واقع الأمة الإسلامي في تغير مستمر في ظل تطورات متلاحقة وسريعة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً مما يجعل الفقيه أو القاضي يواجه قضايا فقهية مستجدة متكاثرة، وآنية تهم المسلمين في هذا الوقت بالذات، فلو نظرنا إلى الكتب الفقهيه السابقة نجد أن علماءنا وفقهاءنا السابقين اجتهدوا وأفادوا في عصرهم وعصر من بعدهم إلى يومنا هذا فجزاهم الله خير الجزاء، وهنا يرد إلينا ثمة عدة تساؤلات، هل التجديد ضرورة حياتية في المجالات الأخرى وترك ذلك في المجال الفقهي؟ وهل سوغ لمن لم تكن له دراية بعلوم الشريعة أن يجتهد في الشريعة وكذلك لمن لديه علوم بالشريعة وليس لديه إلمام بالعلوم الأخرى؟ ثم هل يمكن تيسير الفقه للناس فهماً وعرضاً لغة ومحتوى واصطلاحاً، حيث انه ضرورة في عصرنا الذي تطورت فيه أساليب الكتابة وتشعبت فيه القضايا الفقهية الآنية؟ وهل يمكن تقنين الشريعة بمعنى تحويل الأحكام الشريعة إلى مواد قانونية؟ دعونا نقف على الآراء التي شاركنا فيها عدد من المشايخ. يظهر لنا جلياً أن الفقه متطور الآحاد وإن كان ثابت الأساس والبنيان، يلزم صاحبه والمتفقه بمعرفة حاله وواقعه بل واستشراف مستقبل لتكون أحكامه متوافقة مع المقاصد الشرعية والمعاني الجليلة التي حث عليها الشرع الحكيم.. والناظر في الكتابات الفقهية والأصول الفقهية يقطع بأن الفقه الإسلامي قد خدم خدمة جليلة قلّما تتوافر لفن من الفنون الإنسانية الأخرى، ولذا فإنه من الأفضل تحديث الفقه وتطويره في هذا الزمن، هذا ما قاله عدد من المختصين ل(الرياض): ويقول د.عبدالسلام بن محمد الشويعر أستاذ الفقه المقارن بكلية الملك فهد الأمنية: يمكننا ذكر بعض خصائص التفكير الفقهي العصري فيما يلي: - تتميز الدراسات والكتابات الفقهية المعاصرة بأنها استفادت من طريقة القانونيين في طرق المواضيع الفقهية، وآليتهم في ترتيبها، ويظهر ذلك في أكثر من مسلك، كالكتابة في النظريات الفقهية كنظرية العقد، والملكية، والمال وغيرها من الكتابات ومن أوائل من طرق هذا الباب الشيخ محمد أبوزهرة رحمه الله وبعض العلماء المعاصرين له كالشيخ علي خفيف، ومحمد سلام مدكور وغيرهم من الفقهاء المعاصرين. - أيضاً نجد ذلك واضحاً في المقارنات التشريعية بين الفقه الإسلامي والأنظمة الوضعية، ومن أوائل من كتب في ذلك الشيخ مخلوف حسين في أواخر القرن الثالث عشر في كتابه (المقارنات التشريعية)، ثم تُبع على ذلك حتى غدا هذا المسلك طريقة في الدراسة في بعض الأقسام التشريعية في العديد من الجامعات الإسلامية. - من خصائص هذه الحقبة طريقة الاجتهاد حيث ظهرت طريقة في الاجتهاد لم تكن واضحة قبل ذلك بهذا الجلاء وهي طريقة (الاجتهاد الجماعي)، حيث يجتمع عدد من فقهاء الشريعة ليتدارسوا موضوعاً ما ويخرجوا بتوصية نحوه، وقد تعددت المجامع العلمية ودور الافتاء التي تعمل بهذه الطريقة في العالم الإسلامي، ولعل هذا الأمر أملاه واقع الحياة العصرية من جانب العالمية وسرعة الاتصال من جانب، ومن آخر تعدد المسائل وتنوعها وتجددها بحيث يصعب أحياناً الاجتهاد الفردي. - كان للتقنية وتطور وسائل الطباعة والنشر أثرها في تعدد وإثراء المراجع الفقهية للباحث والفقيه، فغدا المطالع للبحوث والدراسات الفقهية الحديثة يرى تنوع المراجع العلمية التي رجع إليها الباحثون من شتى المدارس الفقهية حتى من غير المدارس المشهورة، أو الكتب المعتمدة، ولا شك أن لهذا الأمر أثره البارز في إثراء ثقافة الفقيه، وإطلاعه على الآراء المتعددة في المسألة الواحدة مما يوسع مداركه. - لعل من الملاحظات الواضحة بسبب هذا التوسع في نشر الإنتاج العلمي بروز بعض التعليلات والتبريرات التي كانت محصورة في مدارس فقهية معينة نلحظ توسع التعامل بها والاستفادة منها، وذلك مثل (المصلحة) وهي أمرٌ كان يعلل به فقهاء المالكية والحنابلة فقط دون غيرهم. ولا شك أن هذا يعدُّ تطوراً في الدراسات الفقهية تميزت به