قد يستغرب البعض ان اثير موضوع الجامعة العربية وضرورة تنشيط فكرة وآليات العمل العربي المشترك. هذا الاستغراب منطقي ومتوقع لأن الحالة العربية المتردية تمعن بتهميش فعالية الجامعة وتضاعف الشكوك بمصداقية قراراتها وجدية التزامات الدول الاعضاء بميثاقها وبياناتها. لذا يمكن التساؤل عن الجديد الذي طرأ حتى تصبح دورة مجلس الجامعة، التي تنعقد بعد ايام، مدار اهتمام؟ ولماذا اقحام موضوع يتعلق بالجامعة العربية، والعالم بأسره - كما العرب - منهمك بمعالجة هموم ومشاكل مصيرية كبرى، في حين ان ما تقوم جامعة الدول العربية ومجالسها روتيني، كما ان قراراتها حتى وإن اتخذت على أعلى المستويات تبقى إما مهمشة أو تصاغ بشكل يضمن توافقاً هشّاً يسهل للمشاركين سهولة التنصل، لماذا اذاً، يتساءل البعض، جعل الدورة العادية لمجلس الجامعة العربية مدار بحث ودراسة وتعليق في حين اننا جميعاً نعرف ان مؤسسة الجامعة العربية فاقدة الامكانات والى حد ما الاهلية لمعالجة القضايا الجوهرية والمشاكل الرئيسية التي تواجه الامة اضافة الى التحديات الحادة التي تمعن في التفريق والتشرذم في صفوفنا. لكن على رغم الشكوك اعتقد ان من الضروري ان ننتهز فرصة اجتماع الدورة العادية لمجلس الجامعة لنوجه الانظار الى وجود احتمالات جعلها بمثابة ندوة لوضع معالم رؤيا استراتيجية لمستقبل العمل العربي المشترك في مختلف المجالات وعلى مختلف الاصعدة. اذا لم يتم في الجامعة العربية نقلة نوعية في اسلوب عملها وجودة اجهزتها ونوعية التزام الدول الاعضاء بقراراتها، عندئذ تتحول عضوية الجامعة الى عملية رفع عتب ومن ثم روتنة ادائها وتقليص حتى الادوار الثانوية الموكولة الى امانتها العامة. صحيح ان الإعداد لمثل هذا الاختراق يتطلب مجهوداً فكرياً واعادة نظر جذرية، كما يفترض وجود ارادة واضحة واستشعار بخطورة الابقاء على اوضاع العمل القوي على ما هي عليه. لذا فإن مناسبة انعقاد دورة الجامعة العربية هي فرصة ان نتوجه الى صناع القرار في الاقطار العربية ليدركوا ان الشعب العربي في مختلف اقطاره يشعر باغتراب مخيف ازاء اللااكتراث بهمومه واهتماماته القومية والحياتية. نحن ندرك حدود ما تستطيع الجامعة العربية ان تقوم به لكن في الوقت نفسه نعرف ايضاً الطاقات الكامنة التي تستطيع، إن اعطيت الفرص والامكانات، ان تنهض بالعمل العربي المشترك وتدفعه للمساهمة في سد الكثير من الثغرات الموجودة في الجسم القوي العربي التي اذا بقيت موجودة فسوف يستمر النزيف الذي يحصل من جراء التفريق القائم بين اوطان الامة وداخل معظمها. *** لئلا نتهم بالمغالاة في التوقع - لا نقول في "التفاؤل" - علينا أن نتصور جدول اعمال اضافياً ومختصراً لمجلس الجامعة يتحول بموجبه المجلس الى ندوة لوضع تصور وتحديد رؤيا. هنا لا بد من مبادرة والافضل ان تكون من الامين العام بأن يضع امام المجلس حقيقة الحالة من المنظور القومي حتى يكون المجلس عند التئامه رسمياً مهيئاً لربط المصالح والمواقف القطرية بالاطار القوي العام. واذا توفر مثل هذا التوجه - او التوجيه - نكون قد وفّرنا للعمل العربي المشترك قاعدة انطلاق بعدما فقدت الامة البوصلة وتبعثرت الجهود والمواقف. ان ما نسعى اليه في الظروف القائمة هو حد ادنى من التنسيق الملزم كخطوة نحو ترتيب ما سمي "بيت العرب" الذي سقط سقفه وتداعت جدرانه. نصر على ان يكون التنسيق ملزماً لأن الالزام هو البعد القومي للسياسات الوطنية والقطرية. لكن التنسيق بين الدول الاعضاء يكون بين الحكومات التي تعمل على ترجيح مصالحها على المصالح القومية اذا اقتضى الامر. لكن من اجل درء المخاطر الناتجة عن ارجحية العمل الوطني على العمل القومي لا بد من صيغة تنظيمية تستطيع ان توجد انفتاحاً من جانب الدول العربية على المجتمعات العربية. ثم يمكن توفير هذه الصيغة بايجاد منبر داخل اطار الجامعة يوفر للمؤسسات الاهلية وممثلي المجتمعات المدنية المشاركة في ابداء الرأي بكل البنود المطروحة حتى يتم تجسيد الرأي مع القرار وان يكون المجتمع المدني شريكاً في الدولة وليس مغيباً عنها. هذا، بالطبع، لا يعني ان المجتمع المدني يشارك في تنفيذ القرار، فهذه مسؤولية السلطة التنفيذية، لكنه يعني ان للمجتمعات الاهلية والمدنية حق المساهمة في صنعه. اذا تم توفير مثل هذا المنبر حيث يتفاعل الرأي مع القرار عندئذ يتضاءل الجفاء بين المجتمع والدولة اضافة الى ان المنظمات الاهلية ومؤسسات المجتمع المدني تدرك ان ما تقوم به من مهمات في حقول التنمية والتدريب والبيئة والخدمات الاجتماعية والعمل في تأمين ودعم حقوق المرأة بالمساواة ومقاومة العنف واستدراج السلطات الى ضرورة الحوار الحر من شأنه ان يضمن البعد العربي التلقائي الذي يخرج القرار السياسي من التقوقع وضيق الافق كما يدفع بالقرار الى ان يلاقي تجاوباً ملحوظاً. وليس مهماً ان يتمّ التوافق بين صانعي القرار ونشطاء المجتمعات المدنية، الاهم ان يعتبر كل من الدولة والمجتمع الاهلي انه متمم للآخر، وانهما شريكان في تقرير المصير للوطن وللمواطنين. اعتقد ان على الامين العام لجامعة الدول العربية أن يقوم بمحاولة اولية في هذا الاتجاه، وإلا فإن الجامعة ستبقى في احسن الاحوال منظمة مثل غيرها من المنظمات الرسمية التي تتعاطى الديبلوماسية والى حد ما الاعلام - بشكل يظهر العجز اكثر من تظهيره الطاقات. من شأن حضور المجتمع المدني العربي في اطار الجامعة ان تقدم نموذجاً يمكن ان يمهّد لعملية لملمة الاوضاع العربية وينقذها من الشتات والتيه، كما يجعل الجامعة مؤهلة لادارة الحوار العربي - العربي ولأن يتحول ما تعطيه المؤسسات الاهلية في هذا الشأن الى حيوية ومناعة لأهداف الامة القومية. ففي نهاية الأمر فإن الجامعة مؤسسة قومية قبل ان تكون اقليمية مثل غيرها في اطار الاممالمتحدة. هذا الواقع المزدوج للجامعة يجعلها تتعاطى مع الاحداث وهي تمثل - او بالاحرى - تعبّر عن شرعيتين: شرعية سيادة الدول الاعضاء، وشرعية الانتماء الى الامة العربية وما ينطوي عليه الانتماء من مسؤوليات تقوم - او يجب ان تقوم - اجهزة الجامعة بتعريفها وتوضيحها، كما يؤكد حق المساءلة للاعضاء بعضهم مع بعض مثلما حق مساءلة المجتمعات لسياسات وسلوكيات الانظمة والحكومات في دولها. لأن اهمية دخول المجتمع العربي الى اطار الجامعة واستمرار نمو وجوده الفاعل يجعل كلمة الدول في وصف الجامعة غير مقتصرة على حكومات الدول بل على المجتمعات الاهلية - والمدنية - لهذه الدول. ان مفهوم الدولة لا يجوز ان يقتصر على الحكومة. صحيح ان الحكومة مسؤولة عن تنفيذ القرارات لكنها ليست - ويجب الا تكون مستأثرة بحق التقرير وصناعة القرار. كما ان سيادة الدول العربية محكومة، بحكم انتمائها لامة واحدة، بأن تنظر الى العمل العربي المشترك على انه ممارسة للسيادة بمعنى ان سيادة الامة والعمل على انجاز حقوقها هي من صلب تأكيد سيادة الدول بالمعنى الاعمق والاشمل لمفهوم السيادة. *** صحيح ان الحاحنا على مشاركة المجتمعات الاهلية نابع من الحاجة الى انفتاح متبادل بين النظام السائد والمجتمعات المغيبة. لكن المطلوب ايضاً ان تؤمن الدول الاعضاء للجامعة العربية آلية للمبادرات الوقائية كي تحول دون جعل الخلافات القائمة الى نزاعات والنزاعات الى حروب. ان قيام هذه الآلية صار حاجة ماسة لم يعد في الامكان التأجيل في بت أمرها. فبين الدول العربية خلافات ونزاعات موروثة كما ان عدداً من التطورات المنتظرة وتلك التي تباغت العرب بين الحين والآخر تتطلب ان يكون لديهم جهاز قادر على استباق الاحداث وتدارك السلبي منها والنفاذ الى جذور الازمات الخلافية اضافة الى معالجة الحالية منها. هذا يعني ان على مجلس الجامعة العربية ان يبادر فوراً بتمكين الامانة العامة لا من تأسيس آلية للعمل والاجراءات الوقائية فحسب، بل بدعم هذه الآلية بجهاز للانذار المبكر التي تجعل مهمة الآلية اكثر نجاعة. فالامانة العامة مطالبة بتحليل المعلومات كما ان على الدول ان توفر المعلومات، عندئذ تصبح المداخلة التي تقوم بها اجهزة الجامعة موضوعية وقابلة للتصديق. هذا الجهاز الوقائي يفترض ان يتميّز مسؤولو الامانة العامة بصفتين رئيسيتين في هذا المجال، الالتزام القومي والموضوعية التي توفرها الكفاءة والشعور بالمسؤولية التاريخية. ليس ادل الى حاجة الامة العربية لآلية وقائية وجهاز انذار مبكر مما ينطوي عليه تطوير العلاقات العسكرية بين تركيا واسرائيل وما يجعل من الكيان الصهيوني نقطة ارتكاز لاعادة تنظيم المنطقة بما يتنافى مع المصالح القومية والوطنية للامة العربية. ورغم ان رئيس الوزراء التركي اراد "تطمين" الدول العربية الى نيات هذاالحلف العسكري ابان زيارته للاردن واسرائيل إلا أن هذا دليل آخر على اصرار تركيا الدولة - لا تركيا الشعب - على الاستهتار بحقوقنا والتنسيق مع اسرائيل لفرض هيمنة هذا المحور على المنطقة ككل. اذاً ليس كافياً ان يُدين مجلس الجامعة في اجتماعه المقبل هذا الحلف لكن عليه من خلال اجهزة الانذار المبكر والمحيط بالمعلومات والخطط عن هذا الحلف ان يأخذ الاجراءات - اجل الاجراءات - الوقائية قبل استفحال الازمة وفوات الاوان. نقول هذا وقد استغربنا تصريحاً للامير حسن بأن التحالف التركي - الاسرائيلي هو من شؤون ممارسة السيادة عند الدولتين! ألسنا هنا بصدد السؤال: سيادة اسرائيل على ماذا؟ وعلى أين؟ ما نرغب في تبيانه هو ان تبعثر المواقع في الحالة العربية يقوض احتمال وجود رد عربي موحد مدروس على هذا التحدي السافر للامة العربية بأسرها. ثم كان الاعتداء الاميركي على مصنع الادوية في الخرطوم الذي ادى الى استياء جماهيري عارم. ونظراً الى فقدان التنسيق الملزم بين الاقطار العربية - خصوصاً ان حكومتي السودان وافغانستان معزولتان نسبياً - جاءت المواقف العربية ومواقف الدول الاسلامية مرتبكة اضافة الى كونها تميزت بالالتباس والحرج. جاء بيان الامانة العامة يعبر عن الاستياء والمطالبة بلجنة تحقيق في صحة الادعاءات الاميركية. لكن الموقف بقي محصوراً بالإعلان عن مواقف تضامنية كان الدافع لها امتصاص الاستياء اكثر من تحديد موقف سياسي حاسم. كان مرد الالتباس ان الغضب الشعبي تزامن مع رواسب اقتناعات بأن كلاً من الدولتين - السودان وافغانستان - له خلفية في تمكين التطرف والعنف من العمل. هنا نجد كيف يمكن جامعة الدول العربية ان تترجم مضامين بياناتها في هذا المضمار كونها تتجاوب مع المشاعر الشعبية وتتباين مع الحكومات العربية. الاهم هو استعداد الجامعة لأن توظف الشكوك حول ادعاءات الولاياتالمتحدة بقرار دولي يدين العملية ويعيد بناء المصنع كتعويض وردع للميل نحو المغامرات العشوائية. هذان المثلان - قيام محور تركيا واسرائيل من جهة والعدوان على السودان - يدفعان المسؤولين في الدول العربية الى اتخاذ الخطوتين الفوريتين: تجسير المجتمعات المدنية العربية مع النظام العربي السائد وتوفير آلية للعمل الوقائي داخل اطر الجامعة العربية. هذا بالاضافة الى القضايا والمشاكل العالقة التي ستنشأ. اذا تمكن مجلس الجامعة العربية من اتخاذ هاتين الخطوتين يصبح في امكاننا ان نتخلى عن التشاؤم ونستأنف الطموح بأن البيت العربي مرشح مرة اخرى لاستقبال مواطنيه وانه يشكل الاطار الاسلم لخطاب عربي جديد يعيد للعرب روابطهم العضوية والمصيرية كما يعيد للهوية العربية مرجعيتها وانسانيتها. هذا ما يفسر اقتناعنا بأن مناشدة مجلس الجامعة المنعقد بعد ايام هي في محلها ونأمل بأن يكون الاستغراب الذي اشرت اليه في بداية هذه العجالة في غير محلها!.. واذا تبين ان "لا حياة لمن تنادي" عندئذ اقدم للقارئ اعتذاراً موقتاً لانه لا مفر من اعادة الكرة. المهم ان لا يفسر هذا الاصرار كونه مكابرة... أو انقطاع عن المعرفة. *** تشكل دعوتنا لمجلس الجامعة العربية ان يأخذ الاجراءات اللازمة لاستقامة البنى الهيكلية لآليات ومؤسسات العمل العربي المشترك. بمعنى آخر التوجه الى الجامعة نابع عن كونها المؤسسة القومية الوحيدة في غياب مرجعية قومية ذات قدرة على التعبئة والتنظيم والايحاء بالثقة. ومع علمنا ان الجامعة العربية غير مؤهلة بوضعها الحاضر ان تقوم بأية من المهمات الصعبة الا أنها تبقى وحدها الاطار الذي يؤكد عروبة الهوية. هذا في حد ذاته خدمة تؤديها الجامعة عندما تشهد محاولات فكرية وسياسية تجعل من الهوية العربية ولأهة نظر بدلا من انها الهوية الجامعة. لكن تأكيد الهوية يجب ان تكون مسلّمة ننطلق منها الى الامساك بمفاصل العمل القومي. فالهوية نقطة انطلاق وليست نهاية المطاف. لذلك فإن جامعة الدول العربية برغم تخلفها وتراجعاتها وتناقضاتها وازماتها ومساعي العديد من الانظمة والحكومات لتهميش دورها تبقى الجامعة عنوان لعروبة الانتماء، وبالتالي تستمر شرعية وجودها من ميزتها القومية. لكن الاكتفاء ان الجامعة العربية عنوان هوية من دون أن تكون ذات مرجعية يفقدها - كما هو حاصل الآن - حتى الصلاحيات الممنوحة لها بموجب الميثاق الذي بدوره بحاجة ماسة الى التعديل ولمراجعة نقدية صارمة. *** امام جامعة الدول العربية مهمات تنتظرهاوانا اعتقد ان على الامين العام ان يعتبر موقعه المعنوي بمثابة قوة تصحيح، وعليه ان يطالب بأن تقوم الدول العربية بواجباتها نحو المؤسسة التي يقودها اذا ارادت الدول الاعضاء ان تقوم بالمسؤوليات والواجبات التي اوكلت اليها. اما ان يتصرف معظم الدول كأنه لا يريد للجامعة ان تعوم وبالتالي لا يريدها ان تتحرك في مجالات التوعية والتوجيه فإنه يريدها ان تستمر بحالة العجز التي هي فيها وان تبقى منظمة لرفع العتب. ان الخطوتين اللتين وصفناهما تشكلان بداية، ولا بد من ان تتبعهما خطوات جهوزية وعملية حتى تحول دون تفرد الدول باجراءات من شأنها المس بالمصلحة القومية العليا. وبرغم الادلة الدامغة على وجود مساس في وحدة المصير الا ان الوقت لم يفت بعد. لعل مناسبة انعقاد المجلس احدى الفرص الاخيرة ليبادر الامين العام للجامعة ان يثبت ان الجامعة مؤسسة قومية موكول اليها لملمة الاوضاع ومن ثم التنسيق الملزم ومن ثم الاعداد لتسليم الاجيال العربية القادمة. امة تتجه نحو وحدتها بدلاً من الاندثار الذي يميز حالتنا الراهنة. واذا وجد الامين العام نفسه عاجزاً عن القيام بهذا الاختراق تكون الامانة العامة فوّتت مرة اخرى على نفسها فرصة لصناعة التاريخ. عندئذ يصبح محتوماً ان تأخذ مؤسسات المجتمع الاهلي العربي المبادرة بتحويل وحدتها القومية التلقائية الى حركة عربية شعبية شاملة، وان تعتمد خطاب قومي جديد يرتكز على التزام مبدئي بحماية البيئة وحقوق الانسان ومشاركة المرأة والتونمية الاجتماعية. لقد كانت القومية العربية مرتبطة بالفشل امام المشروع الصهيوني كما بانظمة قمع لقد حان الوقت ان تظهر الحركة العربية بمضامينها الحضارية والديموقراطية والانسانية. كون الحركة لم تتبلور بعد هل يمكننا ان ننتظر من الجامعة العربية مساهمة في المشروع النهضوي المنتظر. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن.