"يُحاكم الاشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الاخرى المذكورة في المادة الثالثة امام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الاطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها"... هذا نص المادة السادسة من اتفاقية منع جريمة الإبادة التي صدرت في العام 1948. واليوم، بعد انتظار نصف قرن من تاريخ هذه المادة تمّ الاتفاق الدولي، بأكثرية طاغية، على انشاء محكمة الجزاء الدولية. ولعل أهمية هذه المحكمة تتمثل في نقاط عديدة، وتستدعي، بذلك، عدداً من الملاحظات أهمها: 1 الواقع ان القانون الجنائي الدولي، الذي أبصر النور مع محاكمات نورمبرغ الشهيرة في العام 1945، تضمّن أحكاماً زاجرة لمعاقبة ثلاثة أنواع من الجرائم: - الجرائم ضد السلام اي التخطيط والتحضير لمباشرة شنّ الحرب أو العمل العدواني أو انتهاك الاتفاقات الدولية. وجرائم الحرب ذاتها اي انتهاك قواعد الحرب بما يتعارض مع القانون الانساني الدولي كقتل الاسرى والاستعباد والتخريب المقصود للملكية... الخ. - الجرائم ضد الانسانية اي القتل والافناء وترحيل المدنيين وملاحقة الاشخاص وقتلهم لاسباب سياسية أو عرقية أو دينية. وتطوّر القانون الجنائي الدولي، مع العام 1948، في اتجاهين: - ان تطبيقه لم يعد مقتصراً على فترة معينة ومكان معين وانما تجاوز إطار نورمبرغ الى كل فترة سلمية أو حربية والى كل مكان وزمان. - ان تطبيقه لم يعد مقتصراً على شاغلي الوظائف الادارية والسياسية والعسكرية وانما تعداهم الى كل شخص قد يرتكب احدى الجرائم المشار اليها اعلاه سواء كان شاغلاً لوظيفة حكومية أو كان شخصاً عادياً. الا ان هذا التطور لم يترافق مع انشاء آلية قضائية قادرة على تطبيق القانون الجنائي الدولي، الى ان تمّ الاتفاق اخيراً 17/7/1998 على انشاء محكمة الجزاء الدولية. وبذلك تكاملت فاعلية هذا القانون الجنائي الدولي الذي اعتبر الفرد مسؤولاً امامه وليس الدولة فقط. كذلك يتجاوز هذا القانون الآن، في الزاميته القانونية والقضائية، حدود القوانين الداخلية وسلطاتها القضائية التي تتكيف احياناً مع مصالح بعض الدول السياسية والعقائدية والشخصية ايضاً. لقد بات باستطاعة هذا القانون الجنائي الدولي، اليوم، ان يصبح حقيقة ملزمة على الارض وقادرة ليس فقط على ردع معنوي للدول المخالفة وانما على معاقبة الاشخاص الذين يتولون مناصب قيادية فيها ايضاً. 2- تمتد ولاية محكمة الجزاء الدولية الى النظر والحكم في اربعة انواع من الجرائم: أ الإبادة الجماعية التي فصّلها نظام محكمة الجزاء الدولية وفقاً لما تم تعريفها أصلاً بموجب اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس للعام 1948. ب جرائم الحرب: كما سبق لمحاكمات نورمبرغ ان عرفتها، وكما عرّفتها ايضاً، ومع مزيد من التفاصيل، اتفاقيات جنيف للعام 1949. الا ان نظام محكمة الجزاء الدولية جاء بتعريفات وتفاصيل جديدة عن اعمال اعتبرها موازية أو منبثقة أو ناتجة عن جرائم الحرب. وهذه التعريفات والتفاصيل مهمة وضرورية لانها تحسم بعض الاجتهادات المتباينة التي صدرت بعد اتفاقيات جنيف حول إمكانية إدخال أو استبعاد بعض هذه الاعمال من فئة جرائم الحرب. ج الجرائم ضد الانسانية: التي استعان النظام الاساسي لمحكمة الجزاء الدولي في تعداده بالاتفاقيات الدولية الصادرة لحماية حقوق الانسان من جهة قانون حقوق الانسان وبالاتفاقيات الدولية المعروفة باتفاقيات جنيف للعام 1949 مع تعديلاتها وملحقاتها القانون الانساني الدولي من جهة اخرى. ويبدو ان نظام المحكمة لم يشأ ان يرافق بعض الاجتهادات الحديثة في هذا