عندما وافقت القيادة العراقية على عودة المراقبين الدوليين الى بغداد في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، ساد بعض الأوساط الدولية شعور، كما لاحظت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عندها، بأن موسكو أحرزت كسباً سياسياً عن طريق ايجاد حل لأزمة اتخذت بعداً دولياً خطيراً. صحيح ان واشنطن هي التي كانت في الأساس طلبت من موسكو، جنباً الى جنب مع باريس، التدخل في هذه الأزمة. وصحيح ان أطرافاً دولية متعددة ساهمت مع موسكو في العمل على تهدئة الأزمة آنذاك، الا ان الديبلوماسية الروسية اضطلعت بالدور الأول في تسهيل عودة المراقبين الدوليين الى العراق وفي استبعاد مواجهة عسكرية خليجية جديدة ترخي بثقلها على الأوضاع الاقليمية والدولية، واعتبر ذلك النجاح بمثابة تزكية للسياسة الجديدة التي سارت عليها موسكو منذ ان أصبح يفغيني بريماكوف وزيراً لخارجيتها. السياسة التي اتبعتها موسكو عندما كان ادوار شيفارنادزه وزيراً للخارجية السوفياتية وعندما تولى اندريه كوزيريف منصب وزير الخارجية الروسية، كانت بسيطة وسهلة الفهم وواضحة الأهداف. كان الانطباع السائد آنذاك ان محور الاهتمام الرئيسي لدى الفريق الروسي الحاكم هو تحسين العلاقات مع واشنطن، كمدخل الى تحسين العلاقات مع دول الغرب بصورة عامة. ظهرت السياسة الروسية آنذاك وكأنها تنطلق من الاعتقاد بأن تحسين العلاقات مع واشنطن يقتضي مسايرتها في سائر المناطق وفي كافة القضايا الدولية الرئيسية. السياسة الخارجية الروسية هي الآن أكثر تعقيداً مما سبق اذ انها تهدف، وفقاً لما يسمى بپ"قانون بريماكوف" الى تحقيق أهداف متباينة ومركبة. الديبلوماسية الروسية لا تزال متمسكة بهدف توطيد العلاقات مع الولاياتالمتحدة ولكن في الاطار الثنائي الروسي - الأميركي، وهي تسعى الى تنفيذ الاتفاقات المبرمة بين الجانبين مثل تلك المتعلقة بنزع السلاح. الا ان موسكو، انطلاقاً من مبدأ روسيا أولاً، اتجهت الى الفصل بين علاقاتها الثنائية مع واشنطن، وبين علاقاتها مع الدول والمناطق الأخرى في العالم، سواء انطوى هذا الفصل على تقاطع وتلاقي بين السياستين الأميركية والروسية، أو على تباين بينهما. ففي أوروبا تعمل روسيا على تطوير علاقاتها مع دول القارة ومع الاتحاد الأوروبي في اطار مفهوم مغاير للمفهوم الأطلسي وللمؤسسات المنبثقة منه اللذين تدعمهما واشنطن. وتلتقي موسكو على هذا الطريق مع باريس التي تحرص على التنسيق مع روسيا في العديد من القضايا الدولية. وتبدو هذه العلاقات الروسية - الفرنسية النامية وكأنها امتداد لتحالف تعود جذوره التاريخية الى القرن التاسع عشر عندما التقى الطرفان من اجل احتواء التحدي الألماني الصاعد. اما الآن فإن ألمانيا لا تمثل مثل هذا التحدي في أعين الفرنسيين، انها بالعكس تمثل شريكاً لا غنى عنه لباريس في بناء الاتحاد الأوروبي، وهي تمثل الضلع الثالث في مشروع تحالف ثلاثي روسي - فرنسي - ألماني يقترحه الكرملين. ان موسكو لا تعمل سراً من اجل تحقيق هذا المشروع بل تطرحه علناً وفي المحافل الدولية كما فعل يلتسن في شهر تشرين الأول اكتوبر الفائت عندما دعا اقرانه الأوروبيين الى بناء البيت الأوروبي - كما دعاه غورباتشوف - المستقل عن واشنطن. بموازاة الدعوة الى بناء أوروبا مستقلة عن الولاياتالمتحدة، فإن موسكو تعمل أيضاً على بناء فضاء اسيوي مستقل، ففي الزيارة التي قام بها يلتسن في أواخر العام الماضي الى الصين، أعلن انه متفق تمام الاتفاق مع مضيفه جيانغ زيمين على انه ليس لدولة واحدة، أي الولاياتالمتحدة على وجه التخصيص، ان تهيمن على آسيا أو العالم الباسيفيكي أو على العالم. وعندما زار الرئيس الروسي اليابان، قال كلاماً مشابهاً حول المنافسة مع الولاياتالمتحدة وحول ضرورة صون استقلال دول القارة من الهيمنة الأميركية. اما الهند، فأن روسيا تحتفظ معها بعلاقات طيبة تأمل ان توظفها