هل تميل أوروبا الى اليسار او الى اليمين؟ بسبب غياب القدرة على الاختيار بين حزبين تقليديين انهكتهما السلطة والازمة، انحاز أكثر من ثلث الدول ال28 الاعضاء (في الاتحاد الاوروبي) الى «الائتلافات الكبرى». وظهرت حكومات تعتنق في آن أفكار الاشتراكيين الديموقراطيين والمحافظين او الليبراليين على غرار حكومة أنغيلا مركل في ألمانيا. ونسجاً على المنوال هذا، شكلت الجمهورية التشيخية في السادس من كانون الثاني (يناير) حكومة مساكنة لا يمكن تصورها بين اشتراكيين ديموقراطيين ووسطيين وشعبويين يقودها البليونير أندريه بابيس. ليست الائتلافات الكبرى أمراً جديداً في كل بلدان اوروبا. ويوضح عالم السياسة دومينيك رينييه الاستاذ في معهد العلوم السياسية أن في دول الشمال، كما في النمسا وفي فنلندا كما في المانيا، يعتبر هذا الاتحاد «خياراً عادياً، يكاد أن يكون روتينياً». ويضيف ان بلداناً مثل اليونان وإيطاليا، في المقابل، يبدو فيها الامر غير مسبوق. هنا «تكون الحكومات حكومات وحدة وطنية اكثر مما هي ائتلافات حقيقية». أرغمت الأزمة هذه البلدان على تبني موقف «الإدارة الأيديولوجية المشتركة»، كما يقول عالم السياسة غايل بروستيه. وأتاحت انظمة الانتخابات النسبية ظهور الائتلافات الغريبة التي تحظى بمباركة بروكسيل حرصاً منها على الانتظام والاستقرار. وهكذا، حمل انهيار حكومتَي الاشتراكي جورج باباندريو في اثينا واليميني سيلفيو بيرلوسكوني في روما نهاية 2011 وبعد ضغوط من المفوضية الاوروبية، على تأليف حكومات سُمّيت تكنوقراطية تعيّن عليها تجاوز الفوارق الايديولوجية من أجل اعادة ترتيب أوضاع البلاد. وأفضت الانتخابات التشريعية التي اعقبت ذلك الى تشكيل ائتلافات كبرى هشة في بلدان تُعتبر المعارضة فيها بين اليمين واليسار مميزة تاريخياً. وحتى من دون الائتلاف الكبير، دفعت الازمة الى تقليص الفوارق بين اليسار واليمين. ففي اسبانيا والبرتغال اللتين يحكمهما اليمين اليوم، اقرت المعارضة سياسات التقشف. وبوجود خمس «حكومات مختلطة» اليوم يقودها اليسار وست أخرى يتزعمها اليمين، يقدم المشهد السياسي الأوروبي صورة لتوازن قوى يشارك فيه كل من أفلح في إسكات نوازعه الانقسامية في سبيل المصلحة العامة. بيد أن الائتلافات الكبرى هذه تعكس الانهاك الذي تعاني منه ايديولوجيات الأحزاب التقليدية اكثر مما تشير الى حقبة جديدة من الإجماع و «تمثل القضم الذي تتعرض له القاعدة الناخبة للأحزاب الكبيرة منذ سبعينات القرن العشرين» كما يقول فابيان اسكالونا استاذ العلوم السياسية في غرينوبل. ويتابع ان القوى هذه التي وجدت نفسها عاجزة عن الحركة أمام التراجع المستمر لمعدلات النمو وتوقعات السكان المتزايدة، تحاول مقاومة صعود القوى المتطرفة بتشكيل ضرب من «تكتل الاحزاب». الأسلوب هذا يبدو قليل الإقناع. ففي اليونان، تكاد الاحزاب الاشتراكية والمحافظة التي مثلت 80 في المئة من الناخبين عام 2009، ألا تحصل على تأييد اكثر من 30 في المئة حالياً. بل إن بلداً تعتبر فيه الائتلافات الكبرى أمراً معتاداً، مثل النمسا، يسود اعتقاد فيه بأن اليمين التقليدي أُصيب ب «إفلاس حقيقي» كما يلاحظ غايل بروستييه مؤلف كتاب «رحلة الى اقصى اليمين». وسجل المحافظون المتحالفون مع الاشتراكيين الديموقراطيين في الانتخابات التشريعية في ايلول (سبتمبر) 2013 اسوأ نتائج لهم في تاريخهم. لكن الضحية الاكبر للتحالفات الكبرى هذه هي الاشتراكية الديموقراطية. فأوروبا المضطرة الى الانخراط في منافسة دولية والالتزام باحترام حدود صارمة في العجز والمديونية، تسيطر عليها افكار اليمين «العملي» و «المسؤول». ويقول اسكالونا ان اليسار المعتدل يطيع في تحالفه مع اليمين الجمهوري «السياسة الأوروبية المتزمتة»، ويُرغَم على «نزع ايديولوجيته»: «فالاتحاد الأوروبي يشكل صعوبة كبيرة بالنسبة الى الاشتراكيين الديموقراطيين» الذين «لا يملكون إرادة قلب النظام على رغم انحيازه الى منطق اليمين». وتبدو الاشتراكية الديموقراطية عاجزة عن تقديم تعريف لموقف آخر. ويشدد بروستييه على ان «اثارة الخيال يحملها اليمين» في حين يتعلق اليسار الجذري ب «خرافة ما يقع في الأمام»، خرافة عن «كينيزية» ما سادت أوائل الثمانينات. يستحق هذا التحليل بعض التدقيق. ويرى رينييه أن «النموذج الالماني يبيّن أن في وسع ائتلاف كبير أن يكون تقدمياً وأن يصل الى فرض حد ادنى للأجور». لكن ذلك لا يلغي حقيقة ان اليسار «عاجز عن قطع الوعود» وفق اولريكي غيرو الباحثة في معهد «مبادرة المجتمع المفتوح من اجل اوروبا». وتوضح غيرو ان الائتلافات الكبرى تطرح «المشكلة الديموقراطية». فلم تعد هناك معارضة، و «نسير الى خسارة لعبة البدل بين اليمين واليسار». غياب القطع الواضح بين الحزبين الكبيرين يهدد بجعل الناخبين ينفرون: بعد حكومة ائتلاف كبير، من يجسد التغيير؟ يقول بروستييه ان «الخطر يكمن في ترك الأحزاب المتطرفة تتحكم بمظاهر الاحتجاج»، مشيراً الى ان اليمين المتطرف استعاد الأفكار غير المعمول بها مثل الحمائية والتخلي عن اليورو. * صحافيان، عن «لو موند» الفرنسية، 15/1/2014، إعداد حسام عيتاني