الصدد. وانما اكتفى بعبارة عامة تقول ان من جملة الجرائم ضد الانسانية والتي تعتبر موضوع تحقيق وعقوبة: "اي أفعال اخرى غير انسانية تحمل طابعاً مشابهاً وتتسبب عمداً بمعاناة هائلة أو بأذى جسدي أو عقلي خطيرين". هذا مع العلم ان افعالاً كتزوير العملات وترويج المخدرات والاعمال غير المشروعة على متن الطائرات والسفن وخطف الطائرات والجرائم المرتكبة بحق الديبلوماسيين والاشخاص ذوي الحصانة واحتجاز الرهائن... كلها تدخل في عداد الجرائم ضد الانسانية. ولعل هذا الاغفال المقصود من قبل نظام المحكمة لجميع الجرائم ضد الانسانية كان محصّلة عدد من الاعتبارات السياسية والتخوفات المهنية بآن معاً. د اما بالنسبة لولاية المحكمة الدولية على جرائم العدوان Aggression فلم يوفّق نظام المحكمة في ادراج تعريف متكامل لهذه الاعمال ولم يستطع، في الواقع، توسيع هذه الولاية لهذه الجهة. يبقى ان المحكمة تظل المرجع القضائي الصالح لمحاكمة الاشخاص الذين يرتكبون عملاً عدوانياً اذا تحوّل لها ذلك من مجلس الأمن الذي يحق له وحده توصيف العمل العدواني. ومع ان الجمعية العمومية للامم المتحدة قدمت توصية، في العام 1974، عرّفت بموجبها "العدوان" مع ذكر معظم حالاته. الا ان هذه التوصية غير ملزمة وبذلك بقي مجلس الأمن محتفظاً بحقه كاملاً في التعريف والتقرير. 3- ان ما أورده نظام محكمة الجزاء الدولية من بعض الاضافات والنماذج التي شرحها بالتفصيل قد تساعده في ان يصبح مالكاً لاكثرية ملحوظة في شتى الاحوال. وبالتالي في ان تستخدم هذه الاضافات والبنود على مستويات اقليمية ودولية. فقد ذكر نظام محكمة الجزاء الدولية ان من جملة جرائم الحرب: - "نقل السلطة المحتلة لاجزاء من شعبها المدني الخاص الى الاراضي التي تحتلها على نحو مباشر أو غير مباشر، أو ترحيل كل شعب في الاراضي المحتلة أو أجزاء منه الى خارج تلك الاراضي". - و"دفع مواطني الطرف المعادي الى المشاركة في عمليات الحرب الموجهة ضد بلدهم الخاص واستغلال وجود مدنيين أو اي شخص آخر محمي لجعل بعض المناطق او القوات العسكرية مستثناة من العمليات العسكرية" و"ارتكاب انتهاكات للكرامة الشخصية وخصوصاً المعاملة المهنية والمذلّة". والواقع ان هذه التعريفات الجديدة التي اعتمدها نظام المحكمة يمكن ان تساعد، كمرجعية دولية جديدة، في ضرورة الانطلاق الى ما هو عدل عالمي. كما يمكن ايضاً الاستناد اليها اليوم، كمرجعية دولية، لإدانة السياسة الاسرائيلية التي تنتهكها جميعاً. ويمكن، استطراداً ايضاً، ان يسعى العرب اليوم الى الاستناد لهذه التعريفات الجديدة في اضافة الاستيطان الى جرائم الحرب من اجل توظيفها في المساعدة على فك الحصار عن الفلسطينيين من جهة وعن التحرر من احتلالي الجنوب والجولان من جهة اخرى. 4- وكان تركيز محكمة الجزاء الدولية على وجوب حماية حقوق الانسان واضحاً وحاسماً. فقد ذكر نظامها في احد بنوده انه "يجب ان يتناغم تطبيق القانون وفق هذا البند وتفسيره مع حقوق الانسان المعترف بها دولياً، والا ينطوي على تمييز مرتكز على أسس الجنس أو السن أو العرق أو اللون أو اللغة أو الدين. أو المعتقد والانتماء السياسية أو القومي...". وهذا الاتجاه يلخص، في الواقع، حرص جميع الآليات الدولية الراهنة على حماية حقوق الانسان وتفعيلها من اجل التوصل الى قانون دولي يراعي العدالة الدولية الى جانب النظام الدولي ويحترم الكرامة الانسانية للفرد الى جانب السيادة الوطنية للدولة. 