اختصر خيو سامغان، رئيس كمبوديي بول بوت وهي كمبوديا "حقول القتل" التي أودت "دولتها" بنحو خمس الكمبوديين "الأمين" العام للحزب الشيوعي الكمبودي الحاكم في 1975 - 1978، اختصر الأعوام الثلاثة القاتلة التي قضاها، هو وعصابته وجهازه الحزبي السري، حاكماً، بالقول: "آسف جداً". فرد بهذا القول إلى المليوني قتيل "حقوقهم". ولم يكد سامغان يأسف أسفه الشديد حتى توجه، وفي صحبته نووُن شِييا، أحد قادة الخمير الحمر "التاريخيين"، إلى قصر رئاسة الحكومة، حيث رحب به السيد هون سين، رئيس الحكومة وحاكم كمبوديا الفعلي وأمين عام حزب العمل الكمبودي الذي خلف الحزب الشيوعي برعاية فيتنامية على حكم كمبوديا وحربها الأهلية. ودعا الثلاثة، هون سين وخيو سامغان ونووُن شِييا، بعد شرب نخب "المصالحة الوطنية" الكمبودية، و"الوفاق الوطني" المستعاد، دعوا إلى "نسيان الماضي"، ومواراة الثرى ضحايا الإبادة الحمراء مرة ثانية. فرد خيو سامغان، وكان يجيب عن أسئلة الصحافيين في أحد فنادق بنوم بِنْه الفخمة والقائمة من الأنقاض والدمار، رد على سؤال تناول المسؤولين عن مجازر العهد الخمير الأحمر، فقال: "إذا كان علينا أن نقول من أصاب ومن أخطأ فلن نبلغ المصالحة الوطنية ولن تتحقق هذه المصالحة". أما السيد شِييا - وهو كان أحد أقرب أعوان بول بوت، رأس "أنغكار"، جهاز "تطهير" الشعب الكمبودي من عناصره "الفاسدة" والمريضة بعدوى الغرب البورجوازي - فذهب إلى أن المَقتلة "مسألة قديمة"، عفَّى عليها الزمن، شأن ضحايا كارلوس "العربي" على مذهب صحافي عروبي "مطرب" والطرب صفة وصف بها السيد سليم الحص أحد المحرضين الجهوريين على الإقتتال طوال العقد التاسع اللبناني. والقِدَم، أي تقادم الزمن على الجرائم الكبيرة، ذريعة يتعلل به مرتكبو الجرائم، وأنصارهم "الإيديولوجيون"، إلى اقتناص النسيان من غير محاسبة ولا قصاص ولا صفح أو مغفرة. فكأن الجريمة لم تكن، وكأن من قتلوا غيلة، وكانوا "مادة" ما يسمى التاريخ وحوادثه، إنما كانوا ضحية كارثة طبيعية لا يُسأل عنها أحد. ومعنى هذا أن القاتل بريء من فعلته، ولا تبعة عليه ولا على غيره. فهو، أي القاتل أو القتلة، حُمل على ما فعل، إذا أقر بما فعل، على خلاف سامغان وقبله بول بوت ونظيره أوغستو بينوشيه، ولم يكن إلا آلة الفعل التاريخي، ويد تناقضاته وتضافراته الصماء. ولا ريب في أن مثل هذا المنطق المتماسك يستظهر ب"علم" تاريخ قوي الحجة. فالتاريخ، على زعم ماركسية متألقة بين الماركسيات السائرة والمتداولة، "سيرورة بروسيسوس من غير صاحب" أو ذات فاعلة ومريدة تنسب إليها وقائع التاريخ. أو هو، أي التاريخ وحوادثه، منكَّر الصاحب والمرجع والفاعل. وحكمه، أو أحكامه، أحكام علم الإضطرار، ومعيار هذا العلم الصدق، ونقيضُ الصدق العلمي التخليطُ والهوى. وكان السيد خيو سامغان، شأن يينغ ساري ثالث قيادة الخمير الحمر المتقاعدين ببنوم بنه، من الطلاب الكمبوديين الدارسين بباريس في أواخر العقد السادس والمتحلقين حول سالوت سار المعروف ببول بوت "الرهيب" وتعليمه وتسليكه الشيوعيين. وحَمْلُ حوادث الإجتماع والسياسة والإدارة على هذا التفكير يترك سؤال الكمبوديين السذَّج أو رجاءهم: "أريد أن أعرف من المسؤول الفعلي عن مقتل أهلي"، معلَّقاً ومن غير جواب. ولكن السكوت "الخمير الأحمر" عن الحوادث "الغامضة" على قول سامغان اليوم لا يرتدي الثوب "الفلسفي" والمذهبي الماركسي الذي تقدم. فالقوم، شأن أمثالهم من الثوريين والعقائديين في كل بقاع الأرض، أوسع حيلة من الإحتجاج بحجج عقائدية وكلامية. فهذا الضرب من الإحتجاج يخص به أهل المذاهب والعقائد "قواعدهم" ومريديهم ومحازبيهم. وأما إذا جد الجد انتضى أهل المذاهب والعقائد بوجه أعدائهم، ومبيِّتي الشر لهم، حججاً عملية وذرائعية أقوى وأقطع. فلوَّح لونغ نورين، أحد مساعدين سامغان وشِييا ب"نبش الماضي والحاضر" إذا سعى الساعون في عقد محكة دولية تقاضي قادة الخمير الحمر الأحياء بارتكاب جرائم في حق الإنسانية. ولخص المتحدث رأي أصحابه بقوله: "إما السلم ]الأهلي[ وإما المقاضاة". ويترتب على هذا أن الإثنين معاً لا يستقيم الحصول عليهما. فيخوِّف قادة القَتَلة الدولةَ الكمبودية، وهي يرفض رأسُها المعنوي نورودم سيهانوك العفو عن قيادة "أنغكار"، ومن ضلع في مساندة الخمير الحمر - تايلندا الجارة والصين الشقيقة العقائدية والولايات المتحدة الأميركية المسلِّمة بحكومة القتلة نكاية بمن رعاهم جيش الإحتلال الفيتنامي الشقيق - يخوفونهم إفشاء تواطئهم معهم وسكوتهم عنهم عقداً ونصف عقد من السنين 1978 - 1991. ولعل خشية القيادة "الحمراء" تداولَ الكلام في المحكمة الدولية، على رغم طول الوقت الذي يقتضيه انعقادها، هي ما دعا القاتلين الكبيرين إلى العودة إلى ملجئها في الغابة الكمبودية، غداة الترحيب بهما ترحيباً وقِحاً، لم يتخلف عنه زميل دراسة خيو سامغان، السيد بطرس بطرس غالي، نصيرنا على الدولة العبرية في نيسان أبريل 1996، إبان مقتلة قانا. فلم يفلح التخويف الخمير الأحمر في رد طلب المحاسبة. وأفلحت سابقة توقيف بينوشيه، وهذه أقلقت السيد فيديل كاسترو، في بث الخوف في قلوب "الجبارين". ولا يَسلم المرء من السرور باستشعار أمثال هؤلاء الخوف. وقد يكون الداعي إلى السرور مجرد الثأر للموتى الضعفاء أو الاستبشار بعدالة دنيوية معجلة. * كاتب لبناني.