ها أنت تعيش أياماً سعيدة: القلب أخضر، والآمال ممتدة مثل بيدر، تتعلم وتقرأ وتذرع شوارع القاهرة، على قدميك أو على متن دراجتك التي اشتريتها بعد جهد جهيد، بسبع جنيهات ونصف، وأنني أعرف أنك اشتريتها لهدف واحد: إنها حبك الأول، فتاتك الجميلة، وقد صحبتها يوماً الى دار "أخبار اليوم" - كان هناك أنيس منصور، فصوروا وجهها الجميل، وجعلوه غلافاً لمجلة "الجيل الجديد".كان أنيس معيداً في كلية الآداب، يدرس لكم "المدخل الى الفلسفة" في الفصل الدراسي الأول، و"تاريخ الحضارة الأوروبية" في الفصل الثاني، وكان نجماً صاعداً في صحافة "أخبار اليوم"، وقد تسكعت معه حيناً على أرصفة الوجوديين قبل أن تعرف حلقات الشيوعيين، فتكف عن هذا التسكع، وتعرف لوناً آخر من ألوان النشاط العملي السري. كانت حبيبتك الجميلة تقيم في أقصى شرق القاهرة، وأنت تقيم في أقصى شمالها، وفي شهور الدراسة تلتقيان كل صباح، تتجاوران في قاعات المحاضرات في ذلك المبنى الأنيق على الطراز الايطالي في "شبرا" وتقضيان الأوقات بين المحاضرات في بوفيه الكلية الحاشد بالزملاء والزميلات، أو منفردين في ملاعبها الخلفية، أو قاعدين على سلالم المدخل، تتحدثان في كل شيء، وأعذب الحديث كلمات مطربكم الصاعد: كانت تقول لك: "حلو وكداب... ليه صدقتك؟"، فتجيب: "باحلم بيك... أنا باحلم بيك...". طيب، ماذا تفعل أيام العطلة الصيفية الطويلة؟ هنا تأتي ضرورة الدراجة. عصر كل يوم، تمضي بدراجتك مخترقاً شارع شبرا فشارع رمسيس ثم شارع الملك حتى كوبري القبة، فتجد صاحبتك منتظرة في شرفتها، تلوح لك مبتسمة، فتلوي مقود دراجتك وتعود جذلاً منتشياً. نعم، كان القلب أخضر! في عامك الماضي خضت تجربة مهمة تركت في عقلك ووجدانك - وجسدك أيضاً - آثاراً لا تمحى. انها 1956: وأنت الغارق في قراءة تاريخ بلدك منذ كان أحراجاً ومستنقعات، تشهد غزوة من جديد. فماذا انت فاعل؟ لم تقنع بأن تنضم الى "الحرس الوطني" كي تقوم - مع زملائك - بحراسة بعض المنشآت والمباني، كنت غاضباً ومتململاً ومتحرقاً لعمل شيء أكبر، ووجدت الطريق: كان الشيوعيون متحالفين مع النظام، يعملون في كنفه، وقد أعدوا معسكراً للتدريب على السلاح في قرية "طوبحر" في محافظة الشرقية، انضممت اليه، وقضيت أياماً قاسية في التدرب على الأسلحة الصغيرة والقنابل اليدوية والزحف والتسلق. وبعد ان اكتملت التدريبات تم توزيع المتدربين في جماعات صغيرة من اثنين أو ثلاثة، تقيم كل جماعة في قرية من القرى على طول خط القناة الممتد من جنوب بورسعيد حتى السويس، وتقوم كل جماعة بتدريب الفلاحين على الاسلحة الصغيرة حتى يستطيعوا تعويق قوات الغزو إن فكرت في التقدم نحو الجنوب. وكان نصيبك أن تقيم - مع اثنين من رفاقك - في قرية صغيرة الى جوار الاسماعيلية اسمها "سرابيوم". سلموك خمسين بندقية آلية، مع كل، مئة طلقة، وعصر كل يوم يتجمع الفلاحون في جرن القرية ليتدربوا على السلاح، وذات مساء انطلقت رصاصات مباغتة من مدفعك الرشاش الصغير، اصابت سبابة اليد اليسرى. إنه حظك الحسن الذي جعلها لا تصيب مكاناً آخر، نقلوك الى مستشفى الاسماعيلية حيث أجريت لك جراحة صغيرة، ووضع الاصبع والذراع معاً في الجبس، وعدت الى القرية تواصل حياتك فيها حتى تقرر انسحاب قوات الغزو، فعدت الى القاهرة وآداب عين شمس، ثم حدثت حادثة وضعت حداً لعلاقتك مع الرفاق: أقاموا احتفالاً، وطلبوا اليك أن تقول أنك أصبت