شهد عام 1998 الكثير من الاحداث والتحولات المهمة على صعيد الانتقال من الحلم الى الواقع في ما يتعلق بالوحدة الاوروبية. ولكن اكثرها اهمية اطلاق العملة الاوروبية الموحدة ال "يورو" بعد منتصف الليلة الاخيرة من العام الماضي. احدى عشرة دولة من بين الاعضاء ال 15 في الاتحاد ستنضم الى ال "يورو" مع بداية 1999 مدشنة المرحلة الاولى التي ستنتهي بجعل المواطن الاوروبي يتعامل بهذه العملة لقضاء حاجاته اليومية بحلول 2001. والشروط الصارمة لدخول نادي ال "يورو" شبهها البعض بقياسات "ملكة الجمال" الصعبة، اذ يفترض ان تحوز المرشحات على درجة رشاقة وتخسيس وزن قبل دخول المسابقة. بريطانيا وحدها لم تنظر الى هذا الامر من هذه الناحية لانها لم تتجاوز النقاهة من مرحلة المحافظين الطويلة، بما ترتب عليها من خلق هوة سياسية وفكرية ونفسية بين البريطانيين وبقية اوروبا يتعين ردمها قبل تقديم اوراق الاعتماد للنادي الاوروبي الموحد. ولم يكن توقيت الوحدة النقدية وحده عنصر الاثارة في المجال الاوروبي، اذ تزامن مع سلسلة من التحولات الهيكلية على المسرح السياسي للقارة جاءت بحكومات اشتراكية - ديموقراطية في غالبية الدول الاوروبية، على انقاض مرحلة سيطرت فيها احزاب اليمين على مقاليد السلطة في العواصم الاوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فمن اصل 15 دولة اوروبية هناك 13 تحكمها الاشتراكية المتحالفة مع الخضر او الشيوعيين. وهذا ما اضفى على مشروع الوحدة النقدية طابعاً يسارياً جلياً. واليسار الاوروبي الذي جدد لنفسه وعاد بحلّة اجتماعية جديدة واقتراحات عملية لتجاوز اشكالات الخيار الاشتراكي التقليدي الذي نما في ظل شكوك بانه محاولة للعودة الى الماضي، هذا اليسار تحرر من شعارات الحرب الباردة وطرح خياره الجديد الذي يعرف ب "الطريق الثالث" كحل للالتباس الايديولوجي التاريخي والاقتصادي، في ظل واقع جديد عناوينه: العولمة وتحرير التجارة والمنافسة العادلة والديموقراطية الاجتماعية. "الطريق الثالث" الذي بدأ منذ منتصف عام 1998، بريطاني الطابع اكتسب ملامح اوروبية متزايدة منذ منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بعد مجيء الاشتراكيين الى الحكم في المانيا. ونجح التنسيق بين لندن وبون في ارساء اساس مشترك لمعالجة القضايا الاشكالية الضاغطة على الاقتصاد والبنىة التحتية وتحديداً اطلاق برنامج مشترك لمعالجة البطالة وايجاد فرص عمل جديدة، وجعل مناخ المنافسة الاقتصادية اكثر عدلاً وعقلانية والانطلاق نحو برنامج ضريبي اكثر جذرية واصلاح النظام النقدي. اما على المستوى الفكري والسياسي فبدا ان باريس المدفوعة بقوة تحالفها مع بون مستعدة لمراجعة "الاشتراكية الدولية" كمرجعية اوروبية لمصلحة تحرير الفعاليات الاقتصادية من آثار تدخل الدولة وسياساتها الحمائية للصناعة الوطنية. الاشتراكيون الفرنسيون قوضوا سيطرة اليمين الديغولي ونجحوا منذ منتصف 1997 في تعبيد الطريق امام علاقات استراتيجية جديدة على الصعيد الاوروبي، وهو ما بدأوه مع المانيا اولاً ثم مع بريطانيا لاحقاً. وهذا الانتقال التاريخي، خفّف من الاحتكاكات التقليدية للسياسة الفرنسية مع نظيراتها الاوروبيات لجهة ميلها للنموذج الاميركي. ومنذ الربع الاخير من عام 1996، بدا ان فرنسا تخطو نحو الميدان المحرّم بثقة كبيرة. هذه الثقة تولدت عن تحولات هامة على مستوى المؤسسات الاقتصادية الفرنسية التي طالما دافعت عن "الحمائية الوطنية" في مواجهة نزعة التحرير الشامل للنشاط الاقتصادي. وكان ما حصل على هذه الجبهة اعمق مما انجزه نجاح الاشتراكيين في ازاحة اليمين. وجرى خلال العام الماضي انتقال دراماتيكي لمواقف اتحاد ارباب العمل نحو المركز الاوروبي الجديد بسياساته المتعارضة مع سياسات الدولة الفرنسية تاريخياً. ومنذ جاء آرنست - انطون سيليير على رأس اتحاد أرباب الاعمال الفرنسيين ظهرت مواقف تدعو الى كفّ يد الدولة عن ادارة الاقتصاد. وقاد سيليير الاتحاد المعروف بمعاداته للنزعة الاميركية الى تشريع 35 ساعة عمل اسبوعياً، ودشّن عملية شاملة ينتظر ان تفضي الى تحرير البنية الداخلية للاتحاد ليصبح اكثر ديموقراطية وارتباطاً بالنقابات والسوق العالمية والمشروع الاوروبي. التوسيع والاصلاح دارت خلال العام الماضي مناقشات كبيرة وانجز الكثير من العمل المهم على صعيد ترسيخ عضوية الاتحاد الاوروبي لتشمل 11 دولة على دفعتين. وأقرت القمتان الاوروبيتان في لوكسمبورغ وكارديف دخول الفوج الاول من دول اوروبا الوسطى والشرقية ودشنت مفاوضاتها معها للدخول الدول الست هي بولندا وهنغاريا وتشيخيا وسلوفينيا واستونيا فيما تنتظر دول الفوج الثاني دورها وتستمر بالتحضير في عملية الاصلاح الهيكلي تمهيداً لاستكمال شروط الدخول. والخبر السيئ كان من حصة تركيا التي استبعدت من الفوجين ودخلت منذ بداية 1998 في جدل حاد وساخن مع المؤسسة الاوروبية التي تأخذ عليها الخلل في سجل حقوق الانسان، واضطراب علاقاتها مع جيرانها من اعضاء الاتحاد خصوصاً مع اليونان التي تتنازع معها على السيادة على جزر بحر ايجه فضلاً عن ملف قبرص والتواجد العسكري التركي في الجزيرة. وثمة اصوات عديدة برزت خلال 1998 اعتبرت دخول تركيا الى المجال الاوروبي تهديداً اثنياً بسبب تركيبتها السكانية الاسلامية. واخرى تعتبر ان تركيا في الاساس ليست بلداً اوروبياً. وانقرة التي يملأها الغيظ، وجدت نفسها وحيدة وقد تخلى عنها حلفاؤها خلال سنوات الحرب الباردة الذين بدأوا يردون بأن الدور الاستراتيجي السابق لتركيا قد تحول وتناقص في المرحلة الراهنة. ومع مجيء عبدالله اوجلان الى ايطاليا، اكتملت حلقة الرفض الاوروبي حيث بدا واضحاً في قمة فيينا قبل بضعة اسابيع ان آمال تركيا تناقصت الى حد كبير. حتى اتفاق الوحدة الجمركية بينها وبين دول الاتحاد، لم يخرج الى حيز التطبيق وحجبت عنها فرص الحصول على تمويلات ومعونات برامج الشراكة المتوسطية - الاوروبية بفعل "فيتو" اليونان المسلّط كسيف ديموقليس على عنق انقرة. وحمل عام 1998 جدلاً لم ينته بعد حول ميزانية الاتحاد الاوروبي وحصص كل دولة منها. ودول الشمال الغنية خصوصاً، المانياوهولنداوبريطانيا، ترى من الضروري اعادة النظر بتلك الحصص قبل منتصف 1999 عندما يعطى الضوء الاخضر لدخول الدول الست للاتحاد. والمانيا خامس اغنى دولة اوروبية من الاعضاء تشكو من انها تدفع 60 في المئة من الميزانية الصافية للاتحاد وترغب بتعديل مبكر، لا سيما وانها استلمت الرئاسة الاوروبية للاشهر الستة المقبلة. اما دول الجنوب اسبانيا، البرتغال، اليونان ومعها ايرلندا فستكون مستهدفة لزيادة حصتها وفقاً لدخلها وعدد نفوسها. وبنفس السياق لن يحسم الجدل حول السياسة الزراعية ولا سيما ما يتصل بالدعم الاوروبي للمنتجات الزراعية. وهو دعم كان يؤمن لفلاحي اوروبا 30 في المئة من قيمة المنتوج. وكان هذا الترتيب قد دشن ايام الحرب الباردة لتشجيع المزارعين الاوروبيين على الانتاج تجنباً للاعتماد على منتجات الكتلة الاشتراكية الرخيصة الثمن. والتوسيع الاوروبي سيكرس هذه الحاجة، لا سيما وان الدول الست تحتاج الى استثمارات مالية ضخمة لدفع عجلة التصنيع فيها وصولاً الى مستوى اوروبي او مستوى قريب منه. ومفهوم ان الدول الغنية في الاتحاد هي التي ستدفع من ميزانياتها قيمة الاستثمارات التي تصل الى ما يقارب 114 بليون دولار خلال السنوات الخمس القادمة. ثمة دعوة لحل وسط تقدمت بها هولندا تقضي بتجميد برنامج الاستثمار الاقتصادي في المشاريع الكبرى والمجال الزراعي حتى يتم الاتفاق على الحصص المترتبة على كل دولة.