قمة الرئيس وليم كلينتون وبوريس يلتسن ، التي تنعقد بعد ايام قليلة، تكون مناسبة لتسليط الانظار على المتاعب التي يواجهها الزعيمان الدوليان، اكثر منها مجالاً لتوقع انجازات مهمة على صعيد العلاقات بين البلدين او على المستوى الدولي. فالرئيسان يلتقيان بعد ان فقد كل منهما قسطاً كبيراً من سلطته المعنوية، وبات عرضة للطعن في استقامته وفي اهليته للاستمرار في منصبه. مصير كلينتون يبدو مطروحاً على البحث في واشنطن لأنه، كما قالت صحيفة نيويورك تايمز "ترك الفرصة تمر فلم يقدم شهادة صحيحة الى الأمة تؤهله لاستعادة اعتباره الاخلاقي في نظر الرأي العام"، بل انه يستحق العزل من منصبه، في نظر الكريستيان ساينس مونيتور، بعد "... اضعافه مقام الرئاسة، وخسارته موقع القيادة المعنوية، واظهاره الاحتقار للشعب الاميركي". مصير يلتسن هو ايضاً موضع بحث في موسكو لأنه فقد مصداقيته بعد ان كذب على شعبه ثلاث مرات في يوم واحد، واظهر انه لا يعرف شيئاً عما يجب ان يفعله لانقاذ البلاد، كما جاء في تعليق للمحلل السياسي في اذاعة موسكو اندريه شيركيزوف. بين الاثنين، تبدو متاعب بوريس يلتسن اكبر من متاعب قرينه الاميركي. فالولاياتالمتحدة تمضي فترة بحبوحة وازدهار، اما في روسيا فالأوضاع الاقتصادية في تدهور مستمر. والولاياتالمتحدة تضطلع، راهنياً، بدور قيادة المجتمع الدولي، اما روسيا فانها بالكاد تحافظ على وحدتها الداخلية. هذه المشاكل التي تعاني منها موسكو تبدو وكأنها من صنع روسي محلي، ولكن اذا القى المرء نظرة على خريطة العالم السياسية لوجد ان قسماً منها وافد من الخارج، ومن ثم فانه جدير بأن يدرج على جدول اعمال القمة المقبلة. ان روسيا اليوم مطوقة غرباً بالحلف الاطلسي، ومطوقة جنوباً بالاسطول الاميركي الخامس، وبالوجود العسكري الاميركي البري الذي يشمل حوالي ربع مليون جندي اميركي. ويبدو هذا الانتشار الاميركي اليوم وكأنه اخطر من الاحلاف العسكرية الغربية التي اقيمت في اطار سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة. لقد كان الغرض من تلك الاحلاف، آنذاك، هو منع الاتحاد السوفياتي من التمدد والتوسع واحتواء المعسكر الاشتراكي وتثبيت الاوضاع التي اتفق عليها في بوتسدام ويالطا. بالمقارنة، فان الانتشار الاميركي حالياً في غرب روسيا وجنوبها لا يهدف الى محاصرة تثبيت الوضع الراهن الدولي، بل الى تغييره لمصلحة الولاياتالمتحدة، وعلى نحو يهدد تماسك اتحاد الدول المستقلة ووحدة الأراضي الروسية نفسها. فحلف ناتو يتوسع باستمرار، وسياسة قضم الجمهوريات السوفياتية السابقة تمضي قدما. في ضوء هذه السياسة واحتمالاتها وآفاقها، لم يجد بعض الاكاديميين الاميركيين غرابة في ان يقترحوا على واشنطن تقديم عرض الى موسكو لشراء صحراء سيبيريا التي تشكل عمق روسيا الاستراتيجي والاقتصادي، مثلما اشترت الاسكا من روسيا عام 1867! وفي ضوء السياسة العامة التي اتبعتها واشنطن تجاه موسكو، تمارس ضغطاً متزايداً على العرب الذين كانوا يعتبرون اصدقاء لروسيا، وتقوم بأعمال عسكرية مغامرة من نوع الغارات العسكرية على السودان وأفغانستان، وتستحوذ كلياً على دور راعي عملية السلام في الشرق الأوسط بعد ان كانت الحكومة الروسية تقوم بدور الشريك في رعاية العملية. ان بعض الاوساط الاميركية اليمنية المتطرفة ترحب بهذه السياسة وتطالب بالمزيد منها وصولاً الى القضاء على ما تبقى من قوة روسيا ومن عناصر التوازن والتعدد في النظام الدولي. ويستطيع هؤلاء، بالعودة الى التجربة التاريخية ان يقدموا دليلاً ملموساً على اهمية اخراج روسيا من المنطقة العربية. فانهيار الاتحاد السوفياتي بدأ، في تقدير هؤلاء، عندما تخلت واشنطن عن سياسة الوفاق وانتقلت الى مرحلة المجابهة ومراكمة الضغوط الاقتصادية والسياسية على موسكو. وهذه المرحلة بدأت، كما يقول وليم بفاف في الپ"هيرالد تريبون" 20/2/1981 عندما عمل كيسنجر، بواسطة ديبلوماسية المكوك بعد حرب عام 1973 بين العرب والاسرائيليين، على ابعاد موسكو عن الشرق الأوسط. ولئن توجت تلك المرحلة بانهيار الاتحاد السوفياتي، فانه ليس هناك من سبب مقنع، في نظر تلك الاوساط الاميركية، يدعو واشنطن اليوم الى التخلي عن هذه السياسة الناجحة. صحيح