إعداد - مروة نظير في أعقاب الحرب بين روسيا وجورجيا في عام 2008، حدد الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف مبادئ السياسة الخارجية لبلاده، مشيرا إلى ما اعتبره مناطق "مصالح مميزة" لروسيا، والتزام الحكومة الروسية بالدفاع عن مواطنيها في الخارج. وهذا التصريح جاء بعد أقل من شهر على أحداث الحرب مع جورجيا حول إقليم أوسيتيا الجنوبية (حيث تم إمداد غالبية السكان بجوازات سفر روسية)، وبدا كأن موسكو تحاول استرداد الميراث السوفيتي فيما يتعلق بدوائر النفوذ الجيوبوليتيكي، كما بدا أن موسكو مستعدة للتدخل بالقوة في البلدان التي توجد بها أقليات عرقية روسية. وفي العام التالي، سيطرت على العالم أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة، وجاءت واشنطن بإدارة جديدة؛الأمر الذي أدى لتقلص التوترات بين روسياوالولاياتالمتحدة بشأن القضايا الخلافية بينهما مثل: الدعم الأمريكي للرئيس الجورجي ساكاشفيلي، وتحركات روسيا في أبخاريا وأوسيتيا الجنوبية، وعضوية الناتو، وخطط تركيب شبكة الصورايخ الباليستية الأمريكية في كل من جمهورية التشيك وبولندا. وفي يوليو 2009، قام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بزيارة موسكو لبحث سبل الوصول لمعاهدة للحد من انتشار الأسلحة الإستراتيجية بين الولاياتالمتحدةوروسيا، واستكشاف سبل التعاون المحتمل في مجال الدفاع الصاروخي. وبعد القمة الأمريكية - الروسية في موسكو، بعث عدد من قادة دول أوروبا الوسطى والشرقية رسالة مفتوحة لإدارة أوباما تطلب فيها مواجهة تحركات موسكو للدفاع عن دائرة نفوذها حول حدودها، وقد قام نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بزيارة كييف وتبليسي لطمأنة جيران روسيا. وكرد فعل حاول الكرملين تليين حدة خطابه القاسي الذي ساد خلال حرب 2008، إذ قال ميدفيديف إن "كل البلدان لها مصالح، ومن الطبيعي لروسيا اعتبار الجمهوريات السوفيتية السابقة منطقة إستراتيجية لمصالحها، كما يحق لهذه الدول النظر لروسيا على نحو مماثل"، كما شدد على أن مصالح روسيا في العالم من المستحيل أن تنحصر في هذه المنطقة، لاسيما وأن جانباً كبيراً من الاستثمارات المهمة والأسواق والتقنيات الحيوية توجد خارجها. وفي هذا السياق يبدو أن الحديث عن مناطق ل "المصالح المميزة" لروسيا أمرا طبيعيا. وقبيل نهاية عام 2008 أدلى وزير الخارجية سيرجي لافروف بتصريحات قوية جداً حول "العلاقات الفريدة" التي تربط روسيا وبلدان كومنولث الدول المستقلة، كما أشار إلى "الوحدة الحضارية" بين هذه البلدان. وهنا يثور السؤال عن أوجه الاختلاف بين مناطق المصالح المعلن عنها من قبل القيادة الروسية الحالية، والمفهوم التقليدي لدائرة النفوذ الذي يدينه الرأي العامِ العالمي؟ وما هي دوافع موسكو وأهدافها؟؛ فمنذ قرارها التخلي عن فكرة الاندماج مع العالم الغربي، تطرح روسيا نفسها كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، وهي تطمح حاليا في أَن تصبح قوة عالمية على قدم المساواة مع الفاعلين الأساسين في النظام العالمي خلال القرن الحادي والعشرين. ومن هذا المنظور فإن المناطق التي كانت تشكل حدود الإمبراطورية الروسية السابقة تعتبر مركزا لقوة روسيا وسندا لحمايتها من الانتهاكات غير المرغوب فيها من قبل القوى العظمى الأخرى. في هذا الإطار، يسعى هذا المقال للتعرف على سياسات روسيا كقوة عظمى في بداية القرن الحادي والعشرين وكيف تختلف عن سياستها التقليدية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وهل هناك اختلاف بين مناطق ''المصالح المميزة'' التي يشار إليها حاليا بدلا من ''دوائر النفوذ" بمعناها التقليدي؟ ومن منظور عكسي ما هي مصالح الجمهوريات السوفيتية السابقة؟ وأخيراً، ما دلالات ذلك بالنسبة لعلاقات روسيا بمراكز القوى الأخرى، مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، والولاياتالمتحدة، وبالقوى الإقليمية الفاعلة. لا يجب النظر لروسيا المعاصرة كدولة حصلت على استقلالها من الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ولكن بالأحرى كدولة اختارت تذويب إمبراطوريتها التاريخية واتجهت للبحث عن دور جديد منذ ذلك الحين، فعلى مر القرنين التاسع عشر والعشرين، تنافست روسيا بشكل مرير مع القوى العظمى الأخرى للسيطرة على الأراضي الواقعة بينهم مثل فنلندا، ودول البلطيق، وبولندا، ودول البلقان، والقوقاز وآسيا الوسطى، ومنغوليا ومنشوريا. لذا كان مفهوم دوائر النفوذ بالنسبة لروسيا مفيدا جدا بالنسبة لها، فهذه الدوائر شكلت الخطوط الفاصلة بينها وبين القوى الإمبريالية الأخرى المنافسة لها، كما شكلت حزاما واقيا لها وقاعدة انطلاق للتقدم في مسعاها المستمر للحصول على المزيد من القوة والنفوذ. وفي عصر الإمبراطورية السوفيتية، شمل النفوذ عدة دوائر، ضمت الدائرة الحدودية الأمامية فيما عرف باسم "البلدان ذات التوجه الاشتراكي" تحت قيادة أنظمة ماركسية لينينية (وكانت تلك غير مستقرة في أغلب الأحيان) في آسيا وإفريقيا. أما الدائرة الأضيق فشملت دول حلف وارسو وأوروبا الشرقية، فضلا عن اللجنة الاقتصادية لمجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة (كوميكون COMECON) التي ضمت كذلك كلا من كوبا، ومنغوليا، وفيتنام، وقد تم دمج بعض هذه الدول كجمهوريات في الاتحاد السوفيتي السابق. وفي ذلك الوقت استندت سيادة موسكو السياسية إلى هيمنتها الأيديولوجية، ودعم ذلك انضباط أعضاء الكتلة الشرقية والتواجد العسكري، وزادت مصداقيتها عبر استخدام القوة العسكرية بشكل دوري. واقتصادياً كان المجال السوفيتي نظاما مغلقا يقوم على التخصيص المركزي للموارد. وقد كان خروج روسيا عن هذه الإمبراطورية سريعاً لكن هادئاً أيضاً، وهو ما يرجع أساسا للانشقاق في صفوف النخبة الروسية. وبنهاية ثمانينات القرن الماضي أصبح "مجال" النفوذ الروسي ضيقاً، ولم يكن مفيدا لموسكو التي كانت تقوم بتصفية حربها الباردة مع الغرب ومع الصين توسيع مناطق النفوذ. وخلال فترة التسعينات، لم تسع موسكو لإعادة التكامل مع الجمهوريات السوفيتية السابقة، وكان عليها التخلي عن فكرة وجود جيش مشترك، وعن منطقة الروبل والفضاء الاقتصادي المشترك، وعن المواطنة المزدوجة. وكل ما تمكنت من الحفاظ عليه كان: ملكية الأسلحة النووية الإستراتيجية السوفيتية؛ ومقعد الاتحاد السوفيتي الدائم في مجلس الأمن، والملكية السوفيتية في الخارج كالسفارات، فضلا عن ديون الاتحاد السوفيتي. وبدلاً من التنافس على دوائر النفوذ، أرادت القيادات الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة تحقيق التكامل مع الغرب، بحيث تشارك موسكو في قيادة العالم إلى جانب أوروبا والولاياتالمتحدة. ومن الواضح أن موسكو توقعت أكثر من مجرد "سلام شريف" مع هؤلاء الخصوم الذين تحولوا إلى شركاء، إلا أنها، ولسوء الحظ، حصلت على أقل من ذلك بكثير؛ فما اعتبرته روسيا تنازلات اعتبره الغرب تعويضاً عن جزء بسيط من الضرر الذي سببه النظام السوفيتي، ومن ثم فهي لا تستلزم امتناناً خاصاً من قبل الدول الغربية. وإزاء هذا الإحباط، أُثير جدل داخلي في روسيا حول التوجهات المستقبلية للسياسة الخارجية، ما بين العزلة والسعي للاندماج، واتجهت الأغلبية لاعتبار أن الدول حديثة الاستقلال في أوروبا الشرقية من الضروري أن تظل في قلب السياسة الخارجية الجديدةلروسيا. وفي عام 1993، تقدم الرئيس يلتسين الروسي (آنذاك) ووزير خارجيته أندريه كوزيروف بطلب للأمم المتحدة للاعتراف بمسئولية روسيا الخاصة عن الحفاظ على السلام في النزاعات العرقية في دول الاتحاد السوفيتي السابق، والتي تمكنت من إيقافها ثم تجميدها عبر تدخلات الجيش الروسي. من جانب آخر أثارت مسألة توسيع حلف الناتو ليضم دولا سوفيتية سابقة مشكلة أخرى بين روسيا والغرب، إذ اتهم الروس قادة الغرب بالغدر، وذلك استناداً إلى سجلات المفاوضات بين هؤلاء القادة وجورباتشوف (آخر الرؤساء السوفيت) الذي كان قد تلقى وعوداً قاطعة من جورج بوش (الأب) وهيلموت كول ومارجريت تاتشر، بأن حلف الناتو لن يتوسع خطوة واحدة. ومن ثم يمكن القول إن دوائر النفوذ كمفهوم، كانت لا تزال موجودة في السياسة الدولية لروسيا، وحدث التغير فقط فيمن يسيطرون على تلك الدوائر. ومن ناحية ثالثة أدى اختراق منطقة بحر قزوين من خلال شركات النفط الغربية والدعم الأمريكي الرسمي لخطوط الأنابيب المتعددة في المنطقة بهدف إنهاء احتكار روسيا لنفط قزوين إلى توسيع المفهوم الجيوبوليتيكي التقليدي ليتضمن أبعادا جيو-اقتصادية، وذلك مع وصول نفوذ الغرب إلى الحدود الجديدةلروسيا. وبحلول عام 1999، أي عندما انتزع الناتو إقليم كوسوفو من يد بلجراد، إضافة إلى توسيع الناتو ليشمل جمهورية التشيك، والمجر، وبولندا؛ تغير موقف روسيا بحيث لم تعد قوة عظمى في أوروبا للمرة الأولى منذ 250 سنة، بل كانت ببساطة الاتحاد السوفيتي السابق لا أكثر ولا أقل. تغير توازنات القوة الإقليمية وبسبب المشكلات الداخلية والأزمة المالية في عام 1998 والحرب التي استمرت 10 سنوات في الشيشان، وجدت موسكو نفسها عاجزة عن المنافسة فيما ادعت أنها مناطق نفوذها؛ إذ لم يكن لديها موارد لدعم الجمهوريات السوفيتية السابقة التي تشكل الاهتمام الأساسي لسياستها الخارجية. في هذه الأثناء، تمكنت هذه الدول الناشئة من إقامة علاقات مختلفة مع جيرانها وغيرها من القوى الخارجية. ومع تولي بوتين الرئاسة، تم تبني موقفاً أكثر واقعية تجاه الدول السوفيتية السابقة مقارنة بسابقه يلتسين الذي ظل يشعر حتى آخر أيامه بالذنب لإسقاط الاتحاد السوفيتي. أما بوتين فكان يحاول إعادة بناء الإمبراطورية السوفيتية. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين أدت مجموعة من العوامل إلى تحسين موقع روسيا في مقابل جيرانها؛ إذ بدأت البلاد تتعافى من الأزمة الاقتصادية، وجاء لها زعيم جديد نجح في إلحاق الهزيمة بالتمرد الشيشاني، والقضاء على التوجهات الانفصالية، كما زادت الفوائض المالية لديها نتيجة الزيادة المستمرة في أسعار النفط. وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 مباشرة، استغل بوتين قربه من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن) للترويج لفكرة شراكة إستراتيجية بين روسياوالولاياتالمتحدة، أي أنه في حين أراد يلتسين الاندماج في الغرب، هدف بوتين إلى التكامل معه. لكن إدارة بوش رأت نفسها في ذروة القوة وأنها ليست بحاجة لأي اتفاقيات ملزمة مع شركاء أقل شأناً منها مثل موسكو. وسرعان ما ركزت الولاياتالمتحدة اهتمامها على الشرق الأوسط. وفي تحركٍ متوازٍ، بدأت روسيا الانتقال إلى سياسة لا تركز على الغرب. وبحلول عام 2003 سعت موسكو لاستبدال محاولاتها الضعيفة والغير مؤثرة في التكامل الاقتصادي مع جيرانها بمبادرات توسعية اقتصادية متينة، حيث رأت أنه يجب تأمين الجمهوريات السوفيتية السابقة كسوق لنشاط قطاع الأعمال الروسي، كما يجب عليها الحفاظ على هذه الدول من توسيع التحالفات العسكرية - السياسية مثل حلف الناتو، وكان لزاماً على موسكو أن تكون قادرة على التوسط وإدارة النزاعات بين جيرانها، وأن تمارس القيادة السياسية في إطار الكومنولث.