عندما نشر بنك اسرائيل في 20 اب اغسطس الماضي تقريره نصف السنوي عن الاستثمارات، تزامن ذلك مع تأكيدات مكررة لنتانياهو بان الاقتصاد في احسن حال وان آفاق الوضع تبدو مشرقة، وغير ذلك. توصل التقرير الى ان الاستثمارات الاجنبية انخفضت خلال النصف الاول من 1998 بنسبة 50 في المئة، من 11،2 بليون دولار في النصف الثاني من 1997 الى 04،1 بليون دولار. واذا اُضيف الى ذلك انخفاض معدل نمو اجمالي الناتج القومي بنسبة 5،1 في المئة وارتفاع معدل البطالة بنسبة 4،8 في المئة، فان هذا يعزز الاستنتاج بان الاقتصاد في حال ركود، كما يدل الى ذلك ايضاً الهبوط في سوق العقار وفي مبيعات السلع الاستهلاكية المعمّرة. ومع ذلك يؤكد رئىس الوزراء واتباعه انه حتى اذا كان هذا كله صحيحاً فلا علاقة له اطلاقاً بركود عملية السلام. لكن، ألا توجد علاقة بين المسألتين؟ تراوح الفترة التمهيدية بالنسبة الى الاستثمارات الاجنبية عادة من سنتين الى ثلاث سنوات. هكذا، تعكس الاستثمارات الحالية قرارات اُتخذت، مبدئياً، في 1996. فتأثير التغيير في الحكومة على مناخ الاستثمارات بدأ يتجلى لتوه في الوقت الحاضر. ليست هناك، بالطبع، علاقة مباشرة بين الاداء الاقتصادي وعملية السلام. فوجود آفاق لمزيد من التفاؤل والاستقرار في الاوضاع السياسية الاقليمية يشجّع المستثمرين فعلاً، لكن بعض جاذبية اسرائيل بالنسبة الى المستثمرين جودة قوة العمل، شبكة الاتصالات، مستوى استخدام اجهزة الكومبيوتر يبقى قائماً، وحالما يُكسر حاجز الخوف من الاستثمار في اسرائيل كما حدث في اليابان في 1994 ستستمر بعض الاموال في التدفق. لكن مراقبي سوق الاستثمار لاحظوا، على الاقل منذ مطلع 1997، قدراً اكبر من التردد والقلق. وما يصدر عن وزارة الدفاع والجيش من تصريحات، ربما بهدف الردع، عن خطر تفجر اعمال حربية في حال اعلان قيام دولة فلسطينية من قبل عرفات في ايار مايو 1999، لن يسهم في تخفيف القلق في الاوساط المالية. ليست هناك علاقة مباشرة بين عملية السلام ومؤشرات اقتصادية اخرى ايضاً. فالانخفاض في معدل نمو اجمالي الناتج القومي يرجع، جزئياً، الى استيعاب كل المهاجرين الروس تقريباً في الاقتصاد الذي ادى في سنوات سابقة الى ارتفاع كبير في الانتاجية، والى انخفاض معدلات الهجرة حالياً بعد استقرار الوضع في الاتحاد السوفياتي السابق، والى قواعد نقدية صارمة طبقها بنك اسرائيل بهدف كبح التضخم. لكن خبراء اقتصاديين يجادلون هنا ايضاً بان التراجع في قطاع البناء يرجع، الى حد كبير، الى اغلاق وعزل الاراضي المحتلة في اعقاب اعمال ارهابية، بالاضافة الى انخفاض في عدد المشترين الاجانب للشقق السكنية نتيجة للمخاوف من تفجر اعمال عنف. ويُعزى الى هذه المخاوف ذاتها انخفاض عدد السياح بنسبة تراوح بين 15 و20 في المئة. هناك، اذاً، علاقة من نوع ما بين ركود عملية السلام والاقتصاد، لكن تأثيرها ليس طاغياً او واضحاً، كما جادل حازم صاغية بصواب على هذه الصفحات