ان روسيا الحالية ضعيفة وغير شيوعية، ولكن الاستبداد الآسيوي قد يدخل الكرملين مرة اخرى، والنزعة الى التوسع والهيمنة قد تستوطنه مجدداً على نحو يؤثر على المصالح الاميركية. ومن هنا تدعو الاوساط الاميركية المتطرفة الى استمرار سياسة التشدد تجاه موسكو والى مواصلة العمل على انهاك الدب الروسي وتقليم اظافره، وتجد في القمة الاميركية - الروسية فرصة لانتزاع المزيد من التنازلات من موسكو، كما كانت قمة بوش - غورباتشوف في مالطا 1989، وليس لتقديم الوعود والعروض لها. ان اخطار هذه النظرة على مصير روسيا كبيرة، تبدأ في احتدام الصراع الداخلي حول السياسة الخارجية، لكي تنتهي ببلقنة الأراضي الروسية عبر تأزيم الصراعات الاثنية والدينية والمناطقية فيها. بالمقابل، فان فوائد هذه النظرة بالنسبة الى الولاياتالمتحدة نفسها مشكوك فيها، ذلك انه اذا افادت واشنطن احياناً من ضعف موسكو وتردي احوالها، فانه في ظروف اخرى يمكن لهذا الضعف ان يرشح الى الولاياتالمتحدة نفسها. من هنا تظهر بعض الاوساط المالية الاميركية خوفاً من استمرار تدهور الاوضاع الاقتصادية في روسيا ومن احتمال انتقال مضاعفات هذه الاوضاع المتدهورة الى اميركا اللاتينية ومن بعدها الى الولاياتالمتحدة نفسها. اما نتائج هذه النظرة في المنطقة العربية فهي الاكثر دقة وخطورة، اذ انها تعني المزيد من التدخل الاميركي في شؤون المنطقة بحجة حماية المصالح الاميركية الحيوية، واستفحال التوترات فيها الناجمة اساساً عن الوجود العسكري الاميركي غير المرغوب فيه بين شعوب المنطقة، واستنزاف موارد المنطقة وتوظيف قسم لا يستهان به منها في المشاريع الاستراتيجية الاميركية، هذا فضلاً عن اثارة المخاوف الروسية. السياسة الاميركية الراهنة تجاه روسيا تأرجحت، في الماضي، بين موجبات الشراكة والتعاون وبين السير على طريق احتواء روسيا واضعافها. فمن جهة، ساعدت واشنطنموسكو على الحصول على المعونات الاقتصادية من صندوق النقد الدولي. ولكنها من جهة اخرى، سعت الى تمتين قبضتها على الشرق الأوسط عبر اساطيلها البحرية وقواتها البرية، وقامت بتحركات عسكرية فيه اثارت تخوف موسكو وقلقها، فضلاً عن سخط واستهجان العدد الاكبر من عواصم المنطقة وشعوبها. وإذا كان من اثر لقضية مونيكا لوينسكي على السياسة الاميركية الخارجية، فمن الارجح ان يتبلور في القيام بالمزيد من اعمال التدخل العسكري في الشرق الاوسط القريب من الأراضي الروسية على نحو يفاقم شعور الروس بالعجز والاذلال القومي. القمة الاميركية - الروسية هي مجال صالح لبحث اخطار السياسة الاميركية الراهنة والمحتملة ولنظر في ترشيد العلاقات بين الطرفين على نحو يخفف من حدة التوترات الاقليمية والدولية، وذلك بدءاً من منطقة الشرق الأوسط نفسها. في اطار هذا المنحى، فانه لا بد من البحث في انسحاب القوات الاميركية من المنطقة والاقلال من الضغوط التي تمارسها واشنطن على البلدان العربية فيها، وخلق الظروف المناسبة من اجل توطيد السلام بين الأمم الكبرى فيها اي العرب والايرانيين والاتراك، بحيث لا تعود هناك حاجة الى تدخل القوى الكبرى من خارج المنطقة. لقد تصارع العرب في ما بينهم احياناً، وتعاركت هذه الامم طويلاً في التاريخ، وهناك اسباب لاستمرار التضاد بينها، الا ان هذه الاسباب ليست مستعصية على الحل، ولا تمنع تنظيم العلاقتين بين هذه الأمم على نحو يحفظ السلام الاقليمي ويسمح لها بالتعاون على الاستفادة من موارد المنطقة وطاقاتها. وعندما يتطرق الرئيسان الاميركي والروسي الى قضايا الشرق الأوسط، فلعلهما يذكران ان تقليص الوجود الدولي العسكري في هذه المنطقة افضل للجميع اذا كان المطلوب تخفيف حدة التوترات العالمية وتوفير فرص افضل للازدهار والاستقرار في العالم. ان هذه السياسة قد تصطدم بمعارضة شديدة في بعض العواصم الغربية وخاصة في واشنطن، ولكنها ستلقى ترحيباً في اوساط غربية ودولية عديدة باتت اكثر وعياً وادراكاً لمخاطر سياسة ديبلوماسية البوارج المسلحة التي تكررت فصولها ونماذجها مؤخراً في المناطق العربية والشرق اوسطية مؤخراً. ومثل هذا التجاوب يساعد الرئيسين الاميركي والروسي على اجتياز متاعبهما الداخلية اكثر من تأزيم الاوضاع الدولية. * كاتب وباحث سياسي