5- استطاع نظام المحكمة ان يتجاوز العقدة الاميركية وعقد بعض الدول الاخرى التي لم توقعه أاسباب مختلفة. ولعل الاعتراض الاميركي يمثل الأقوى والأخطر نظراً لما رافقه من إلحاح على ضرورة تعديل نظام المحكمة الدولية من جهة ومن انذار بمحاربة المشروع الدولي برمته ان لم يتعدل من جهة اخرى. والارادة الاميركية تخشى ان يفسح نظام المحكمة في "تعريض جنودها العاملين في الخارج الى دعاوى قضائية واتهامات تحركها دوافع سياسية امام محكمة الجزاء الدولية". وهذه الادارة الاميركية ترفض "انشاء نيابة عامة تلقائية يمكنها التحقيق وإلقاء التهم على اي شخص وفي اي وقت ومهما كانت الظروف" من دون استشارة الدول المعنية ولا موافقتها. وتطالب الادارة الاميركية لذلك بنوع من الضوابط كوضع المحكمة تحت اشراف مجلس الامن مثلاً التي تكفل لها ممارسة يد عليا على توجهات الاتهام والاحكام. واذا كانت المحصّلة الاولى، لغاية الساعة، قد ضمنت تغليب ارادة ال124 دولة التي فرضت هذا النظام كما ورد متحرراً من حق النقض - الفيتو الذي تمسك به الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فان المطلوب الآن ان تسعى هذه الدول جميعها - وهي قادرة ولا شك - على توفير كل عناصر النجاح، ولا سيما التمويلي، لهذه المؤسسة الدولية التي انتظرها العالم طيلة نصف قرن كامل. 6- الا ان كل ما تقدم من ملاحظات لا يعني ان محكمة الجزاء الدولية جاءت محررة من كل قيد وقادرة على كل حكم وشاملة لكل قضية. فالمحكمة لم تستطع ان تحيط بكل الجرائم المصنّفة في القانون الدولي على انها "جرائم ضد الانسانية" وانما اضطرت الى اغفال بعضها كما تقدّم. ولم تستطع ايضاً ان تورد تعريفاً مرجعياً لحالة العدوان او العمل العدواني لان هذا الموضوع محفوظ لتقدير مجلس الامن وتقريره. ولم تستطع ان تشير الى ارهاب الدولة لان جميع الجرائم التي ذكرتها ضمن ولايتها قد تكون واردة على اساس تعليمات صدرت عن دولة ما ومنظّمة بطريقة منهجية تعبّر عن هذه السياسة وتنفّذ إغراضها فما هي العقوبة التي يمكن ان تتوجه بها المحكمة الى الدولة ذاتها وليس الى افراد قد يكونون شاغلي و ظائفها. واذا رفضت الدولة ذاتها الانضمام الى هذه المحكمة فمن يضمن عندئذ قدرتها اي المحكمة في ردع هذه الدولة وحتى في معاقبة افرادها. والمحكمة لا تستطيع ان تنظر بالدعاوى أو الحالات الحاصلة او التي قد حصلت قبل اطلاق عملها لانها لا تتمتع بأي مفعول رجعي. واذا كانت المحكمة ستدخل حيّز التنفيذ الكامل مع نهاية العام 2000 فمن هي المرجعية القضائية الزاجرة لانتهاكات حقوق الانسان التي تقوم حالياً بشراستها المعهودة سواء بالنسبة لاحداث كوسوفو أو أاحداث أفريقية مريرة أو لغيرها. ويبدو ان نظام المحكمة الدولية الذي قرر، بوضوح، كيفية ملاحقة الاشخاص الذين يرتكبون اعمالهم المخالفة للقانون الدولي وكيفية معاقبتهم... هذا النظام لم يراعِ، بالقدر المفروض، مسألة التعويض الناتج عن هذه الاضرار التي ألحقها مرتكبو الجرم بالافراد الآخرين ومصالحهم وممتلكاتهم. اما ان تدفع هذه التعويضات التي يمكن ان تقررها المحكمة من "صندوق الودائع" الذي لحظه النظام ذاته لكي تساهم فيه كل الدول... فإن في مثل هذا الحكم تملصاً للمحكوم من موجباته وتملصاً آخر لدولته المخالفة - اذا كان ينفذ تعليماتها - من مسؤوليتها الدولية لهذه الجهة ايضاً. ومع ان هذه الاوضاع الملازمة للمحكمة، ايجاباً أو سلباً، فإن الفرصة متاحة منذ الآن للديبلوماسية العربية كي تتدارس كل الامكانات القانونية المناسبة التي تتيح لها تدعيم موقفها الراهن في الوقت الذي تجاهر السياسة الليكودية بتجاوز كل ضابط قانوني واحتقار كل مرجعية دولية. * استاذ محاضر في الجامعة الاميركية وكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية