مرة ثانية في غضون اسبوع تصل الازمة بين نظام العراق و"اونسكوم" الى شفير الهاوية. مرة اخرى خلال اسبوع واحد نجد ما تجنبناه قد يتحول واقعاً في الايام المقبلة. مرة اخرى يستحضر الرئيس صدام حسين مقدرته الفائقة على ايقاع العراق في المصيدة التي تنصب للعراق بغية انجاز المزيد من التهميش لدوره ولمستقبله. مرة اخرى تعود الى سطح السياسات الاميركية العناصر والقوى التي اعتبرت ان تجنب الضربة العسكرية سابقاً عرّض مصداقية الولاياتالمتحدة للاهتزاز. مرة اخرى يعمل دعاة الضربة - او الضربات - العسكرية للعراق على تحريض الرئيس الاميركي كلينتون ودفعه الى القيام بالغارات الانتقامية الضخمة والمتتابعة على المؤسسات العراقية. مرة اخرى تعود "اونسكوم" الى الواجهة لتطمس فاعلية الامانة العامة للامم المتحدة واجهزتها وممثليها. مرة اخرى وفي اقل من اسبوع نجعل المجابهات عادية، منها ما يتطلب استخدام الترسانة الاميركية ومنها ما تتطلبه - وبصعوبة متزايدة - الجهود الديبلوماسية المكثفة. هذا الوضع او بالاحرى هذه الحال التي تتعقد يوماً بعد يوم تتحول الى عبء اضافي على الامة العربية، وعلى الوجدان العربي الذي يعتبر ان التزامه يكمن في مسعى عربي جاد لاخراج الشعب العربي من معاناته بل من محنته المستمرة. على من تقع مسؤولية هذا الاستقطاب الحاد والخطير؟ على نظام العراق الذي "يتشاطر" من دون اي حساب لموازين القوة اقليمياً ودولياً، ام على الولاياتالمتحدة وبريطانيا التي تتصور نفسها صاحبة الحق المطلق في املاء سياساتها "الشرق اوسطية" المنبثقة عن سياساتها الداخلية على العرب اجمالاً؟ لماذا يا ترى نترك للادارة الاميركية والكونغرس وضع اجندة وتمويل لقيام معارضة تشكلها وتدرب بعض عناصرها اجهزة تابعة لاستخباراتها ما يدفعنا الى الظن بأن التزامها هذه "المعارضة" المتناثرة المتنوعة الاهداف والخلفيات ليس بهدف التصحيح بل بهدف الارباك؟ لأنه اذا كان لا بد من تصحيح مطلوب ومرغوب في الوضع العراقي فان السبيل يكمن في رفع كامل للعقوبات الجائرة على العراقيين. بمعنى آخر ان جذور قوى التصحيح وتأمين استقامة انماط الحكم في العراق تكمن في عودة الحيوية للمجتمع العراقي هذا المجتمع الذي تكاد العقوبات الجائرة تحوله الى اشلاء والى شل ارادته وفعاليته. لانه اذا استرجع المجتمع العراقي عافيته فهو الكفيل ان يجعل المجتمع شريكاً للدولة بدلاً من ان تكون آليات الدولة هي وحدها السائدة والمتحكمة بالمصير. ان التوتر الذي تحدثه اعادة الكرة في افتعال ازمة وايصالها الى حافة الهاوية من جانب نظام العراق والادارة الاميركية يشكل عبئاً ثقيلاً ايضاً على المجتمع الدولي وعلى اعضاء مجلس الامن الموكول اليهم ادارة الازمة ومعالجتها. في هذا الصدد نجد ان هناك مخاطر كثيرة في طليعتها الارهاق الذي يعتري الدول الاعضاء التي تعمل على تجنب الازمة، وبالتالي تجنب الاصطدام.، هذه الدول التي تدرك ان عناصر متربصة للعراق تقوم بدورها الى رفع وتيرة الازمة لكنها تبقى مذهولة امام انفراد النظام العراقي تكرار مواقف سابقة اعتبرت بحق او بباطل كونها استفزازية. صحيح ان كثرة من اعضاء مجلس الامن تدرك ان آلية "اونسكوم" تستفز بدورها ومن خلال استعمال رئيسها خطاب فظ ومتعالٍ تتصرف وكأن هدفها هو التبرير المسبق لقيام ضربة عسكرية لاحقة لا اقناع النظام العراقي بالامتثال للقرارات الدولية ذات الصلة. ثم يتساءل المرء ماذا يريد المحور الانكلو - اميركي من مسلسل الازمات؟ كيف يوفق هذا المحور مطالبته نظام العراق الامتثال وتنفيذ قرارات مجلس الامن ومن ثم يعمل على "تنظيم" ما يسميه بپ"المعارضة" او قيامها بما تمليه المصالح الانكلو - اميركية في المنطقة؟ الا يعتقد هؤلاء "المعارضون" ان اهليتهم قيادة المجتمع العراقي مكبلة داخل اطار ما ترتأيه مصلحة المحور؟ الا تعتقد هذه "المعارضة" ان عرابها يعي تمام حدود امكاناتها كون جذورها داخل الشعب العراقي غائبة وان كان لبعض رموزها بعض الرصيد المعنوي والتاريخي؟ ألا تدرك هذه "المعارضة" انه بمجرد النظر اليها كونها مكفولة فهذا في حد ذاته يحيد حتى اكثر المتضررين من ممارسات نظام العراق؟ كل هذه الاسئلة وسط هذيان الناتج عن الازمة المتكررة لن تلاقي الاجوبة المقنعة والواضحة والصريحة. فتكرار الازمات يعطل قدرات استنفار العقل ومن ثم القيام لا ببلورة الاجوبة بل بتنظيم ابلاغها وتعبئة سياسية وقومية لجعلها نافذة وناجحة بنفس الوقت. المهم في هذه الحال ان لا تبقى الدول العربية مهمشة كما هي الآن، وان لا يبقى التعامل بين العراقوالولاياتالمتحدة منحصراً بهما وبهذا الشكل، وان تعمل المجموعة العربية على ايجاد قوة ردع سياسية وديبلوماسية من خلال تنسيق مواقفها وتوحيدها على التأثير في انماط التصرف لكل من طرفي النزاع. لان تكرار الازمات، كما هو حاصل هذه الايام، من شأنه ان يعرض الامن القومي لمخاطر اضافية اذا لم نتداركها فوراً فقد نصبح اكثر عجزاً مما نحن عليه الآن في ايقاف النزف لفاعليتنا ولاحترام الغير لحقوقنا ومصالحنا ولمشروعية اهدافنا. ما نشاهده هذه الايام، الزاخرة بحدة التوترات واحتمال الضربات العسكرية في اي وقت وبحال التشتت العربية، هو اقرب الى اختناق يدفع المسؤولين والكثير من المثقفين والمفكرين الى التقوقع والانغلاق، والى ان ما هو حاصل سيستمر وبالتالي فان اي مجهود هو تمرين في العبث. نعود مرة اخرى الى مركزية الشعب العراقي في المعادلة القائمة وفي المعادلة المطلوبة. وعلينا بادئ ذي بدء ان نعيد مآسي الشعب في العراق الى صلب الاهتمام العربي والدولي. نحن نجد ان نظام العراق يعلن ان تنفيذ قرارات مجلس الامن مرتبطة بمراجعة نظام العقوبات، كما ان اي تردد في قيام الادارة الاميركية بضربات عسكرية ناتج عن مخاوف بأن ضحايا مدنية ستحصل. بمعنى آخر، اعتقد ان الوقت حان لتوظيف المقولتين - أكانتا صادقتين أم لا - في تسريع جعل محنة الشعب اولوية دولية بشرط ان يسبق مثل هذا الانجاز جعل رفع العقوبات اولوية عربية. وهذا لن يتم الا بأن تتوحد المواقف. يتعين علينا، اذاً، التعجيل بعمل حاسم يفصل بين اي نقمة على نظام العراق والحيلولة دون التساهل الذي يؤول الى الانتقام من شعبه. ونتساءل هل من احتمال اعادة تفعيل اجهزة العمل العربي المشترك؟ هل صحيح ان عضوية الدول العربية في جامعتهم هي مجرد رفع العتب؟ ألم يحن الوقت ان تقوم الجامعة العربية بمهمتها الاولى تجميع الدول ولملمة شملها وتنظيم تعاونها والسعي الدؤوب الى التنسيق في ما بينها؟ هل من قضية اكثر من معاناة الشعب العراقي قادرة على انتزاع شبه اجماع في الموقف؟ الا يوجد فرصة سانحة لدفع الامين العام للامم المتحدة الى ان يكون اكثر حضوراً في العراق حتى يحول هذا الحضور الاندفاع المتبادل نحو حافة الصراع؟ أليست مسؤولية العرب في هذه الحال الاسهام الخلاق في ايجاد آليات تعالج الازمات الاجتماعية والصحية والاقتصادية للعراقيين وتساهم فيها كل من الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي بالمهمات الانسانية باشراف الاممالمتحدة؟ أليست الاندفاعات المتلاحقة نحو التصادمات كافية لتحفيز الاقطار العربية ان يكونوا في طليعة المتداخلين. هل انفكت مصائر العرب عن بعضها البعض الى درجة فقداننا حسّنا بوحدة المصير والهوية؟ مرة اخرى نستاءل هل اسقطنا شعبنا في العراق من حساباتنا وحذفناه من التخطيط لمستقبل اجيالنا؟ الم نتلقن بما فيه الكفاية ان فقدان التنسيق بين مواقفنا العربية يكاد ان يفقدنا فلسطيننا؟ ألم ننفذ الى حقيقة ثابتة في هذا العصر ان الخصوم يتعاملون معنا "بالمفرق" ويحاربوننا بالجملة؟ ألم ندرك بعد ان اصرارنا ان يتعامل معنا العالم كوننا متماسكين هو ما يؤمن لمواقفنا الاحترام حتى ولو لم يؤمن لنا باستمرار الموافقة؟ اعترف بأننا في ما نواجهه من تحد يجعل الاجترار سمة ملازمة. والاجترار تعبير عن الضجر الذي يواكب التكرار، لكن في هذه الحال علينا ان نؤكد ان التكرار هو انعكاس لرغبة ملحة في الاصرار. لذا فاذا كان لا بد من ضمير، فليكن، لأن تعويدنا على الرضوخ لحتمية معاناة ومحنة الشعب العراقي هو في نهاية المطاف جريمة لا بحق الشعب العراقي فحسب بل بحق الامة دولاً ومجتمعات وشعوباً. فاذا حدث ما قد نتوقعه ونرغب في تجنبه يكون الاستقطاب الشرس سبق كل مناشدة وعطل استنفار العقل… والعقلانية. اذا حصل المرفوض وتم الامعان بروتنة محنة الشعب العراقي عندئذ سوف نورث الاجيال العربية التفليسة التي نكاد، اذا بقينا على ما نحن عليه، ان نعلنها. قالوا لي "على من تقرأ مزاميرك" قلت برغم رجحان التشاؤم والاستقالة لا ازال اؤمن، كما يؤمن معظمنا بأن لا مفر للضمير العربي من صحوة… عندئذ لن يعود مجال للتشاؤم. هذا ليس مجرد تمنٍ، انه في الحقيقة صلاة. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن.