قرى الأطفال في سورية حاولت إحداث نقلة نوعية في مجال الرعاية الاجتماعية، بخلاف ملاجئ الأيتام المعتادة. فسعت الى تشكيل "أسرة" جديدة وبناء اجتماعي يرعى الطفل بشكل أقرب ما يكون الى الحالة الطبيعية. فالمجتمع السوري لم يعرف حتى أواسط هذا القرن أية مؤسسة تساند بنية الأسرة، فالنظام الأبوي تكفل عملىاً باستيعاب الحالات الطارئة كفقدان أحد الوالدين أو رعاية المسنين أو حتى استيعاب الأحداث. وكان مصطلح "الملجأ" يحمل في طياته رغبة أو نظرة رفض لأنه يتعارض مع نظام التكافل الاجتماعي السائد، فهو يدخل في مجال بعيد عن الثقافة السائدة ويعبر عن حالة شاذة تترادف مع مصطلح "اللقيط". وكانت الجمعيات التي تسعى لتأمين خدمات تخص الأيتام أو المسنين تتسم بطابع ديني بالدرجة الأولى، ويطلق عليها اسم "الجمعيات الخيرية" بشكل يوحي بطبيعة عملها المستندة على أساس "البر والإحسان". ومما لا شك فيه ان نشاط هذه الجمعيات قدم مساعدة للمجتمع في مرحلة نموه وتعقد مصالحه. ومنذ أواسط الستينات بدأ نشاط لتغيير المفهوم العام لهذه المؤسسات على أساس حقوقي جديد يستند الى مفهوم الرعاية الاجتماعية، وتنطلق هذه النظرة من اعتبار أن أي شريحة اجتماعية لها الحق في التمتع بحياة طبيعية، والمساعدات التي تقدم اليها هي "رعاية اجتماعية" ولا تحمل أي مفهوم للشفقة، بل تشكل جزءاً من صيانة الحياة العامة، وعمم هذا المفهوم ليشمل رعاية الأسرة وتقديم المشورة لها في كافة المواضيع المتعلقة بصيانة بنيتها. ولا يعني ظهور مفهوم "الرعاية الاجتماعية" بالضرورة تبدل أشكال العلاقات الأسرىة، حيث بقي التركيب الأبوي يتمتع بالحضور المطلق، خصوصاً ان التشريعات المدنية لم تتغير، فالقانون ما زال يعتمد على روابط النسب والدم في تعيين حق الكفالة، والدولة التي رعت بشكل عملي كافة الهيئات الساعية للعمل على الرعاية الاجتماعية، حاولت البقاء خارج اطار التدخل المباشر، فسهلت عمل المنظمات الاجتماعية بينما بقي قانون الاحوال المدنية على حاله. وهذا الأمر جعل الرعاية الاجتماعية شكلاً إرشادياً بالدرجة الأولى، العاملون فيها طرف مستقل عن بنية الأسرة، وتجلى هذا الأمر بوضوح عندما تم انشاء قرى الاطفال "S.O.S التي حاولت خلق نقلة نوعية في مجال الرعاية الاجتماعية، فبخلاف ملاجئ الأيتام المعتادة التي تؤمن للطفل حاجاته الأساسية، فإن قرى الأطفال أوجدت أسرة جدىدة وقدمت بناء اجتماعياً يرعى الأطفال بشكل أقرب ما يكون للحالة الطبيعية. ومن جهة اخرى، فإنها تسعى لتحقيق كفالة كاملة للطفل فتمثله قانونياً أمام الجهات المختصة. وبمعنى أدق، تتم دراسة الوضع الاجتماعي بشكل كامل للطفل الذي يرسل اليها، ثم تسعى ادارتها لتخليص حقوقه من اقربائه، ان وجدت، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع الإرث الذي يضيع أحياناً على اليتيم. ويبدأ التباين بين قرى الأطفال والملاجئ الاعتيادية من الشكل العام لها، فقد أقيمت في الديماس في ضاحية دمشق، على مساحة واسعة قرية تستوعب عدداً من الخدمات الخاصة بالأطفال، وبنيت الوحدات السكنية على شكل منازل متفرقة لتشعر الطفل بخصوصيته وكأنه يعيش في بيته. ومن جهة اخرى، فإن الأطفال يلتحقون بالمدارس العادية لينخرطوا عملياً بحياة طبيعية، والنظام داخل كل منزل يتشابه مع الشكل العام للحياة في الأسرة. فالمشرفون هم "عمات وأعمام وأخوال أو خالات" يعملون على اعطاء الطفل شعوراً بالأمان، فيحضرون الطعام له في المنزل ويبيتون معه ليلاً ضمن اطار يكفل استقراراً داخلياً للطفل. وتتم متابعة الطفل دراسياً من قبل المشرف المباشر عليه الذي يعتبر ولي أمره أمام إدارة المدرسة. وعلى رغم كل هذه التدابير يفضل بعض الأطفال الهرب والعودة الى كنف العائلات التي خرجوا منها، خصوصاً اننا لا نجد في هذه المنشأة إدارة صارمة تسعى لتطبيق نظامها بغض النظر عن أي اعتبار آخر، فالطفل الموجود فيها يملك حرية التنقل وهو ليس بالضرورة فقيراً أو مشرداً، بل غالباً ما ينتمي الى عائلة ارتضت ان تتخلى عنه، أو اتخذت الجهات القضائية اجراء بوضعه في قرى الأطفال نتيجة وضع حقوقي خاص، وفي حال فرار طفل، فإن ادارة قرى الأطفال لا تملك الحق باسترجاعه إلا أمام الجهات القضائية التي تعترف برابطة النسب في الدرجة الأولى. تجربة قرى الأطفال المستمرة منذ أكثر من عقدين تقدم نموذجاً يحاول التوفيق بين شكلين اجتماعيين: الأول يرتبط بالنظام الاجتماعي وتقاليده حيث تخضع لكافة اعتباراته مع تقديم مساعدات انسانية لليتيم، والثاني يسعى لطرح تجارب اجتماعية لها علاقة بتطور المجتمع وتعقد مصالحه. ويتجلى هذا الأمر في تمثيل الطفل قانونياً امام كافة الجهات المختصة، واعتبار ان حقوقه يجب كفالتها من قبل مؤسسات دون ان تترك للاقرباء فقط، ومما لا شك فيه ان التشريعات المدنية لا تعطي مجالاً واسعاً للتحرك في هذا المجال، لكنه على الأقل تنظر في أهلية الكفيل الذي يرعى حقوق الطفل، مما يفتح باباً لمراجعة كافة الظروف المحيطة به، وتقدم في الوقت نفسه نموذجاً اسرياً أقرب ما يكون للحالة الطبيعية، يسعى لاستيعاب الحالات الطارئة، واذا كان تأقلم الاطفال يأتي بطيئاً مع حياتهم الجديدة فينعكس احياناً على سلوكهم أو في حياتهم المدرسية، الا ان المتابعة المستمرة تنجح في كثير من الحالات، في تجاوز أزمات الأطفال الموجودين فيها، وتبقى أفضل من الملاجئ العادية التي تشعر الطفل من اللحظة الأولى انه موجود في مكان استثنائي، لا يمت بصلة الى أي لون من حياة الأسرة الطبيعية ونظامها الاجتماعي.