في 16 اب اغسطس الماضي. ويفسّر عدم وضوح هذه العلاقة لماذا لا يربط جزء كبير من الناخبين الاسرائيليين اطلاقاً بين تذمرهم من الوضع الاقتصادي والسياسة الخارجية للحكومة. وينطبق هذا بشكل خاص على النصف الادنى مرتبة من السلم الاجتماعي - الاقتصادي، اي قاعدة الناخبين التقليدية لكتلة ليكود. فهؤلاء الاشخاص، حسب استطلاعات رأي اخيرة، يضعون عملية السلام في المرتبة الثالثة على جدول الاولويات الوطنية، بعد البطالة والمعدلات المتصاعدة للجريمة. اما الاشخاص في النصف الاعلى من السلم فانهم يضعون عملية السلام في المرتبة الاولى على الاجندة ويشعرون بالقلق في شأن العلاقة بين هذه القضية والاقتصاد تحتل المرتبة الثانية على اجندتهم. وهؤلاء الاشخاص اكثر ميلاً الى التصويت لحزب العمل. احسب ان هناك شيئاً اعمق وراء هذا الموقف. فالاشخاص في النصف الاعلى من السلم يمتازون بمستوى تعليمي افضل ويسافرون كثيراً خارج البلاد ويقرأون الصحف الاجنبية ويشاهدون شبكة تلفزيون "سي إن إن" ويستمعون الى هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي". وهم اكثر ميلاً للارتباط بالصناعات الجديدة ذات الصلة بالتصدير التي ازدهرت في السنوات الاخيرة التكنولوجيا المتطورة، صناعة الادوية، صناعات كيماوية، تكنولوجيا بيولوجية وبالخدمات ذات الصلة الاعلانات، التمويل. انهم، بمعنى اخر، اكثر تداخلاً مع عملية العولمة. فهم يتحسسون مشاعر القلق لدى العالم الخارجي ويطمحون الى الاستفادة من دمج اكبر لاسرائيل في الاقتصاد العالمي، وهو ما يفترض امتلاك رؤية تقوم على الاستقرار الاقليمي وتحويل موارد من الجهد العسكري الى التصدير. لا يميل الاشخاص في النصف الادنى من السلم الى الاقامة في شمال تل ابيب واحيائها، بل في الجزء الجنوبي من هذه المدينة وفي "البلدات الجديدة" التي اقيمت في الخمسينات والستينات. وهم يعملون في صناعات خفيفة مثل صناعة النسيج التي يتوقع ان تحتضر لان اسرائيل لا تتمتع فيها بأي مزايا تفوق نسبي، خصوصاً في مجال التصدير، فيما تتقلص فرصها اكثر فاكثر في السوق المحلية مع خفض التعريفات كجزء من سياسة الانفتاح الاقتصادي. وتمثل العولمة بالنسبة اليهم هماً مقلقاً. ويثير العالم الخارجي حيرتهم، فما تبدو اهتماماته غريبة عليهم. وعلى نحو يماثل كثيراً وضع انصار "الجبهة الوطنية" في فرنسا، تتحول بعض مخاوفهم وردود فعلهم على التفاوت المتزايد في المداخيل - وهي ظاهرة ملحوظة في العقد الاخير - الى عقدة كره الاجانب، خصوصاً ضد الفلسطينيين. اما مشروع "الشرق الاوسط الجديد"، الذي ابتدعه شمعون بيريز، فانه لم يستوهم ابداً، ويبدون تجاهه الان حماساً اقل من اي وقت مضى. فقد تعامل، حسب رأيهم، بود مفرط او سذاجة مفرطة مع "العرب الذين لا يمكن الوثوق بهم"، ويرون انهم لن ينتفعوا من وعوده بتحقيق رخاء يستند الى التصدير. ويبدو ان بيريز لم يستمد شعار "الشرق الاوسط الجديد" من اي تفكير عميق في شأن المستقبل، بل