في اشتباك مع قوات الغزو لأن هذا - كما قالوا - في مصلحة الحزب ورفضت أن تكذب أو تزيف، فكانت العاقبة أن أبعدوك عن المشاركة، فرددت بأن تركت التنظيم كله لغير رجعة! لا تكن جحوداً، عليك أن تعترف بالفضل لأهله. كانت تجربتك في 1956 ثرية وخصبة: هي المرة الأولى التي تترك فيها دفء البيت ورعاية الأهل لتقضي حوالى شهرين في حياة يومية أقسى مما تعودت، لكنها كشفت لك عن جانب من بلدك لم تكن تعرفه، ووضعتك في علاقات حميمة مع عدد كبير من الزملاء والرفاق. كان المعسكر كله يضم طلبة وعمالاً وصحافيين وفنانيين ومثقفين، وبينهم عدد ليس قليلاً من الزميلات. ثم وضعتك في علاقة انسانية دافئة مع أهل القرية من الفلاحين الفقراء، وفيض عواطفهم نحو شباب صغار تركوا دراستهم وحياتهم ليقيموا بينهم، يدربونهم ويعلمونهم ويشاركونهم حياتهم التي لا تخلو من قسوة وجفاف. مرة ثانية: لا تكن جحودا، فقد كانت تجربتك ثرية خصبة كذلك، كان تنظيم "الحزب الشيوعي المصري" كانوا يطلقون عليه "حزب الدكاترة" لأن مؤسسيه كانوا ثلاثة من الدكاترة في الاقتصاد وعلم النفس يهتم اهتماماً بالغاً بتثقيف أعضائه أكثر ما يهتم بانتشارهم بين الجماهير، وكانت القراءة التي أقلبت عليها في ذلك الوقت تعادل الاتجاه المفرط نحو "الفردية" المتمثل في دراسة التحليل النفسي - الفرويدي خصوصاً - الذي كان سائداً في قسم علم النفس. إن في مقدروي أن اتنبأ لك، وأن أرى من موقعي الآن ما ستلقاه في قابل أيامك. ستتخرج في العام القادم بتقديرات ممتازة، وسيعلن "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية"، عن مسابقة لتعيين عدد من الباحثين فيه، هذا المركز الذي انشئ حديثاً مع سواه من مراكز البحوث التي كانت تحظى برعاية خاصة، وكان العاملون فيها يعاملون كهيئات التدريس في الجامعات من حيث الأجور والامتيازات والبعثات وسواها، وستخوض عدداً من الامتحانات التحريرية والشفاهية، وستحرز فيها جميعاً درجات عالية، وفي الاختبار الشخصي الأخير ستجد عدداً من أساتذتك، وسيتقرر تعيينك فيه، يا لفرحتك. سيتتحقق حلم حياتك في العمل الأكاديمي، و قد انتويت أن تكون بحوثك التالية مزجاً بين الأدب الذي تهواه، وعلم النفس الذي تخصصت فيه، استمراراً وتطويراً لبحوث قليلة في هذا الاتجاه، وستسعى بفرح لإكمال أوراقك، وقد جاوزت العشرين بشهور. وسيأتيك الاعتراض من حيث لا تدري أو تتوقع: من أجهزة الأمن المتربصة. كنت قد نسيت تجربتك - القصيرة العمر - مع الشيوعيين أو كدت تنساها، لكن "أبانا الذي في المباحث" لا ينسى شيئاً، ونحن الان في 1959، وقد فتحت أبواب السجون والمعتقلات على مصاريعها، والتهمت زملاءك ورفاقك وأصدقاءك. آه... ما أقسى الأيام التي ستواجهها! ستحفى قدماك وأنت تسعى - دون كلل، فقد كدت تمسك بأطراف الحلم - ما بين مقر المركز في "امبابة" و"المباحث العامة" في "لاظوغلي"، وسيقول لك المسؤول الخطير في "قسم مكافحة الشيوعيين" في اللقاء الأول بعد طول عناء، سيقول لك مخادعاً ومراوغاً: "أنا يا ابني أعترض عليك؟ أعوذ بالله ! أنا رجل مسلم، وأعرف أن قطع الطريق أهون عند الله من قطع الرزق. شاب متفوق مثلك أعترض عليه؟ لا يا ابني، ارجع الى المركز واسأل هناك، فتعود الى المركز، ويقول لك مديره، الدكتور أحمد خليفة الذي سيصبح وزيراً للشؤون الاجتماعية في ما بعد: "يا فاروق... مشكلتك ليست معنا، إننا لا نريد سوى شباب مثلك يعمل معنا، فلماذا نعترض عليك ونحن الذين اخترناك؟ ارجع إليهم وسوِ مشكلتك معهم". وستعود المرة بعد المرة، وسيضيق بالحاحك المسؤول الخطير، وسيقول لك مهدداً متوعداً في اللقاء الأخير: "أين رفاقك وأصدقاؤك؟ أين فلان وفلان وفلان وعدد لك اسماء كل أعضاء تنظيم آداب عين شمس، لم يهمل منهم أحداً، وكانوا جميعاً في السجون والمعتقلات... ألا يكفيك أنك تسعى في شوارع القاهرة، وتشرب قهوتك من البن البرازيلي"؟ وستقول له ولنفسك - وقد وصلتك الرسالة المبطنة بالتهديد: "يكفيني وزيادة". وستخرج من مكتبه الى شوارع القاهرة الواسعة. هل أواصل التنبؤ بما سيأتي من أيامك؟ ها أنت تتخلى عن طموحاتك الأكاديمية، وتبذل كل الجهد كي تجد عملاً - أي عمل في مثل هذه الدولة المركزية ذات القبضة القوية - أغلقت دونك أبواب العمل فماذا أنت فاعل؟ ستعرف أياماً كالحة، تجوب فيها شوارع القاهرة التماساً لجنيهات قليلة، وستعمل سكرتيراً لتحرير مجلة شهرية تقدم لقرائها "السيكولوجيا الشعبية"، لو صح التعبير، وستقوم بإعداد كتب التراث لأكثر من دار نشر، وستقوم بمتابعة حركة إصدار الكتب في دار أخرى، وستقوم بالترجمة بادئاً بنصوص مسرحية، وقد كنت دائماً من عشاق المسرح، مشاهدة وقراءة، لكنك - وأنت تمارس هذه الأعمال كلها - سوف لن تنقطع عن القراءة والمتابعة، واذا كنت أعجز من ان تشتري ما تشاء من كتب، فإن في "دار الكتب" متسعاً، وأنت مازلت تحمل بطاقتين - كما كنت وأنت طالب - إحداهما تتيح لك الاستعارة من دار الكتب الرئيسية في "باب الخلق" والأخرى تتيح لك الاستعارة من الدار الفرعية في شبرا. كأنني أراك الآن وقد جاوزت أزمتك، وقد كان أحد وجوهها القاسية عليك أن تخليت عن طموحك الأكاديمي، أما الوجه الآخر فهو أن صاحبتك الجميلة تلك لم تطق صبراً، ولم تشأ أن تربط مصيرها - هي ابنة البورجوازية المتطلعة بامتياز - بمصير شاب لا تستقر قدماه على أرض ثابتة، ستتزوج من تاجر سجاد ثري، ولن يقدر لك ان تراها بعد. كانت واحدة في هذا الهجير لكنها استحالت إلى سراب! هل أواصل التنبؤ بما سيأتي من أيامك؟ تعرف أنني أستطيع أن أواصل، لكنني يجب أن اتوقف، سأتركك - إذن - وقد قر في يقينك أن الكتابة هي مستقبلك الذي لا تستطيع أجهزة الأمن أن تحول دون تحققه، وأن "الأكاديمية" قد لا تتمثل في أوراق وشهادات قدر ما تتمثل في دقة البحث وموضوعيته، وأن عليك أن تمضي - بكل قواك - في هذا السبيل، وأن تضع لنفسك برامج للقراءة المنهجية المنظمة، وأن تبقي في حياتك مكانا للصديقات والأصدقاء، وأن تواصل ترددك على تلك الأماكن القريبة من العقل والوجدان، مقهى "ريش" ومقهى "استراند" ومقهى "الفيشاوي" ومقهى "أم كلثوم" ومحل "ايزافيتش"، وأن تواصل شرب قهوتك في "البن البرازيلي" شاءت أجهزة الأمن أم لم تشأ! قبل أن أتركك "تسعى في مناكبها وتأكل من رزقه" دعني أوجه اليك سؤالاً: هب أن دورة الأيام قد عادت بك إلى الوراء، هل ستختار ما سبق لك اختياره؟ أراك متحيراً في الجواب، ولعلك ستقول لي إن مثل هذا السؤال يعني أن أتجاوز ظلي، ولعلك تنوي أن تردد ما قال الأستاذ العميد طه حسين يوماً: لو قدرِّ لي أن أعيد حياتي فسوف أعيدها كما هي. لا أبدل منها شيئاً. فهل أنت صادق في هذا القول؟ ألا تخايلك أطياف "الدولتشي - فيتا" بدل هذا العناء؟ لا أنت تدري، ولا أنا أدري! يكفي هذا، هنا والآن. ولعلَّني ألقاك في رسالة قادمة. ناقد مصري