الدراسات الفقهية في هذا الوقت، بحيث لا يقتصر التعليل على القياس على السوابق الفقهية، أو تخريج فرع على فرع آخر بالتعبير الفقهي. وقال د. الشويعر: وبذا يظهر أن الفقه بطبعه متجددٌ لا في آحاد مسائله، أو في طريقة عرضه، أو في أسلوب الدراسة أو التدليل. وليس معنى التجديد فيه أن يتم إطراح ما كتبه علماء خمسة عشر قرناً كانوا يعدون أذكى أهل عصرهم بحجة طلب التجديد ومواكبة العصر، ولا شك أن هذه الدعوى إنما تصدر ممن لم يطالع كتابات الفقهاء ويعايشها، ويقدح زناد فكره في تأمل كلامهم، فكم من مغاليق قد فُتقت، وصعاب قد رقيت من أجل هذا الأمر. والمطالع للكتابات الفقهية قديمها خصوصاً يرى عجباً لما يسَّر الله لأولئك القوم من التوفيق والفتوح، حتى إن المطالع ليظن أنما عُنوا بقول القائل (هل غادر الشعراء من متردم). لذا فإن كبار الفقهاء لم يعنوا بالرفوع الفقهية سرداً فحسب، وإنما تخريجاً على القواعد العامة في الشريعة؛ كما قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (أعرف الأشباه والنظائر ثم قس الأمور بعد ذلك). ومن دقة نظرهم أنهم وجدوا أن الشرع الحكيم قد أطلق كثيراً من الأحكام ولم يَنُصَّ عليها، وليس معنى ذلك خلوها من حُكم كما قال الفقيه الشافعي الجويني في مقولته المشهورة: (وقد عُلم أن نصوص الشريعة لم تف بعشر معشار الأحكام). وكان عدم النص على هذه الأحكام من رحمة الله تعالى لحِكَم متعددة جداً؛ منها فتح باب الاجتهاد لأهل العلم والفقه ليكون باباً من أبواب الطاعات، ومنها ابتلاء بعض الناس وامتحانهم بذلك ليُعرف الممتثل من المعاند، ومنها إناطة بعض الأحكام بأزمان الناس. ويقول د. الشويعر: ولعلي أقف مع الأمر الأخير بعض الشيء وهو مسألة (إناطة بعض الأحكام بأزمان وأعراف الناس) فإن كثيراً من الأحكام قد أناطها الشارع بأعراف الناس وحاجاتهم لذا فهي تتغير من زمان لزمان ومن مكان لآخر. وما أجمل كلمة قالها الفقيه الحنفي ابن عابدين عندما ذكر أن الفقيه ربما كان حافظاً لكتب ظاهر الرواية الستة وهي الكتب المعتمدة عند فقهاء الحنفية، ثم إذا دخل بلداً فإنه يمنع من الفتوى فيها حتى يعرف عُرفَها. لذا فإن كثيراً من الأحكام يمنع المرء من الحديث عنها حتى يتصور جوانبها؛ لذا تقرر عند الفقهاء جميعاً (أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره) فلا بد للمتصدر للتعليم والفتيا أن يتصور المسائل ويستوضحها ليصح حكمه بعد ذلك، وذلك بعد أن يكون عالماً بأحكام الشرع ونصوصه ومعانيه؛ وقلما يوجد دخلٌ في رأي إلا بسبب أحد هذين الأمرين، إما عدم فهم صورة المسألة وواقعها، أو عدم فهم النصوص فهماً صحيحاً. لذا عُدَّت معرفة (فقه الواقع) أصلٌ لصحة الفتوى والاجتهاد الفقهي، وشرطٌ لاستقامتها، ونصوص الفقهاء في ذلك كثيرة جداً، ومما يدلنا على أهميته عندهم أنهم أناطوا به كثيراً من المعاني التي ترجع لها أصول الاستنباط، وذلك من جهات متعددة فالقياس لا يصح إلا بمعرفة الفرع المرغوب قياسه وحقيقته وصورته. والضرورة والحاجة التي تترك لها بعض الأحكام يوكل تقديرها للفقيه. والعرف والعادة التي بُني عليها العديد من الأحكام إنما تعرف مما يسمى بفقه الواقع. بل أحياناً يطالب الفقيه بالزيادة على معرفة الواقع والحال وذلك باستشراف المستقبل وتوقعه وذلك عند نصره في المصالح والمصلحة المرسلة، وتقديره لسدُ الذرائع وغيرها من الأمور. إذن يظهر لنا جلياً أن الفقه متطور الآحاد، وإن كان ثابت الأساس والبنيان، يُلزم صاحبه والمتفقه بمعرفة حاله وواقعه، بل واستشراف مستقبل لتكون أحكامه متوافقة مع المقاصد الشرعية، والمعاني الجليلة التي حثَّ عليها الشرع الحكيم. والناظر في الكتابات الفقهية والأصولية الفقهية يقطع بأن الفقه الإسلامي قد خُدم خدمة جليلة قلما تتوافر لفن من الفنون الإنسانية الأخرى (غير التطبيقية) حيث كان أذكياء الأعصاء على مر أربعة عشر قرناً يتوجهون لهذا الفن، فيدرسونه، ويطورونه