استهدف بشكل اساسي الحد من مخاوف الرأي العام في ما يتعلق بالمغامرة التي اقدم عليها بتوقيع اتفاق اوسلو. وكان تقديراً خاطئاً على صعيد السياسة الداخلية. فهو لم يجتذب الاّ الفئات التي تقف في المراتب العليا من السلم، وهي في أي حال في معسكر حزب العمل. واذا كانت الفئات وسط السلم ايدت اتفاق اوسلو لبعض الوقت، فان موقفها هذا كان في الغالب بأمل انهاء العنف وخفض مدة الخدمة العسكرية التجنيد والاحتياط على السواء. اما الفئات الادنى مرتبة فقد تعاملت دائماً بارتياب، اذ كانت تخشى ان تنتقل مصانع النسيج الى مصر والاردن حيث توجد قوة عمل ارخص كما حدث فعلاً على نطاق صغير مع صناعات "دلتا" وان تغرق سوق العمل بالعمال الوافدين من هذه البلدان. لكن ما يسمى برؤية بيريز، التي تعمق التزامه بها بفضل التكرار والعمل الديبلوماسي، كانت مضللة ليس كمناورة داخلية فحسب بل استناداً الى شروطها بالذات ايضاً. فالشرق الاوسط المندمج اقتصادياً الذي رسم معالمه لم يكن ذا افق واقعي. وتميل اقتصادات الشرق الاوسط الى التنافس اكثر من التكامل، وهو ما يفسّر المستوى الضئيل جداً للتجارة بين الدول العربية التي لا تبلغ سوى 8 في المئة. ومن المستبعد تماماً ان تفوق تجارة اسرائيل مع العرب هذه النسبة بكثير. ويذهب الجزء الاعظم من الصادرات الاسرائيلية الى اوروبا وجنوب شرق اسيا، وهي مناطق اغنى واكثر تطوراً في حاجاتها بالمقارنة مع جيران اسرائيل. وفي أي حال، نظراً لان اكلاف نقل معظم المنتجات التي تصدّرها اسرائيل منخفضة نسبياً فانها ستُضطر الى التنافس في الاسواق العربية مع منتجات من اوروبا وغيرها مألوفة اكثر للمستهلكين ولا تملك اي مزايا تفوق عليها. هناك استثناءات لهذه القاعدة: النفط المصري الذي يُباع لاسرائيل، وبيع تكنولوجيا الري الاسرائيلية لمصر والاردن والمغرب وتونس والخليج. لكنها تستند الى مزايا تفوق يندر وجودها في مجالات اخرى. لا يزال الاساس المنطقي للسلام سياسياً في الجوهر، كنمط للتعايش في عالم متداخل على نحو متزايد، حيث يتوقف الرخاء والازدهار في اي مجال - من اسلحة الدمار الشامل الى التلوث - على الطريقة التي نعيش بها مع شعوب اخرى. هل يعني ذلك انه لا توجد اي ثمار اقتصادية ذات شأن للسلام؟ كلا، بالطبع. فهي لا تكمن في تجنب كلفة الحرب البشرية والمادية فحسب بل ايضاً في تحويل الموارد - بعد مرحلة اولية من الاختبار المتبادل لفاعلية اتفاقات السلام - من الموازنات العسكرية الى الاستثمار في البنى التحتية والتعليم والاتصالات التي ستحفز حتماً النمو الاقتصادي. كما ان بعض التوفير في الموازنات العسكرية قد يُستخدم لخفض المستوى المفرط للضرائب. طرحتُ هذا الرأي على احد مستشاري بيريز قبل ثلاث سنوات وقلت ان هذه هي الطريقة التي ينبغي ان يُقدّم بها "الشرق الاوسط الجديد". ورد بان هذا كله جيد وحسن، لكن مثل هذا الطرح "لن يلقى تفهماً في جنوب تل ابيب وفي البلدات الجديدة". * كاتب اسرائيلي