تعكس الأزمة التي تعيشها الجماعة الاسلامية في مصر واقعاً تعيشه فصائل في الحركة الاسلامية منذ زمن طويل، وسيبقى ما دامت هناك حركات تطرح شعار التغيير انطلاقاً من المشروع الاسلامي. ويتركز الجدل عادة في التساؤل حول افضل السبل لإحداث التغيير المطلوب، حسب الادبيات النظرية. وتزداد حدة السؤال في الاوساط الاسلامية كلما مني مسار معيّن اختطته هذه الحركة او تلك بالفشل في مواجهة الواقع، وهو الفشل الذي سيرتد، كما جرت العادة، هجوماً وانتقادات للقيادة التي واكبت الفشل، ثم مطالبات باعادة النظر في المنهج الذي استخدم في سياق التغيير. ولعل من الواضح ان التقويم اللاحق، سواء كان على صعيد الدول ذات المشاريع النهضوية، ام على صعيد الحركات، لا يكاد يفرّق بين الهزيمة الناتجة عن اختلال في ميزان القوى، وبين تلك الناتجة عن خطأ في المنهج الذي بُنيت حركة التغيير على اساسه، او الناتجة عن خطأ في الفعل والتقدير والقيادة. في "الجماعة الاسلامية" المصرية ثمة ما يشبه "الاجماع" على ان المسار القائم قد ارتطم بجدار الواقع، ولم يعد ثمة افق في الاستمرار بذات الطريق. وبالطبع تبدأ هنا الخلافات حول تقويم التجربة والرؤية في التعامل معها. رسالة الشيخ عمر عبدالرحمن الاخيرة كانت ذروة التصعيد في الازمة الداخلية على صعيد الجماعة، فقد انحاز الرجل الى خيار القادة السجناء في مصر، وصار ثمة ما يشبه الاتفاق على جملة من القضايا اهمها وقف العنف والعودة الى الدعوة، الى جانب قضايا اشكالية جديدة مثل رفض جبهة بن لادن لقتال اليهود والصليبيين. بعض قادة الخارج لم يعترف صراحة بالازمة كما هي حال رفاعي طه الذي رأى ان استراتيجية الجماعة ثابتة ولم تتغير وهي "الدعوة الى الله بالطرق السلمية"، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… وكذلك الجهاد". وحسب الرجل نفسه فان "الجهاد وسيلة غايتها نصرة الدين وعلو كلمة الاسلام، واذا تحققت نصرة الدين وعلو كلمة الاسلام بالدعوة الى الله، فقد كفى الله المؤمنين القتال". منتصر الزيات محامي الجماعة الاسلامية كان اكثر "قسوة" في التعبير عن الازمة حين قال:"الجماعة مُنيت بهزيمة عسكرية وعليها تحمّل عبء كبير يتمثل في ادارة المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الى عائلات 30 ألف معتقل اسلامي". في قراءة هذه الرؤى، يمكن الاشارة الى ان حديث الزيات عن هزيمة عسكرية يعكس قناعة لدى الجماعة، وربما لدى الزيات نفسه، انه كان ثمة معركة بين الجماعة والدولة، وكان ثمة احتمال لفوز الطرف الاول فيها. اما حديث رفاعي طه، فيعكس ايماناً باستمرار "الجهاد" كمسار في اعلاء كلمة الاسلام ونصرة الدين، وان تركه انما يكون بسبب توفر مسار اسهل في تحقيق الهدف هو الدعوة الى الله، مع ان رفاعي طه يدرك تماماً ان مسار الدعوة حتى لو فتح مجاله، كما يطالب، لن يحقق دولة اسلامية وفق الشروط النظرية المطروحة في ادبيات الجماعة. من هنا يبدأ السؤال الجوهري الذي تركز عليه هذه السطور، وهو، هل سر التحوّل هو "الفتوى ام الجدوى؟". هل ان مسار العنف والخروج على الحاكم هو حرام شرعاً، ام ان تركه انما يعكس الايمان بعدم جدواه في الظرف الراهن؟! في مناقشة هذه القضية يمكن القول ان خلفية المنهج لدى الجماعة الاسلامية التي اشتغلت بالعنف، كانت اما سلفية او اخوانية وفي الحالين ثمة خلاف في الرؤية يعطي الفرصة للاجتهاد بتبني العنف او سواه. والحقيقة ان فقه اهل السنة والجماعة بشكل عام، كان وما يزال يحتمل الذهاب في اتجاه العنف، كما يحتمل رفضه، مع ان الفقه القديم كان يختلف عن المذهب الشيعي في هذه النقطة. فقد ركّز علماء المسلمين على مسألة وحدة المسلمين كمسار يجري تهديده بفكرة الخروج على الحاكم. وقد جاءت جملة من النصوص النبوية لتؤكد هذا الاتجاه في رفض الخروج على الحاكم المسلم، وهي الادلة التي يستخدمها بعض العلماء الآن كما استخدمت من قبل. في المقابل فان مؤيدي العنف يملكون ادوات للرفض سواء استخدموا قصة "الحاكمية لله" التي تحدث عنها سيد قطب، ورأى البعض انها من عناصر التوحيد، فيما رفضها بعض علماء السلفية اخيراً، ام كانوا ينطلقون من الرؤية السلفية، ويناقشون في ان النصوص النبوية لا تصلح للتنزيل على حكام هذا الزمان. وفي هذا تفصيل لا يحتمله المقام. "الاخوان" من طرفهم رفضوا فكرة تكفير الحكام والخروج عليهم كما في كتاب حسن الهضيبي "دعاة لا قضاة"، غير انه يبقى من العسير القول ان الكتاب المذكور حسم القناعة من وجهة نظر فقهية. فبين علماء الاخوان من يرى جواز الخروج اذا توفرت شروطه، ويتبنى نظرية "الجاهلية" الشهيرة لدى سيد قطب. المسألة اذن هي الجدوى وليس الفتوى، وهذه مسألة اكتشفها "الاخوان" مبكراً في الحالة المصرية غير انهم تورطوا فيها لاحقاً في الحالة السورية، فيما اخذوا في المرحلة الاخيرة في صياغة تنظير متماسك لمسألة اللاجدوى. ويقوم هذا التنظير على جملة قضايا اهمها: - وجود الدولة القطرية التي لا تحتمل التفرد في محيط رافض، قد يكون عربياً واقليمياً ودولياً في آن معاً، وهو ما يشير الى العامل الخارجي الذي سيتدخل ضد دولة من هذا النوع، ومثال السودان حاضر في الاذهان. - قوة الدولة الحديثة، من حيث الجيش والاجهزة الامنية القوية، وثورة اجهزة التجسس، وغياب امكانية العمل السري. - عدم نضوج العامل الداخلي الذي يكفي لقيام ثورة شعبية تكسر ميزان القوى المختل مع جهاز الدولة الداخلي، بفرض نضوج العامل الخارجي، وهو افتراض غير متوفر اصلاً. - الآثار المدمرة للعنف على بنية المجتمع وتماسكه، خصوصاً في وجود صراعات خارجية، كما هي الحال مع الدولة العبرية. في سياق اكتشاف "لا جدوى" العنف تمكن الاشارة الى جبهة الانقاذ في الجزائر كحالة جديدة، وصولاً الى "الجماعة الاسلامية" وليبقى تنظيم "الجهاد" المصري وتفرعات الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر. غير ان ذلك كله لا يمكن ان يدفع الى القول ان الجماعات التي رفضت العنف قررت الانتظار ريثما تنضج ظروف افضل لممارسته، فالمسألة بالنسبة الى اكثرها باتت تقوم على التعامل مع الواقع كما هو بالابقاء على ما تيسر من مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحمل الاذى ان وجد مقابل ذلك، من دون التورط في رد عنيف. على صعيد ردة فعل الدول تجاه الظاهرة المذكورة، فان من المفيد الاشارة الى ان وجود امثال الجماعة المسلحة في الجزائر واصرار "الجهاد" في مصر على العنف، يدفع الى القول ان على الدول التي تواجه مشاكل من هذا النوع الا يأخذها "الزهو" بانتصارها على الجماعات الاسلامية، فمن زاوية تبدو امكانية استمرار النزيف مستمرة نظراً لوجود امكانية دائمة لظهور جماعات عنيفة صغيرة، حين تحرم الاكبر منها من حرية الحركة والتعبير، ومن زاوية اخرى فإن عناصر الجماعات الاسلامية هم جزء من المواطنين الذين لا ينبغي التعامل معهم كخارجين عن القانون ما داموا يتوسلون ادوات مشروعة "قانوناً" في تبليغ افكارهم. * كاتب أردني