ثمة دروس علينا أن نستوعبها وأن نهضم مغزاها في الذكرى الثامنة لحرب الخليج الثانية التي اندلعت اثر غزو قوات النظام العراقي دولة الكويت. كان الغزو خرقاً واضحاً لميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة. وأكثر من ذلك، شكل الغزو، ومن ثم الضم، تشويهاً مريعاً لفكرة الوحدة العربية وللمدلول الحضاري الذي ينطوي عليه كل توجه أو تحرك نحو الوحدة. لذا، استحقت هذه العملية الإدانة الجماعية التي صدرت من جانب الجامعة والأمم المتحدة. هذه الوقائع صارت معروفة ومقبولة، لكنها تبقى ناقصة إذا طرحت على أنها الوصف الكامل للأيام الصعبة بعد الغزو، وللأشهر والسنوات الأصعب التي تلتها. أثناء الأيام الصعبة بين الغزو والقمة التي عقدت في القاهرة، 10 إلى 12 آب اغسطس عام 1990، أخفقت الدول العربية وجامعتها في القيام بمحاولة جماعية لاحتواء الأزمة بما يتناسب مع عودة السيادة للكويت، وايجاد آلية ذات مصداقية لمعالجة ادعاءات الغبن والتحقيق فيها وايجاد الحلول العادلة التي يرتأيها المنهج الموضوعي والقانوني. سُميت هذه الاقتراحات آنذاك "دعوة لايجاد حل عربي"، وكأن في هذا الوصف تهمة إلى دعاتها، في حين ان الدعوة استهدفت استباق تفاقم الأزمة والانقسام من جهة، واستدعاء القوات الأجنبية تحت مظلة قرارات دولية. أقف عند هذه النقطة كي أوضح بعض الملابسات التي أحاطت بالدعوة إلى الحل العربي. لم يكن هناك حل عربي قائم، بل كانت الدعوة أن تكون هناك محاولة لايجاد حل، فإذا نجحت نكون قد جنبنا الأمة المآسي التي لحقت خصوصاً بشعب العراق. وإذا فشلت المحاولة، أي إذا رفض النظام العراقي الامتثال لصيغ الحل، تأمنت عندئذ وحدة الأمة في وسيلة مجابهة غزو دولة الكويت. كان منتظراً أن تعارض دولة الكويت نظراً إلى معاناة شعبها إثر الاجتياح، ولمحاولات الطعن برموز الدولة وقياداتها. ويجدر بالذكر في هذا المضمار أن أشد معارضي محاولة الحل العربي هم من الذين كانوا أكثر المتحمسين لدور قيادة صدام حسين أثناء حرب الخليج الأولى مع إيران. جاء مؤتمر القمة وانكشف الصدع في المواقف العربية. ونما شك لا في القدرة العربية على مجابهة التحديات المماثلة فحسب، بل بالهوية العربية نفسها. أكثر من ذلك، صار كل اعتراض على الانزال الأميركي الدولي في صف "الضد"، وصُوِّر المعترضون كأنهم يؤيدون عملية الغزو وأنهم من أنصار نظام العراق، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. أدى اجهاض فرصة الحل العربي إلى بروز تيار متصاعد ضد التدخل الأميركي المتستر وراء قرارات مجلس الأمن، وكان مصدر قيام هذا التيار مجابهة الهيمنة الأميركية وازدواجية المقاييس التي اعتمدها الأميركيون في تعطيل القرارات المتعلقة بعدوانات إسرائيل. ما يمكن استخلاصه في هذا الشأن هو أن نتمنى على المؤسسة القومية المتبقية - جامعة الدول العربية - ان تنشئ داخل إطارها آلية للديبلوماسية الوقائية، وتزويدها بوسائل تمكنها من استكشاف عوامل وأسباب الخلاف كي تتمكن من تجنيب تحوله إلى نزاع. ويتطلب هذا بدوره أن تسهم الدول الأعضاء عبر هذه الآلية بالمعلومات الاضافية عن كل خلاف أو نزاع قائم كي يتم تحليلها بتجرد كامل وتكوّن، بالتالي، صيغة لحل النزاعات العربية تكون مقبولة وقابلة للتنفيذ. صحيح انه ليس بين الأقطار العربية نزاعات من درجة ومستوى النزاع القائم بين النظام العراقي ودولة الكويت، لكن هناك مشاكل حدودية وغيرها تستوجب السرعة في قيام هذه الآلية لتدارك كل ما يعطل مقومات الحد الأدنى من التضامن العربي. مع سقوط محاولة الحل العربي من خلال القمة المنعقدة في القاهرة في منتصف آب 1990 التبست الأمور على الجماهير العربية والعديد من طلائعها المثقفة. كان الالتباس ناتجاً عن العجز في تحديد أي الخروقات يتطلب المجابهة والتعبئة القومية: عدوان النظام العراقي على دولة الكويت وما تبعه من تداعيات في الحال العربية، أم تحول الغزو الى فرصة مكّنت الولاياتالمتحدة من خلال نفوذها في مجلس الامن من ان تحكم قبضتها الاستراتيجية على منطقة اعلن مسؤولوها مراراً ان مصالحها النفطية فيها لا تتحمل اية مساءلة او تقطع؟ الصحيح ان غياب الحل العربي جعل الاولويتين متكاملتين، بحيث ان التحدي الاول الغزو مهد للاختراق الخطير. لكن في المناخ العام السائد آنذاك لم يكن بالامكان استيعاب حقيقة التكامل. أدى هذا الوضع الى بروز خطاب عربي جعل من "أنصاف الحقيقة" بديلاً من الحقيقة المتكاملة. فالذين اعطوا الاولوية للتحدي الذي شكله الغزو اعتبروا ان كل جهد ما عدا المجابهة مع العراق هو هدر للطاقات العربية والدولية المطالبة بتحرير الكويت ومعاقبة العراق. من جهة ثانية، فإن الذين تخوفوا مما ينطوي عليه التدخل الاميركي - المتلطي بالشرعية الدولية - من اخطار بالغة الاهمية بالنسبة الى قضايانا المصيرية صُوّروا على انهم بصدد تمييع الاجماع بشأن الالتزام بتحرير الكويت، وباتوا يناصرون بالتالي، بوعي أو بلا وعي، النظام العراقي. في هذه الأثناء اشتبكت النصوص وحصل استقطاب خاطئ ادى الى مزيد من التبعثر في الوقائع، كما تم افتعال معارك فكرية لم تكن في وقتها ولا في محلها. استتبع هذا الاستقطاب الخاطئ ان توزع المثقفون الى خنادق فكرية وسياسية متصادمة غيبت دورهم الريادي، خصوصاً ان الكثير منهم لم ينفذ الى جوهر المشاعر الشعبية السائدة ولا الى سلامة المقتضيات القومية. اضف الى هذا العنصر ان معظم الانظمة العربية وجدت في هذه الازمة فرصة لتصفية حسابات متراكمة بينها، ومع اطراف النزاع. توالت الاسابيع وظل النظام العراقي متمسكاً "بحقه" في احتلال الكويت كما في ضمها. وبرهن النظام على انه عاجز عن قراءة الاوضاع والمستجدات القومية والاقليمية والدولية بدقة، ما ادى الى وقوعه في الافخاخ التي وضعها له كل المتربصين بالحقوق القومية والاهداف المشروعة للشعب العربي في كل اقطاره. تصرف النظام العراقي كأنه صار مدمناً على المجابهات من اجل المجابهة. واستشرس في عناده، فاستشرس المتربصون بالعراق وقاموا بالعمليات العسكرية وشنوا الغارات الجوية على مرافق العراق، العسكرية منها والمدنية، ما ادى الى خسائر جسيمة نعرف جميعاً نتائجها الوخيمة على الشعب العراقي، اضافة الى انتقاص في سيادة العراق على اراضيه وفي اجوائه. مع شراسة الفعل العراقي والشراسة المقابلة تبددت، لسنوات عديدة، محاولات عقلنة سلوك الحكم العراقي وفرملة الولاياتالمتحدة وبريطانيا، بل أمعنت واشنطن ولندن في جعل العراق كبش المحرقة ومسرحاً مستباحاً لممارسة سيطرتهما على مصائر المنطقة. وتوالت السنوات، وصار على العالم ان يتعامل مع عراقين: عراق النظام وعراق المجتمع. كانت مآسي الشعب العراقي وإحاطة الناس بها في الوطن العربي وعلى الصعيد العالمي مدخلاً للتفريق بين الحكم والشعب. وجاءت العقوبات التي فرضها مجلس الامن، بزعامة الادارات الاميركية المتعاقبة، بمثابة عملية استنزافية مدمرة للمجتمع في العراق، في حين لم تمس هذه العقوبات، بالنسبة نفسها، فاعلية النظام وانماط حكمه. كانت الخسائر في الارواح - خصوصاً الاطفال - والانخفاض المريع في مستوى المعيشة للمواطنين، اضافة الى ممارسات القمع من أجهزة السلطة، عناصر ساهمت في تهميش، ومن ثم "حذف"، المواطنين من أي اعتبار أو خطة للمستقبل. فممارسات السلطة عطلت الوجود الفاعل للشعب والعقوبات الدولية أهملته، فيما كانت اللامبالاة تجاه محنته ميزة السلوك الاميركي وإلحاحه على استمرار فرض العقوبات، وكأن الولاياتالمتحدة أدمنت على عرض عضلاتها في المنطقة من خلال الموقف اللاإنساني المتعنت. عندما وضحت صورة "المصيدة" التي وقع الشعب العراقي ضحيتها، وأدركت الشعوب العربية مدى المحنة التي ألمت بالمجتمع العراقي، بدت ملامح التمرد على الحال التي اوصلت العراق الى هذا الدرك من الانحدار. كان الدافع الى حركة التمرد ان الشعوب التي ناصرت الكويت في عملية التحرير هي نفسها دعت للتفريق بين النقمة المشروعة على غزو الكويت وبين الانتقام غير المشروع من شعب العراق. ولم يكن هذا موقفاً سياسياً فحسب، بل موقف مبدئي ووجداني ايضاً. أدرك العرب ان ما يعانيه شعب العراق هو استنزاف مقصود للطاقات الابداعية الكامنة، فاستحضروا عطاءات الشعب العراقي في الأدب والثقافة والعلوم والفنون العربية، والخدمات الجلى التي قدمها العراق على مدار التاريخ المعاصر للمدارس والجامعات، إضافة الى دفاعه عن قضايا العرب في المحافل الدولية. ادرك العرب ايضاً ان المجتمع العراقي شريحة رئيسية من المجتمع العربي ككل، وانه لا يجوز ان تتحول ظرفية مزاجية الحكم الى ديمومة عذاب المجتمع والشعب. مرت السنوات وأخذت الصورة تتوضح اكثر فأكثر. أدرك بعض اعضاء مجلس الأمن الدائمين ان الإصرار الاميركي - البريطاني على إبقاء العقوبات كما هي ليس سوى محاولة "أمركة" قرارات مجلس الأمن، واغلاق المنافذ أمام الاممالمتحدة لإيجاد الحلول التي من شأنها توفير ظروف تؤدي الى امتثال العراق لقراراتها من دون ان يتحمل الشعب العراقي وزر هذه العقوبات الغابنة. عكس التململ من قبل اعضاء مجلس الأمن والمجتمع الدولي أزمة الضمير في الوطن العربي من جهة، وأبرز من جهة ثانية الاستئثار الانكلوساكسوني في صياغة القرارات الدولية وفرضها على العالم. ان "تمرد" الوجدان العربي لنصرة شعب العراق وتململ قوى رئيسىة في المجتمع الدولي يمهدان الطريق من أجل القيام بمبادرات عربية ودولية من شأنها ان تؤدي الى عودة المناعة الى الشعب العراقي، وتمكينه، بالتالي، من اعادة بناء العراق دولة ومجتمعاً، ومساعدته على ارساء معالم نظام منفتح على القضايا التي تهم المواطن من حيث تلبية حاجاته واحترام رأيه وحقوقه، والتزام المشاركة في الحياة العامة. ان استمرار العلاقات العراقية مع الاقطار العربية على حالها الراهنة من ترد وخصومة سيؤدي الى توسيع الشرخ الحالي، ويسهل، بالتالي، سياسة التعالي والإملاء التي تمارسها لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، وان يبقى العراق معزولاً بشكل يجيز استباحة أراضيه من دون رادع أو عقاب. كانت استباحة العراق المتكررة من جانب تركيا من جهة ولجنة التفتيش الخاصة من جهة ثانية الدافع في مداخلة الأمين العام للامم المتحدة وتأكيده على ان الأمانة العامة هي المرجعية، وترجيح سياستها، بالتالي، على سلوك التعالي والمساعي لإلغاء أي دور للعراق في وطنه العربي وتكريس الخلل في وضعه الراهن فيه تمهيداً لاستباق أي دورمستقبلي له. الآن، وقد مر على مأساة العراق الحالية ثماني سنوات، علينا ان نجيب عن سؤال واضح هو: ما العمل؟ كيف يمكن للعرب الاسهام في مساعدة العراق على العودة الى عافيته، دولة ومجتمعاً؟ طبيعي ان لا يكون لدينا إجابة واضحة مثل وضوح السؤال. لكن هذا لا يعفينا من بدايات تصور لما يمكن عمله، ومن ثم ان ننتقل فكرياً الى ما يجب عمله. علينا في هذا المضمار تكثيف الاحتضان القومي العام لشعب العراق من خلال مضاعفة المساعدات الغذائية والصحية والتعليمية حتى ولو أدى ذلك إلى تجاوز العقوبات المفروضة. هذا الاحتضان يلغي بدوره فاعلية حملات التشكيك بنجاعة العروبة كما كانت الحملات نفسها تعمل ل "تكفير" الشعب الكويتي بانتمائه العربي. هذا الاحتضان يجب ان يكون شاملاً، بمعنى ان تشارك فيه كل القوى العربية، وان تكون دولة الكويت نفسها في طليعة رواد الاحتضان لهذه المبادرة السخية. ان مثل هذه المبادرة سيكون بمثابة "الثورة السلمية" التي تعيد اللحمة الى الجسم السياسي العربي المريض. ومثل هذه البوادر أخذ في الظهور حتى عند الذين تضرروا من غزو الحكم العراقي دولة الكويت، وان بنسب متفاوتة. قد يقول الواقعيون انه مستحيل أو مستبعد جداً. وقد يكون هؤلاء الواقعيون على صواب. لكن صحوة الوجدان في كل أقطار الأمة - بما فيها الكويت - قد تشكل، في نهاية المطاف، وتبرز "العملية التصحيحية" في الواقع العراقي وعلى مستوى الأمة بأسرها، تلك العملية التي طال انتظارها. الظلم الذي ألحقه حكم العراق بدولة الكويت، والظلم الأشمل الذي تلحقه العقوبات المستمرة على شعب العراق، يبقى عبئاً على الضمير الجماعي للعرب. المسؤولية القومية تفرض عليناواجباً جماعياً لاخراج عراقنا من المصيدة الخانقة التي أوقع الحكم نفسه فيها ودفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً... وباهظاً جداً. نرجو ان السنة الثامنة لهذه الذكرى هي الأخيرة... وان تؤخذ في الأيام والأسابيع والاشهر المقبلة الخطوات والاجراءات والقرارات التي تعيد الى العراق استقامة أوضاعه وحيوية الابداع والكرامة لشعبه العزيز على قلوب العرب. * مدير مركز "عالم الجنوب" في الجامعة الاميركية في واشنطن.