في تقرير صدر مؤخرا حول المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي عقد في تشرين الثاني نوفمبر الماضي في الدوحة، أكد صندوق النقد الدولي أن بلدان المنطقة تواجه خيارا صعبا، فهي أما أن تواصل إعادة هيكلة اقتصاداتها بهدف التكيف والتكامل مع الاقتصاد العالمي، أو أنها قد تفوِّت الفرصة على نفسها في تحقيق التقدم والازدهار واللحاق بركب العالم المتقدم. ويمتدح التقرير الأداء الاقتصادي للمنطقة خلال العامين المنصرمين بعد أن عانت من الركود الاقتصادي لأكثر من عقد من الزمن. وذكر التقرير بالتحديد أن هذا النمو الاقتصادي الذي عم المنطقة بشكل عام تقريبا، بلغ 4.8$ في عام 1996، ومن المتوقع أن يبلغ 4$ في عام 1997، وتواصل على الوتيرة نفسها تقريبا لعامين متتاليين وقاد إلى ارتفاع حقيقي في نصيب الفرد من الدخل القومي. بينما واصلت الظروف المالية والنقدية تحسنها العام المنصرم وانعكس ذلك بوضوح في انخفاض معدل التضخم وارتفاع احتياط العملات الأجنبية، بالإضافة إلى الانخفاض المتواصل في عبء الديون. ويعتبر هذا إنجازا حقيقيا في منطقة تتميز بتنامي أعداد السكان بمعدل يفوق معظم مناطق العالم. وغالبا ما يؤدي تزايد أعداد السكان إلى ابتلاع كل ما يحققه النمو الاقتصادي من تقدم، بسبب ما يشكله ذلك من ضغط على الخدمات التعليمية والصحية والتربوية في البلد. ويزداد الوضع تفاقما إذا كان عدد الداخلين إلى سوق العمل يفوق باستمرار عدد الوظائف الجديدة الناشئة عن النمو الاقتصادي. ويعزو الصندوق معظم التحسن الاقتصادي في عام 1996 إلى تحسن الظروف الخارجية مثل ارتفاع أسعار النفط، وتحسن الظروف المناخية في بلدان المغرب العربي. إلا أن الصندوق يرى أن التحسن في عام 1997 تكمن وراءه عوامل داخلية، منها على وجه التحديد إتباع العديد من الحكومات لسياسات اقتصادية شملت ترشيد الإنفاق وإعادة الهيكلة والعديد من السياسات المالية والنقدية الأخرى التي تتناغم مع الدورة الاقتصادية الحالية في البلدان المعنية. بالإضافة إلى ذلك فان العديد من بلدان المنطقة بدأ يبتعد عن الخطط الاقتصادية التي كانت سائدة في الماضي وهي الاعتماد كليا على التنمية التي يقودها القطاع العام، مفضلة سياسة الانفتاح الاقتصادي التي يلعب فيها القطاع الخاص دورا اكبر من السابق، ولكن بدرجات متفاوتة من بلد لآخر. ونتيجة لهذه السياسات الصائبة فان متوسط معدل التضخم في المنطقة انخفض إلى 4.12$ في عام 1996 والى ما يقدر من 6.9$ عام 1997، وهو معدل منخفض نسبيا إذا قورن بما وصل إليه في السابق. بل إن مثل هذا المعدل كان إلى عهد قريب يعتبر مقبولا حتى في بعض الدول الصناعية، اذ تجاوز معدل التضخم في بريطانيا مثلاً تسعة في المئة عام 1989 أما الديون المستحقة على دول المنطقة فانخفضت هي الأخرى لعدة أسباب منها حذف الدول والمؤسسات الدائنة لبعض هذه الديون وتسديد دول المنطقة للقسم الآخر. وهناك أيضا بعض الديون لدول مثل الاتحاد السوفياتي السابق ويوغسلافيا السابقة التي تفككت إلى دول اصغر ولم تتفق في ما بينها على تقسيم هذه الديون، يضاف إلى ذلك مماطلة الدول المدينة في تسديد الديون لنفس الأسباب، لذلك فإنها ربما أصبحت في عداد المعدومة. وقاد هذا إلى انخفاض نسبة الديون الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي، من 35$ في مطلع التسعينات إلى 31$ في عام 1996، والى ما يقدر ب 29$ في عام 1997 حسب التنبؤات، بينما انخفض عبء الديون، مقاسا بنسبة خدمة الديون إلى إجمالي الصادرات من السلع والخدمات، في عموم المنطقة من 16$ في السنوات السابقة إلى 11$ في عام 1969. وادى هذا إلى ارتفاع الثقة الاستثمارية بسبب تقلص درجة المخاطرة في السوق وانخفاض تكاليف الاقتراض، إضافة إلى تحسن سمعة المنطقة الائتمانية بين وكالات الائتمان العالمية. ونتيجة لانخفاض مدفوعات الديون وتزايد الأرباح، تنامت رؤوس الأموال المتوافرة للاستثمار. بينما استمر احتياط العملات الأجنبية بالارتفاع بسبب ارتفاع الصادرات وتنامي السياحة في بعض البلدان كمصر وتونس والأردن. وامتدح الصندوق السياسات الاقتصادية التي تتبعها كل من مصر والأردن والمغرب وتونس، واعتبرها نجحت اكثر من غيرها في تطبيق سياسات الاستقرار الاقتصادي الكلي التي بدأتها في مطلع التسعينات. وبالرغم من ان بلدانا اخرى، كإيران واليمن، اتبعت مؤخرا السياسات ذاتها لكنها لم تقطف ثمارها بالكامل ولم تؤد إلى النتيجة نفسها. وربما يعود هذا إلى أن الإصلاحات الاقتصادية لا تؤتي ثمارها مباشرة. ويستثني التقرير من هذا التحسن الاقتصادي الذي عم المنطقة بعض البلدان اذ تعثر النمو الاقتصادي في لبنان على سبيل المثال بسبب الغارات الإسرائيلية في عام 1996 التي تسببت في تدمير العديد من المؤسسات الحيوية في البلد مثل محطات توليد الطاقة الكهربائية، و تسببت كذلك في التباطؤ الحاصل في قطاع الإنشاءات، اذ اجلت شركات الانشاءات مشاريعها بسبب القصف وما نتج عنه من تدمير للمباني على وجه التحديد. وتباطأ النمو الاقتصادي في سورية والمغرب أيضا هذا العام بسبب سوء الظروف المناخية في كلا البلدين. أما الاقتصاد الفلسطيني، الذي تتحكم فيه إسرائيل إلى درجة بعيدة، فقد انكمش للسنة الثانية على التوالي بسبب قيام إسرائيل بإغلاق حدودها مع الضفة الغربية وقطاع غزةمرات كثيرة ولفترات طويلة مما احدث شللا في الحياة الاقتصادية، بالإضافة إلى حجب إسرائيل تحويلات إيرادات السلطة الفلسطينية. أما النمو الاقتصادي في إسرائيل نفسها فان التنبؤات تشير إلى انه سوف يتباطأ في عام 1997 إلى اقل من 2$ مقارنة مع 5.4$ في العام الذي سبقه. ويعود السبب في ذلك إلى تناقص الهجرة والسياحة إلى إسرائيل، الناتج عن تدهور الأوضاع الأمنية في البلد، وتزايد العنف وتراجع عملية السلام بعد مجيء حكومة نتنياهو إلى السلطة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي من شأنها أن تعيق الاستثمارات وتشجع الادخار. وفي هذا الصدد ربما يكون الاخير خدم العرب من خلال إضعافه لإسرائيل اقتصاديا، لكنه مع ذلك عرّض المنطقة بأكملها إلى خطر الحرب وجعل المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء يفضلون الاستثمار في أماكن أخرى. ويبقى العراق البلد الوحيد في المنطقة الذي يعاني من الانكماش الاقتصادي الخطير، الذي اصبح يهدد أهم البنى الأساسية للاقتصاد ألا وهي الكفاءات البشرية التي هجرت البلد بأعداد غفيرة، بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه منذ عام 1990، بالإضافة إلى التداعي المتواصل في مؤسسات البنية الأساسية للبلد التي تفتقر بشدة إلى الاستثمارات. وباستثناء الحالات المذكورة آنفا، فان الأداء الاقتصادي للمنطقة خلال العامين الماضيين يدعو إلى التفاؤل عموما، ولكن رغم ذلك فان صندوق النقد الدولي يصر على أن الاحتمالات الاقتصادية للمنطقة ككل سوف تتأثر سلبا بسبب حالة عدم الاستقرار الاقتصادي الكلي والمعوقات الهيكلية الخطيرة للتقدم الاقتصادي في المنطقة. ففي الوقت الذي يشكل فيه سكان المنطقة، البالغ عددهم حوالي 300 مليون نسمة، 6$ من سكان العالم، فان ناتج المنطقة المحلي الإجمالي، الذي بلغ 750 بليون دولار في العام الماضي، لا يتجاوز 5.2$ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو متخلف عن المستويات السائدة في الكثير من بلدان العالم النامية الأخرى، ناهيك عن البلدان المتقدمة. وإذا أُريد تحقيق التكافؤ بين عدد السكان والناتج المحلي الإجمالي فان الأخير يجب أن يتضاعف مرتين ونصف على الأقل. أما إذا قُورنت هذه المنطقة الشاسعة والغنية بالدول المتقدمة، فان تأخرها يبدو اكثر وضوحا، فهي مثلا تعادل حوالي 65$ فقط من الناتج المحلي البريطاني وحوالي 31$ من الناتج المحلي الألماني، واقل من 10$ من الناتج المحلي الأميركي، علما أن عدد سكان المنطقة يفوق عدد سكان بريطانيا بخمس مرات وألمانيا بأربع مرات ويفوق نفوس الولاياتالمتحدةالأمريكية بحوالي 70 مليون نسمة. وبهدف بلوغ قدراتها الكامنة بالشكل الأمثل فان بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يجب أن تخلق الظروف الملائمة للنمو الاقتصادي المتواصل ويقترح الصندوق على بلدان المنطقة أن تحذو حذو مصر والكويت والمغرب ومؤخرا إيران والأردن في تطبيق برامج الخصخصة وتقليص اللوائح من الاقتصاد وتحرير التجارة وبالتالي تمكين القطاع الخاص من أن يلعب دورا مركزيا في الاقتصاد. إن مثل هذه السياسات من شأنها أن تستقطب الاستثمارات الأجنبية وتشجع المزيد من الاستثمارات المحلية وتقلص من دور الحكومة المباشر في الاقتصاد، وتزيد تنافسية المنطقة عالميا وتسمح لها بالمزيد من الاندماج والتكامل مع الاقتصاد العالمي. بالإضافة إلى ذلك فإنها سوف تساعد القطاع الخاص، الذي لم يتمكن لحد الآن من إقامة الهيكلية الاقتصادية القادرة على التنافس عالميا، على الاستعداد للتعامل مع الوضع الجديد والمساهمة ليس فقط في المشاريع التجارية المضمونة الأرباح فحسب بل في المشاريع الصناعية الطويلة الأمد أيضا. أما دور الحكومات فيجب أن يتركز على بناء الأرضية الصالحة لعملية التنمية وهي إصلاح وتطوير المؤسسات التعليمية والصحية وتشريع القوانين واللوائح اللازمة لحماية الاستثمارات وتنظيمها وتهيئة وسائل تطبيقها وإرساء البنى الأساسية للاقتصاد كالطرق وشبكات الاتصالات والطاقة. إن المنطقة تتمتع بثروات طبيعية وبشرية هائلة وبإمكانها أن تحقق قفزة إلى الأمام إذا ما تم استغلال هذه الثروات على اكمل وجه. ولكن الاقتصاد مرتبط بالسياسة ارتباطا وثيقا، وطالما استمرت حالة القلق وعدم الاستقرار في المنطقة، التي تشكل إسرائيل أهم أسبابها، فان الانتعاش الذي تشهده المنطقة حاليا قد لا يدوم طويلا.