بحسب ظروف عصرهم، ولعل ذلك مصداق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). ويقول الشيخ محمد بن عوض الشقيفي - محاضر بجامعة الملك سعود: يسرني أن أتحدث عن سعة الشريعة وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وأنها لا تهمل الواقع بل تهيمن عليه لاتسامها بالعمومية والشمول وهذا البحث سوف يكون في قواعد الهدف منها إبراز بعض المظاهر التي تثبت أن الشريعة تراعي الواقع وتصلح لكل زمان ومكان وقبل البدء في ذكر هذه القواعد أقول ما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب. القاعدة الأولى: أن الشريعة الإسلامية منهج حياة متكامل ولهذا قال الله عزَّ وجلّ: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت} ففي هاتين الآيتين يخبر الله عزَّ وجلّ أن صلاتنا وعبادتنا أو ذبائحنا على المعنيين في قوله ونسكي وأن محيانا كله ومماتنا على شريعة الله فنحن بالنية نستطيع أن نحول عاداتنا إلى عبادات، وهذا من باب ربط الفقه بالواقع فأكلنا وشرابنا إذا نوينا به التقوي على طاعة الله انقلب إلى عبادة نؤجر عليها، وكذا كل مباح إذا لم يستغرق فيه صاحبه ينقلب بالنية الصالحة إلى عبادة يؤجر عليها. قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجْرتَ عليها حتى ما تجعل في فَيِّ امرأتك». القاعدة الثانية: من الملاحظ أن باب المعاملات من بيع وشراء ووكالة وضمان وكفالة وغيرها باب واسع اعتنى به الفقه الإسلامي عناية كبيرة وضبط بضوابط عظيمة جعلته مناسباً للواقع في كل عصر ومكان، فالملاحظ أن هذه الأبواب - أعني أبواب المعاملات - ذات مسائل متجددة فجاءت ضوابط الشريعة الإسلامية وقواعدها لتراعي هذه الأمور من ذلك إن القاعدة الشرعية المعروفة في هذه الأبواب أن الأصل في المعاملات الإباحة ولهذا على من ادعى تحريم معاملة ما أن يأتي بالدليل. قال الله عزَّ وجلّ: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}. وهذه الآية سيقت في مجال الامتنان فعلم من هذه الآية هذه القاعدة ولهذا لا تكون المعاملة مُحرمةٌ في أبواب المعاملات إلا بواحدة من علل ثلاث: أولاً: الربا لعموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. ثانياً: الظلم لعموم الآيات الدالة على تحريمه والأحاديث الدالة على ذلك ومنها حديث أبي ذر رضي الله عنه في صحيح مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم في ما يروي عن الله عزَّ وجل إن الله قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا». ثالثاً: الغرر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر إذا علم هذا تبين إن فقهنا مواكب للواقع لهذا كانت أطول آية في القرآن آية المداينة وهي في المعاملات كما هو معلوم للجميع، وقد قال بعض أهل العلم إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عزَّ وجلّ لأن ما يعطيه الإنسان لغيره يعد قليلاً غالباً بالنسبة لما عنده ومع هذا استحب لنا كتابتها فكيف بعملنا طاعة لله عزَّ وجلّ الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل. أما ما يتوهمه بعض الناس من أن الشريعة في مجال العبادات دون المعاملات مستدلين بذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور ديناكم فإن فهمهم لهذا الحديث فهم خاطئ في الاستدلال إذا لم يكن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم ما فهموه وإنما كان مقصده والعلم عند الله صلواته وسلامه إن هذا في مجال الحرف والصنعة لا مجال في تطبيق الحكم الشرعي على الواقع وتنزيله عليه والفرق بين الأمرين فرق واضح جلّي فإن مسألة عمل الشيء وصنعه شيء وتنزيل الحكم عليه شيء آخر، والذي عناه عليه صلوات الله وسلامه مسألة الحرف والصفة لا مسألة الحكم عليها. القاعدة الثالثة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال امر اعتنت به الشريعة كثيراً وجاء عن سلف الأمة ومن سار على نهجهم