في شباط فبراير 1994، قبل سبعة شهور من موعد الانتخابات البرلمانية السابقة كان المستشار هيلموت كول يعدّ نفسه للقاء عناصر من حزبه مجتمعين في مدينة هامبورغ، المدينة الشمالية التي تعد تاريخياً أحد معاقل الاشتراكيين. أجواء الاجتماع بدت متوترة، يخيم عليها قلق الحزب المسيحي الديموقراطي والحزبين المؤتلفين معه، والسبب هو اعتقاد معاهد قياس الرأي أن المعارضة الاشتراكية تستعد لإستعادة السلطة التي فقدتها باسلوب مؤثر عام 1982. واستطاع الزعيم الألماني المحافظ آنذاك إعادة الثقة في صفوف أنصاره، وتحريك نسبة كبيرة من المترددين ليقفوا إلى جانبه ويؤازروه، ويتسببوا بإحباط المعارضين، ووصل سنوات الحكم الاثنتي عشرة بأربع أخرى. ثم بدا ذلك التحول المثير يصبح أحد افرازات البريق القوي لشخصية المستشار، ونجاحه في تذكير الناخبين ان الذي شهد تحقيق وحدة المانيا، كفيل في المضي بالتقدم الاقتصادي، والرخاء الاجتماعي المرتبط به. وبدا في حينه صعباً على المعارضين الاشتراكيين هضم تلك الهزيمة المرة، المفاجئة في نظر الكثيرين، واستيعاب المرشح المهزوم رودولف شاربنك لمرارتها القاسية. في تلك الفترة بدا المستشار كول أمام شعبه وكأنه المنتصر أبداً، بعد أن شهد هزيمة أربعة مرشحين اشتراكيين، لكن تلك الظروف تبدو قبل أيام من الانتخابات الحالية وكأنها لن تتكرر، وكأن الظروف التي دفعت إليها تحولت إلى أحزاب الحكومة ايذاناً بتغيير بدا وكأنه تأخر في الأقل أربع سنوات كاملة. توقعات الخبراء يقول رئيس معهد فيرزا، وهو من أبرز المعاهد المتخصصة في قياس الرأي: "لم يحدث في تاريخ المانيا أن تقدم مرشح للمستشارية على المستشار الفعلي بمثل هذه النسبة، كما هو الحال بالنسبة للزعيم الاشتراكي، رئيس وزراء اقليم نيدر ساكسن الشمالي شرودر الذي هزم المستشار كول بنسبة بلغت 30 في المئة". وكان هذا التقييم عن المعهد المعروف بالدقة، قد اقتصر على شخص المرشحين، إلا أن المعهد نفسه أعلن نتائج على صعيد الأحزاب تعيد إلى الأذهان قلق أحزاب الحكومة عام 1994، إذ منح الحزب الاشتراكي الديموقراطي نسبة 43 في المئة من الأصوات، في حين حصل المسيحيون الديموقراطيون والاجتماعيون على 37 في المئة، بينما تنبأ بهزيمة الحليف الديموقراطي الحر، بحصوله على أقل من 5 في المئة، ومنح قائمة اتحاد الخضر واللائحة 90 نسبة 7 في المئة. أهمية هذا الاستطلاع تكمن في تطابقها مع النتائج التي توصل إليها أربعة معاهد مختلفة، إضافة إلى خبراء قياس الرأي في محطات التلفزيون الرئيسية، ظهرت السبت 12/9/1998، أي خلال الفترة التي بدا معها كل شيء قد انتهى، وطويت صفحة الاستعدادات واقناع الناخبين الذين لم يجزموا أمرهم وكسبهم، ولم يعد سوى انتظار البدء بالعد التنازلي حتى يوم الاقتراع. في كل الأحوال لا يعد الأمر مؤذياً كثيراً لأحزاب الحكومة إن هي خسرت فعلاً واضطرت إلى ترك مراكز السلطة للمعارضة، لأنها بعد مضي الفترة الطويلة أصبحت بحاجة ماسة إلى إعادة تقييم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية السابقة، وأيضاً الحزبية، إذ سيضطر الحزب المسيحي الديموقراطي إلى حصر الموقف على صعيده التنظيمي الداخلي، فهو اذعن لخسائر موجعة في رصيده من الحزبيين، وملاحظة هذا الأمر خلال عام واحد فقط يبدأ من أيلول 1996 حتى أيلول 1997 ستظهر ان 15 ألف حزبي تركوا صفوفه، احتجاجاً على تدهور المعالجات على صعيد الحكم وفي المجال الاقتصادي. ويبدو ان قرار إعادة ترشيح المستشار كول لفترة تشريعية جديدة كان "الشعرة التي قصمت ظهر البعير" وان الحزبيين الذين توصلوا إلى ذلك خلال مؤتمرهم العام قبل 11 شهراً لم يكونوا موفقين وفي مستوى قراءة حجم الانتقادات التي تسود الشارع الألماني، ويبدو أنهم ظلوا يعيشون بريق الشخصية الباهرة لمستشارهم الذي "حقق" وحدة البلاد، وشهد عهده ازدهاراً اقتصادياً، والأهم هو ان كول نفسه حوّل قبل أربع سنوات هزيمة بدت وشيكة إلى نصر وأعاد الثقة إلى نفوس القطاع الواسع من الناخبين المحبطين. هناك حقيقة مهمة أغفلها المستشار كول والذين صوتوا لإعادة ترشيحه، وهي أنه لم يستطع عام 1982 فرض التراجع على حكم الاشتراكيين وزعيمهم المرموق هيلموت شميدت، إلا من خلال فهم موضوعي لنبض الشارع الذي كان ينظر بقلق إلى تصاعد أعداد العاطلين عن العمل وتزايد حجم الانفاق الحكومي، والديون الداخلية التي بدت تكبل الدولة. لم ينظر الناخبون مثلاً إلى انجازات رجل الدولة البارز شميدت، أو إلى النجاحات المتحققة على صعيد التعاطي مع السياسة الخارجية، فتلك أمور بدت في عيون الفرد العادي جانبية، في حين جعلتهم البطالة المتزايدة يقبلون التضحية بشميدت ويرحبون بعهد كول. بعد 16 عاماً بدت الأمور مشابهة إلى ما كان فرض على حكومة شيمدت التراجع، وأكثر خطورة في بعض التفاصيل، ومع أن من الثابت استطاعة المانيا في عهد كول والائتلاف المحافظ ضمان المتانة الاقتصادية والتجارية إلى حد تربع المانيا لتصبح في طليعة قادة أوروبا الجديدة، إلا أن التطور التقني والازدهار التصنيعي ادى إلى تفاقم مشكلة العاملين، ضحية هيمنة الآلة على فروع الانتاج، وبدا مهماً للإنسان العادي وجود أكثر من أربعة ملايين عاطل مع ما يعنيه من تراجع القدرة الشرائية لهؤلاء وارباك الحياة الاجتماعية للأسرة، والمهم أيضاً ان في المانيا اليوم دولة مدينة بأكثر من 1000 بليون مارك حوالى 750 مليون دولار، مع وجود عبء لم يسبق له مثيل من الضرائب، وكثير منها ترتب على إعادة توحيد البلاد، الذي يفخر المحافظون بانجازه. ولو كانت الحكومة صريحة في مخاطبة الناخبين وموضوعية في الحديث عن هذه المشاكل، لوفرت على نفسها سخط هؤلاء وانتقاداتهم المريرة. فسياسيو الأحزاب الحاكمة اختاروا الحيل الكلامية وإرباك تفكير مواطنيهم بأرقام تبتعد بعض الشيء عن الواقع، فهم، خصوصاً المستشار كول، لم يتركوا فرصة من دون تجديد التعهد بخفض الانفاق والتخلص من شبح البطالة المخيف واستحضار الصورة المشرقة التي خيمت على المانيا في عهد الزعيم المحافظ لودفيغ ايرهارد، وشعبهم الذي يتابع بعدم ارتياح وجود مليون طفل ألماني محرومين من الحياة الكريمة ويعيشون على المساعدات التي تقدمها الدولة ، لا يقبل التقليل من الشأن المدمر للبطالة بمزاعم مثل "ان ثلثي العاطلين وهميون، أو ان مشكلتهم لا تحتمل الحل بسبب تجاوزهم سن العمل أو اصابتهم بالمرض، وان وضع الأفراد لم يكن جيداً كما هو الحال اليوم". العلاقات الخارجية من ملاحظة العلاقات الخارجية لألمانيا، التي لا تشغل الناخبين كثيراً، يتبين أن التعاطي الحكومي التزم ببعض الحياد والكثير من التوازن، وظل وفياً لمقتضيات "العلاقات الخاصة مع الولاياتالمتحدة على رغم ما فيها من شبهات تحط من اعتبار القرار السياسي للدولة، وعزاء الحكومة الحالية ان خياراتها في هذا المجال تكاد تكون معدومة، وأنها تتساوى في "الموقف التنسيقي مع الأميركيين" مع الاشتراكيين الديموقراطيين، وقد نجحت في تسويق إعادة توحيد المانيا على أنه دليل تحقق بفضل المساعي الخاصة لواشنطن. وكان المستشار كول بارعاً في متابعة تنفيذ نهج الدمج الأوروبي الذي تبناه للمرة الأولى المستشار كونراد اديناور إلى حد نجاحه في تحويل بلاده إلى نموذج للدولة الأوروبية الاتحادية ورائدة في قيادة أوروبا نحو الوحدة، وجعل الاتحاد الأوروبي صيغة نادرة من صيغ الوفاق السياسي والاقتصادي والاجتماعي على رغم الفوارق التركيبية التاريخية والتناقضات العميقة في المصالح. هذه الأمور ستؤكد بقاء كول رجل دولة من الطراز الأول رغم هزيمته المتوقعة، وان ما حصل من خلل في معالجة الأمور الداخلية الرئيسية لن يحمله وحده المسؤولية، فهو جزء من آلة حاكمة ضمن نظام ديموقراطي جماعي. قد يكون محسوماً الفارق الكبير بين توقع الشيء وبين تحققه، إذ ليست كل الاحتمالات قابلة للتحول إلى حقيقة، خصوصاً في العمليات الانتخابية التي تحتمل المفاجأة في كل حين، وهناك من التجارب السابقة الكثير ما يؤيد صحة هذه النظرية. وانتخابات المانيا البرلمانية ليست استثناءً فيها، بل على العكس، هناك نسبة تقارب ثلث الناخبين لم تقرر بعد لمن تعطي صورتها. وإذا كان التخوف كبيراً لدى هذا الجانب أو ذاك من احتمال حصول الأحرار الديموقراطيين على نسبة 5 في المئة أو عدمه، فالأجدر ان يكون القلق أكبر في ما يتعلق بقطاع "المترددين" الواسع. فبأصواته تتعلق مفاتيح الحكم خلال الفترة التشريعية المقبلة، لكن أخذاً بالاحتمالات الأقرب، وتحليل الوضع النفسي لهؤلاء المترددين أنفسهم، وحاجتهم هم أيضاً إلى حدوث التغيير في هرم السلطة السياسية، يجعل من المستبعد تصور حدوث هذه المفاجأة، وأمر الايذان بحكومة يتزعمها غيرهارد شرودر شبه حقيقية. إذا تحقق مجيئ الاشتراكيين إلى السلطة، ونجحوا في إبرام عرى ائتلاف مع حزب الخضر، فإن ذلك لن يكون بسبب الشعبية الكبيرة لشرودر وحدها، بل بسبب إعادة التاريخ إلى الوراء، وعودة الظروف ذاتها التي جعلت من التغيير أمراً حتمياً، مع الأخذ في الاعتبار ان مؤتمر الاشتراكيين الطارئ في نيسان ابريل الماضي الذي أقر ترشيح شرودر لمنصب المستشار، كان أعقب نصراً مهماً حققه شرودر في اقليم نيدر ساكسن الشمالي، وفوز حزبه في آخر انتخابات اقليمية جرت في آذار مارس 1998 بالغالبية المطلقة. وإذا كان حماة البيئة الخضر بعدد أعضائهم الذي لا يتجاوز 49 ألفاً يبدو حزباً صغيراً لا قدرة له على منافسة الكبار، إلا أن حصوله على نسبة معقولة تؤهله دخول البرلمان والتحالف مع الحزب الاشتراكي أمر حتمي، إذا لاحظنا تزايد القناعة به وبأهدافه، خصوصاً في أوساط الشباب، وفلسفة الحزب وأفكاره التي تغني خارج السرب كفيلة بخلق صعوبات أمام استمرار الائتلاف المرتقب ومدى فاعليته، فالخضر لا يتفقون على استمرار النهج الاشتراكي بمشاركة قوات المانيا في عمليات خارج الأراضي الألمانية، وهم عارضوا من قبل وجود جنود المان ضمن قوات حفظ سلام البوسنة، ويروجون لافكار يعتبرها الاشتراكيون غير واقعية، مثل إقرار رفع كبير لنسبة الضرائب التي تفرض على وقود السيارات، ليصبح سعر اللتر الواحد بعد عشر سنوات 5 ماركات المانية، لكن الاشتراكيين متفائلين من امكان "ترويضهم"، علماً بأنهم متحالفون معهم في حكم أربعة أقاليم مهمة هي شليسفك هولشتاني، وهيسن، وهامبورغ، وشمال الراين وغرب فاليا. سيكون أمام مثل هذا الائتلاف، في حال قيامه، مسؤوليات كبيرة يتطلب النهوض بها توافر قدر مهم من الآلية في العمل، فالمرشح شرودر يعرف من تجارب سابقة معنى عدم الوفاء بوعود خطيرة مثل إحداث ضغط كبير في نسب البطالة، وارتباط هذا مباشرة بالكيان الاقتصادي والتصنيعي الذي يتمنى بقاء المحافظين في السلطة، لكنه سيكون محترماً لقواعد اللعبة الديموقراطية، ويتعامل مع "الحكام الجدد" وفق هذا الاعتبار. واضح ان مسألة البطالة لصيقة بالاجراءات المتخذة لتعزيز هيمنة التقنية والآلة على روافد الانتائج، فهي ممكنة إذا قبل القائمون على التصنيع الخفض من تحكم الآلة، واستعاضوا بدلاً عن ذلك بالإنسان، مع ما يعنيه الأمر من خفض في حجم الانتاج وجودته. ويكون قبولهم ضرورة لا مناص منها في ضوء المبدأ الإنساني الذي يدعو إلى جعل الآلة في خدمة الإنسان وليس العكس بتحويليه إلى عاطل عن العمل. وقد يخدم صيغ الاتفاق المشترك بين الاشتراكيين، وهم ممثلون تاريخيون للطبقة العاملة، وبين أرباب العمل، الاضطرار إلى القبول بصيغة الائتلاف الكبير بين الحكومة الحالية ويسار الوسط، التي سبق تجربتها في السبعينات، ويصر أحزاب الحكومة على رفضها، بينما يعتبرها الاشتراكيون "قدراً" إذا كان لا مناص من الأخذ بها. الفائز الوحيد الذي يبدو أمره شبه محسوم هو حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعيون السابقون، بسبب تمتعهم بامتيازات قانونية قديمة، تأخذ في الاعتبار ثقلهم السياسي القوي في الاقاليم الالمانية الشرقية. ومهما ستكون نتيجة الانتخابات البرلمانية، فإن المانيا أمام استحقاقات حتمية لا بد منها.