في خدمة نظرتها التعددية الى النظام الدولي الناشئ. اضافة الى الفضائين الأوروبي والآسيوي، بدت المنطقة العربية كحقل اختبار مناسب لتطبيق قانون بريماكوف، خصوصاً وان صاحبه المستعرب هو على دراية واسعة بالمنطقة وبقادتها. وأولت موسكو المنطقة اهتماماً خاصاً وحققت فيها بعض النجاح. وكان من حصاد هذا التطور الزيارات الناجحة التي قام بها كل من الرئيسين عرفات ومبارك الى موسكو خلال العام الفائت. ولقد رافقت زيارة الرئيس مبارك في شهر ايلول سبتمبر عام 1997 أحاديث نوستالجية حول التعاون الروسي - العربي ودعوة لموسكو لكي تلعب دوراً يليق بدولة عريقة في السياسة العالمية وكقوة كبرى صديقة للعرب ومناصرة لحقوقهم المشروعة. ولم تكن موسكو في حاجة الى تشجيع كبير لكي تسير على هذا الدرب اذ انها لبثت تفتش عن فرصة لكي تستعيد دورها ومصداقيتها في المنطقة العربية كما ظهر في الزيارات التي قام بها رئيس الحكومة الروسي فيكتور تشيرنوميردين الى الخليج وبريماكوف نفسه الى دول المنطقة خلال العام الفائت. السياسة الجديدة التي مشت عليها موسكو أفادت الطقم الروسي الحاكم وعززت مصداقيته الداخلية. ففي حين انه كان يتهم، أيام كوزيريف انه يفرط بمصالح روسيا، وبينما كان يخلي الساحة للحزب الشيوعي وللحزب الديموقراطي الليبيرالي بزعامة فلاديمير جيرونوفسكي للنطق باسم المشاعر القومية الروسية، بات باستطاعة بوريس يلتسن، هو الآخر، التأكيد على حرصه على مصالح روسيا. من هذه الناحية، وأخذاً بعين الاعتبار ان تقوية مركز الرئيس الروسي يفيد الولاياتالمتحدة ويفيد دول الغرب بصورة عامة، فقد أملت موسكو ان تتفهم واشنطن أهمية السياسة الروسية الجديدة وان تقبل بنتائجها. الا ان واشنطن لم تتجاوب مع موسكو تجاوباً كبيراً في هذا المضمار، خصوصاً عندما كان الأمر يتعلق بالشرق الأوسط وبالمنطقة العربية حيث رغبت الادارة الأميركية في الامساك بكل خيوط التعاطي الدولي مع قضاياها. وبتأثير هذا الموقف الأخير أخذ دور الراعي الروسي لعملية السلام يتلاشى بحيث لم يبق منه الا الاسم. وعندما حاول بريماكوف ان يعيد للراعي الروسي بعض اعتباره في هذه العملية، لم تلق هذه المحاولة استجابة أميركية. لعب اللوبي الصهيوني الأميركي دوراً مهماً في تصليب هذه المعارضة، وفي رسم وبلورة السياسة الرامية الى تحييد وتحجيم الدور الروسي في المنطقة العربية. وتنسجم هذه السياسة مع مخاوف المنظمات الصهيونية التاريخية تجاه روسيا، وكذلك مع حذر مؤيدي اسرائيل من المستعربين الذين لا يزالون يشغلون مواقع مهمة في روسيا. ولعب دنيس روس، منسق الجهود الاميركية في عملية السلام، وهو الاقرب بين الاداريين الاميركيين الى اللوبي الصهيوني الاميركي، دوراً مهماً في تنفيذ هذه السياسة سواء كان ذلك في عهد ادارة بوش أو في الادارة الحالية. ويروي جيمس بيكر، وزير الخارجية الاميركي الاسبق في مذكراته بعض الوقائع التي تسلط الاضواء على هذا الدور وتؤكده. واستمر هذا الحال خلال الفترة التي قضاها كريستوفر في وزارة الخارجية، اذا كان روس يجر الخارجية الاميركية الى التصلب في وجه المحاولات التي قامت بها موسكو للعودة الى المنطقة. فعندما قامت اسرائيل بمجزرة قانا في جنوبلبنان، زار بريماكوف المنطقة بقصد المساهمة في اطفاء الحريق الذي اشعلته اسرائيل، الا ان روس عارض اعطاء روسيا اي دور مهم في مساعي وقف اطلاق النار بين الاسرائيليين واللبنانيين، كما عارض اشراكها في "تفاهم نيسان" الذي انبثق عنه، واقنع كريستوفر تبني هذا الموقف المتصلب. وكما في الازمة اللبنانية، فقد ألحّ دنيس روس خلال الازمة العراقية في شهر تشرين الثاني الفائت على وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت باتباع نفس السياسة، اي بابعاد موسكو عن مساعي الحل. الا ان اولبرايت لم تأخذ بنصيحة روس، كما كتب المعلق الاميركي جيم هوغلاند فسمحت لموسكو بالتدخل في قضية حساسة مثل القضية العراقية. هذا الموقف ساعد موسكو على تسجيل نقاط لصالحها عربياً ودولياً. ولقد اعتبرت الاوساط المؤيدة لاسرائيل موقف اولبرايت خطأ لا مبرر له، واهمالاً غير مقبول وعملت على تحذير الاميركيين من مغبة "المحاولات التي تقوم بها روسيا من أجل التسلل الى السياسة الشرق اوسطية، ومن المساعي التي تبذلها من أجل القيام بالادوار الكبرى العالمية" كما جاء على لسان هنري كيسينجر خلال زيارته الاخيرة لاسرائيل. ولقد أدت هذه الحملة الى تراجع في الموقف الاميركي الرسمي، فبعد ان بدت واشنطن راغبة في التعاون مع موسكو في البحث عن مخرج للأزمة العراقية وهي ما يعني استعداداً للتفاهم معها على نوعية الحل، عمدت الى اتخاذ مواقف من شأنها تعطيل مفعول الوساطة الروسية مثل الحديث عن امكانية القيام بعمل عسكري منفرد ضد العراق الذي ازدادت احتمالاته في الازمة الراهنة. فهل تستطيع موسكو الدفاع عن الانجاز الذي حققته؟ هل تستطيع الحفاظ على المواقع التي استعادتها في المنطقة العربية امام التحرك المضاد الذي تتعرض له في واشنطن؟ هناك بعض العوامل التي تحد من قدرة موسكو على التحرك المستقل عن السياسة الاميركية في المنطقة العربية. من بين هذه العوامل حاجة روسيا الى الدعم المالي الذي تقدمه لها الولاياتالمتحدة مباشرة او عبر بعض المؤسسات الدولية التي تتأثر بها. صحيح ان الحالة الاقتصادية قد تحسنت في الفترة الاخيرة وان الاسواق الروسية احتلت المر كز الاول بين الاسواق الجاذبة للرساميل الدولية، الا ان هذا التحسن لم يصل الى مرحلة تسمح لروسيا بالتحرر من الضغوط الاقتصادية الاميركية. وكما تستطيع الولاياتالمتحدة ممارسة مثل هذه الضغوط، فأنها تملك بعض مفاتيح النفوذ وامكانات الضغط داخل البنية السياسية الروسية. لقد تخلص يلتسن من بعض "انصار الغرب" مثل كوزيريف، وقلص نفوذ الآخرين مثل اناتولي تشوبايس الذي أبعد عن وزارة المال، ولكن لا بد من الملاحظة ان واشنطن ما تزال فاعلاً مؤثراً في موسكو. وينبغي هنا الا ننسى ان الجهود الاميركية لعبت دوراً مهماً في اعادة يلتسن نفسه الى الكرملين، وان الفريق الذي ادار معركته الرئاسية، في عام 1996 كان فريقاً اميركياً. ان هذه الاوضاع تحد، بداهة، من قدرة موسكو على الاضطلاع بالادوار المستقلة في السياسة الدولية عموماً وفي المنطقة العربية تحديداً. ولكن على رغم هذه الاعتبارات والمعوقات فان في يد موسكو بعض الاوراق التي يمكنها استخدامها من أجل تعزيز سياستها الخارجية والشرق اوسطية المستقلة. ومن أهم هذه الاوراق هي حاجة الادارة الاميركية الماسة الى توطيد مصداقية الزعامة الروسية، فبغياب هذه السياسة، يعلو صوت الروس المعارضين ليلتسن ولسياسة التفاهم مع الولاياتالمتحدة، ويقوى نفوذ الحزب الشيوعي الروسي والقوميين الروس وتزداد قدرتهم على اختيار بديل للرئيس الروسي المعتل الصحة. والخاسر الاكبر في هذه الحالة سوف تكون واشنطن. هذا على الصعيد الدولي، اما على صعيد الشرق الاوسط فانه ينبغي الاخذ بعين الاعتبار ان موسكو اليوم هو غير موسكو بالامس. في الماضي كانت موسكو تأتي الى المنطقة وفي يدها المانيفستو الشيوعي، ومعها مشاريع سياسية تلقي الرهبة والشكوك في نفوس النخب الحاكمة العربية هذا فضلاً عن بعض الاوساط العربية السياسية المستقلة. الا ان تأتي موسكو المنطقة وهي تنطق بلغة المصالح والحسابات المشتركة العربية - الروسية. ولا ريب ان اللغة الجديدة هي أسهل بكثير من اللغة السابقة. ثم ان موسكو تأتي المنطقة في وقت تتفاقم فيه حاجة الدول العربية الى الحليف الدولي، ويتعمق فيها الشعور بأن الولاياتالمتحدة ليست راغبة ولا هي مهتمة بمد يد الصداقة الحقيقية للعرب. هذه عوامل توفر جواً ملائماً لموسكو كي تطبق قانون بريماكوف في المنطقة العربية اذا احسنت استخدام الاوراق التي تملكها وساعدت العرب على احتواء الضغوط غير المحقة التي تمارس عليهم.