج نجد أن الجدوى أو الواقع كانت جزءاً من هذا التطور. فتكسر حالات الخروج في الخبرة الإسلامية وعدم نجاح معظمها أديا إلى أن يراجع الفكر الإسلامي والفقهي موقفه من الفتوى بحيث نجده أدخل عامل الجدوى أو المصلحة والمفسدة ثم انتهى الى المنع تباعاً أخذاً بقاعدة سد الذرائع. الغاية أو الجدوى هنا جزء من الإجماع الذي انعقد بعدم الخروج على الحاكم في مرحلة متأخرة من التاريخ الإسلامي. ولست أظن أن المشكلة متصلة بالحكم أو الفتوى بقدر اتصالها بالواقع، فكلما استطاعت الحركة الإسلامية الغوص في الواقع وفهم مشكلاته وقضاياه، أدى ذلك الى نوع من الرشد في التعامل معه. وفي الواقع، فإن الحركة الإسلامية في مصر وسورية والجزائر في بدايات تكونها كان ارتباطها أكثر بالفتوى أو الحكم الشرعي من دون إدراك كاف لجدلية العلاقة بين هذا الحكم وجدواه أو قبوله لتحقق مناط الحكم. وهنا تجب الإشارة الى نقطة في غاية الأهمية، وهي: هل الفتوى أو الحكم الشرعي في قضية قطعية أم قضية اجتهادية؟ أو بلغة أخرى هل الحكم الشرعي في مسألة ثابتة لا تتغير أم في قضية متغيرة بطبيعتها، ومن ثم فهي مفتوحة للاجتهاد وبخصوصها ليصبح الاجتهاد في شأنها أمراً واجباً ويصبح الاجتهاد مطلوباً في كل حال على حدة، ومن ثم فهو يتلون بطبيعة الواقع والعصر؟ وهناك اجتهادات حول مسألة الخروج من منظور معاصر، نراه خروجاً بوسائل سياسية وليس عبر القوة المسلحة، فإذا كان مفهوم الخروج في الفقه التقليدي يتبنى مقولة "إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى"، فإن الفقه المعاصر يتبنى مقولة "إن السياسة هي الحرب بوسائل أخرى". هنا لا يكون السؤال هو هل الخروج حلال أم حرام؟ بل يكون هل توجد أشكال أخرى للخروج تختلف عن الصيغ والأشكال القديمة التي عرفها السلف؟ أي هل يمكن اكتشاف صيغ جديدة يتيحها العالم المعاصر يمكن أن تحقق الجدوى من الخروج من دون استخدام الاشكال القديمة نفسها؟ وهذه هي المعضلة الحقيقية، وأظن أن اجتهاداً ضرورياً مطلوباً في هذه الناحية، وهذا الاجتهاد لا يخص جماعة بعينها وإنما هو متصل بالحركة الإسلامية المعاصرة جميعها، لأن هذا الاجتهاد الجديد لا يرتبط بالحكم الشرعي قدر ارتباطه بالواقع الذي تعيشه الحركة الإسلامية. وهناك ما أطلق عليه "الاجتهاد السياسي" وفي هذا النوع من الاجتهاد نجد أن الواقع هو الأساس في تخريج لأحكام، ومن ثم فإن المجتهد هنا لا ينطلق من الحكم الشرعي أو الفتوى وإنما ينطلق بالأساس من الواقع حيث يكون فهمه هو المدخل الحقيقي لتحديد كون المسألة حلالاً أو حراماً. فالمسألة هنا هي مسألة منهج في التعامل مع الواقع. وإحياء منهج الانطلاق من الواقع عبر فهمه لتخريج الفتوى في ما يتصل بالقضايا المتغيرة، هو نقلة نوعية كبيرة في فكر الحركة الإسلامية تحتاج إلى جهد كبير في تعميمها. يتصل بهذه القضية ما أطلق عليه "حد القدرة أو الاستطاعة" في اعتبار التكاليف الشرعية ملزمة، فلا يوجد تكليف إلا إذا كانت هناك استطاعة أو قدرة على تحقيقه. ومسألة التأكد من تحقق القدرة، هي أمر مرتبط بالواقع وفهمه بشكل صحيح. والمؤكد هو أن التلبس في العنف يرجع بشكل أساسي الى القفز على الواقع وعدم تقديره تقديراً صحيحاً في حالة ذهنية تقصد لذلك مقصداً من أجل الانخراط في عمل عنيف. وهنا فإن إشاعة "فقه الواقع" بين المنتسبين الى الحركة الإسلامية هو جزء من التخلص من حال العنف وعدم الانخراط فيها، بيد أن المهم من جانب الدولة هو التخلي عن حساسيتها إزاء الاتجاه الإسلامي والسماح له بالتعاطي مع واقعه بشكل سلمي، لأن المسألة ليست مرتبطة بموقف من الحكم الشرعي قدر ارتباطها بموقف نفسي من الواقع ثم البحث عن أسانيد للتعامل معه. الشباب يصدم حين تعامله مع واقع عالمه العربي، وحين يرتد الى ذاته فإن أحد المخارج أمامه يتمثل في العودة الى التراث الفقهي لمعرفة المخرج للتعامل مع هذا الواقع، فالمشكلة في الأساس على مستوى الجماعة الإسلامية أو مستوى الدولة تنطلق من الواقع. وحين تعود الجماعة لإعادة فهم الواقع، فإن على الدولة من جانبها هي الأخرى أن تصلح هذا الواقع أو تسمح لهذه الجماعات أن تعبر عن ذاتها منعاً للحالات التي ستتجه الى العنف مدفوعة بأسباب متصلة بالواقع أكثر من اتصالها بالحكم الشرعي. * كاتب مصري.