واقتفى اثرهم بأحسان ولهذا عقد الإمام ابن القيم رحمه الله فصلاً كاملاً في تغير الفتوى والشاهد من هذا كله ان تغير الفتوى ليس لكل احد بل يكون من اهل العلم لغيرهم حسب ما تقتضيه المصلحة وفق ضوابط الشريعة مقتفين في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مستشيرين في ذلك اهل العلم في كل تخصص بحسبه فالعالم بالشريعة يستشير الطبيب في تخصصه لتنزيل الفتوى على امر طبي متجدد وهكذا. ومما يؤكد هذه القضية اعني تغيير الفتوى حسب الواقع بالضوابط السالفة الذكر ما حدث عن ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما حيث جاؤه برجل فسئل هل للقاتل من توبة فأفتاه بن ليس للقاتل من توبه وجاؤه رجل آخر فسأله السؤال نفسه فأفتاه بأن للقاتل توبة فلما سئل عن السبب وتفريقه في الفتوى بين الشخصين ذكر انه وجد احدهما يتطاير الشرر من بين عينيه فسأله هذا السؤال فأفتاه بأنه ليس للقاتل من توبه وأما الآخر فإنه كان ذا نفس مطمئنة فأفتاه بما يقتضي حاله وهو معتقد هل السنة والجماعة وهو ان القاتل يظل مسلماً اذا لم يكفر بالله عز وجل وإذا لم يستحل هذا الذنب ولهذا سمى الله القاتل اخاً ولهذا قال الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. فلاحظ تغير الفتوى بين هذين الشخصين من هذا الحبر العظيم، وإذا تأملت ايضاً مسألة الولاء والبراء تجد ان تطبيقها يخفى على كثير من الناس بمعنى ان هناك من الناس من يظن ان الولاء والبراء معناه اجتناب معاملة الكفاء نهائياً وهذا في الحقيقة لا يفهم نصوص الشرع فإن التعامل مع الكافر سواء كان معاهداً او ذمياً او مستأمن مما جاءت به الشريعة وأولفت فيه الكتب وكذلك مسألة اظهار المحبة للكافر اظهاراً فقط دون ان تستولي محبته على القلب او تتمكن منه جاء جوازه في كتاب الله عز وجل كما في سورة آل عمران كما في قوله عز وجل {لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منه تقاة}. فتأمل هذا المعنى الجلي تجده واضحاً في جواز موالاة الكافر اذا خفنا شره دون الموالاة الباطنة وتعلق القلب به والشاهد من هذا كله ان شريعة الغراء اعتنت بالواقع عناية كبيرة في تطبيق الاحكام الشرعية عليه وعلماؤنا في هذه البلاد حفظها الله يهتمون بهذه الناحية كثيراً الا اننا نحتاج الى المزيد من العناية بهذا الجانب والاستفادة من اصحاب التخصصات الأخرى في استشارتهم في بعض الأمور التي هي من اختصاصهم لتنزيل الاحكام الشرعية عليها ومراعاة تجدد المسائل بأن شريعتنا كما هو معلوم ذات ثروة كبيرة لا تنضب قال الله عز وجل {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقال النبي صلى الله عليه وسلم تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابداً كتاب الله وسنتي. اما الدكتور محمد الملا عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود واستاذ الفقه فيقول: إن الشريعة الإسلامية هي الشريعة التي ارتضاها الحق سبحانه وتعالى لعباده، من حين ان بعث بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم الى ان تقوم الساعة، وجعلها سبحانه خاتمة لجميع رسالاته، فأكمل بها بناء الشرائع، وكتب لها البقاء والدوام، فهي الشريعة الخالدة العامة التي لا يسمع احد الخروج عنها. قال تبارك وتعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}. (آل عمران:85). ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي احد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي ارسلت به، الا كان من اصحاب النار». (رواه مسلم). ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع وعليها تقوم الساعة؛ تكفل الله سبحانه بحفظ كتابه فقال جل وعلا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9). وقال تبارك اسمه: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 41 - 42). فهذه الشريعة محفوظة، وأحكامها شاملة، شملت امور الدين والدنيا، وارتبطت بشؤون الاقتصاد والحكم والسياسة، فهي شريعة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، وافية بمتطلبات العصور ومستجدات الحياة، جاءت بكل ما يحتاج اليه البشر على وجه يكفل لهم المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد في كل زمان ومكان، فهي ليست خاصة بأمة دون امة، او بعصر دون عصر، بل هي عامة للثقلين جميعاً الى قيام الساعة. ومما يوضح ذلك اننا نجد ان الشريعة عنيت بتفصيل ما لا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان، وما لا تختلف فيه مصالح الأمم على مر الدهور وذلك ما يرجع الى العبادات والاعتقادات والأخلاق، جاءت احكامها في هذا الجانب مفصلة؛ لأنها من الثوابت التي لا يمكن ان تتغير باختلاف الزمان او المكان، او تخضع لتغيرات الأحوال الى ان يرث الله الأرض ومن عليها. وأما ما يمكن ان تغير الزمان او المكان؛ كالمعاملات، وما يتصل بالحكم والسياسة، فنجد انه لم ينص على احكام جزئياتها الا في القليل النادر، وإذا تأملنا في هذا الذي نص عليه في هذا الأمر وجدناه ايضاً هو مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان، وما سوى ذلك وهو الأعم الأكثر - في هذا الأمر - فقد جاء على شكل اصول كلية وقواعد عامة رسمت للناس المعالم التي تؤدي بهم الى تحقيق المقاصد الدينية والدنيوية، والتي ترشدهم الى المصالح، فإذا وقعت النازلة اجتهد الفقيه في استنباط حكمها في ضوء مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة قائمة على رعاية المصالح. ويضيف د. الملا وعلم الفقه الذي يتعلق بأفعال العباد هو: احد علوم هذه الشريعة وهو يتناول الأحكام المودعة في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما اجمعت عليه امته من بعده، وهذه هي اصوله، فعلم (اصول الفقه) يبحث في هذه الأدلة وما يرجع اليها كالقياس ونحوه من طرائق الاستنباط، كما يبحث ايضاً في كيفية استنباط الأحكام من هذه الأصول، كما ويبحث في شروط المجتهد، وهو من له القدرة على استنباط الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنة. والقياس - وهو: إلحاق ما لم ينص على حكمه بما نص على حكمه في الحكم المنصوص عليه لاشتراكهما في علة ذلك الحكم - من اصول الفقه وهو من طرائق الاستنباط التي يعمد اليها الفقيه في تعريف احكام الله في المسائل الحادثة التي لا يجد لها حكماً منصوصاً في الأدلة النصية. وبهذا يتضح لنا ان الفقه متجدد ما تجددت حياة الناس، قادر على الوفاء ببيان الأحكام الشرعية في الوقائع المستجدة، ومواجهة التطورات في الحياة. وهذا بارز في كتب الفقه، ومما يجلي الأمر النظر في (باب التعزيز) فالفقهاء يعقدون في مؤلفاتهم - سواء كانت مختصرة ام مطولة - هذا الباب، وهو مما يحتاج اليه في مواجهة الجرائم غير الحدية - اي الجرائم التي لم ينص على عقوباتها - لأن هناك جرائم مثلاً لم تحدث في العصور الأولى ووقعت في هذه العصور المتأخرة، وهكذا قد يحدث في المستقبل ما لم يقع في هذا العصر، فالتعزير طريق شرعي لمواجهة هذه الجرائم التي لم ينص على احكامها، فالقاضي ينظر في الجريمة وملابستها، ثم يصدر فيها حكماً بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة، فهو في سبيل ذلك ينظر الى مدى انتشار هذه الجريمة في المجتمع، وينظر الى حال من وقعت منه الجريمة، هل هو ممن كثرت منهم الجرائم او لا؟ اذ ان من تكررت منه الجرائم وعوقب عليها ولم يرتدع، يستحق عقوبة اكثر ممن كانت هذه اول جريمة تقع منه، حتى ولو كانت الجريمة واحداً فالحكم في القضيتين يختلف في ضوء الملابسات الحافة بالجريمة وبمرتكبها، وهكذا يقع التفاوت لما تكون الجريمة منتشرة في المجتمع او لما تكون منحسرة، فإن العقوبة على مرتكبها اذا كانت منتشرة تكون اكثر مما اذا كانت الجريمة منحسرة في المجتمع؛ لأنه في حال انتشارها يراد الحد منها، وزيادة العقوبة طريق لتحقيق ذلك المقصد.