يجمع "متحف مايّول" في باريس، هذا الصيف، وجهين بارزين من الفن العالمي، دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو، ويقدّم لوحاتهما جنبا الى جنب ليكتشف هواة الفن أسلوبين مختلفين تماما في الرسم وانما اعتزازاً واحداً بالثقافة المكسيكية. ويبدو طبيعياً ان يقدّم أعمال الاثنين معاً ذلك ان ريفيرا وكاهلو عاشا حياة زوجية صاخبة عبرتها العواصف والفصامات والمصالحات، وكانت بدأت عام 1929 لتنتهي مع وفاة فريدا في 1953. وفي المتحف الباريسي، نتعرّف من خلال عدد كبير من اللوحات وبعض الصور الفوتوغرافية والوثائق على مسار رجل وامرأة غير عاديين. وُلد دييغو ريفيرا عام 1886 في المكسيك ومنذ سنّ الحادية عشر، تفرّغ للرسم وتبع دروسا في "أكاديمية سان كارلوس للفنون الجميلة" في مكسيكو، وعند حصوله على منحة سنة 1907 سنة ولادة فريدا في احدى ضواحي العاصمة المكسيكية، غادر الى اوروبا واستقرّ في اسبانيا. كانت قدرة ريفيرا على العمل لا حدود لها وكان يرسم من دون توقف المناظر الطبيعية الاسبانية مستوحياً اعمال غويا، ولكن بعد مرور فترة من الزمن، لم تعد اسبانيا تكفيه فزار هولندا وبلجيكا وانكلترا واكتشف باريس عام 1909. وفي 1910، انفجرت الثورة المكسيكية وادخلت البلد في عقد دموي في حين كانت باريس تشهد ثورة من نوع آخر، هي ولادة تيارات طليعية كبرى كالوحشية والتكعيبية والمستقبلية او الدادّية وجميعها طبعت تاريخ الفن في القرن العشرين. سكن ريفيرا في محترف في منطقة مونبارناس الباريسية وكان الفنانان، بيات موندريان واميديو موديغلياني، من بين جيرانه، ودخل في مجموعة الفنانين التابعة ل "مدرسة باريس" التي جمعت وقتذاك جورج براك وبابلو بيكاسو وفرنسيس بيكابيا وآخرين... وبدأ يرسم تركيبات تكعيبية بارزة مع حسّ غريزي تجاه اللون. وعلى الرغم من شغفه بأبحاث براك وبيكاسو في اعادة تركيب الاشكال، إلا أنه لم يشاركهما التطرّف في الغاء التلوينية الذي قاما به خلال مرحلة معيّنة من التكعيبية. وبعد مجادلة عنيفة حصلت، عام 1917، في محترف احد الفنانين واتهامه بخيانة التيار ورسمه البورتريه التقليدي، تخلّى ريفيرا عن التكعيبية وعاد الى المرحلة التي كان يتبع فيها رسم بول سيزان. وعندما اكتشف في ايطاليا الرسومات الجدارية القديمة ورسومات جيوتو وميكايل آنجلو، أخذ نتاجه نمطا جديدا، وفي 1922 تلقى من المكسيك الطلبات الاولى لوضع الرسومات الجدارية فبدأ يعمل على تركيبات ضخمة تمثل تاريخ بلده. وكما راح بيكاسو يبحث في الميتولوجيا وفي العالم المتوسطي عن طريقة جديدة في الرسم، استوحى ريفيرا الحضارة القديمة والفن الشعبي المكسيكي لرسم تاريخ شعبه وإعطاء هوية الى الامة الهندية. كان ريفيرا يؤمن بفن ثوري ولكنه، في الوقت ذاته، استمرّ في رسمه اللوحات الصغيرة التي عالج فيها شؤون الهنود أو قدّم فيها شخصيات من المجتمع الراقي، متبّعا بدائية غامضة ذات اشكال ثقيلة وقوية. وبعد زواجه من فريدا كاهلو، عام 1929، شاركا معاً في جميع النضالات السياسية وكانا يشعران بالميل ذاته تجاه ال"مخيكانيداد" ويعبران برسم مختلف تماما عن اعتزازهما بتهجين الثقافة المكسيكية. كانت فريدا عاشت وقائع عنيفة من الثورة المكسيكية في طفولتها اذ كانت والدتها تستقبل وتعالج الجرحى "الزاباتيين" في بهو المنزل العائلي، ومنذ الرابعة من عمرها، دخل الدم المراق والجروح عالمها. وفي ذكرى تلك الحوادث، التحقت بالشبيبة الشيوعية وبقيت وفيّة لارتباطها هذا حتى وفاتها. ولقيت فريدا في الرسم خلاصا لعذاباتها المختلفة فهي كانت اصيبت بمرض شلل الأطفال في السابعة وتحوّل جسدها، منذ ذلك الحين، الى مسرح لحرب لا نهاية لها كما بقيت عرجاء حتى آخر حياتها. ولكن معاناتها لم تتوقف عند هذا المرض، وأدّى بها حادث قطار مريع الى حالة مأساوية وفرض عليها، خلال سنوات طويلة، عمليات جراحية عديدة. وكان الرسم موجودا ليساعدها، فخلال مراحل نقاهتها كانت تضع مرآة أمام سريرها وتصوّر نفسها دون توقف. وهذه الاعمال التي اعتبر دييغو ريفيرا بأنها تحمل "صدقا تشكيليا جوهريا" لم تكن سوى رسومات ذاتية مؤثرة وتمثلات شعرية لآلام جسدية تحملتها طيلة حياتها. كانت تقول: "أرسم نفسي لأنني وحيدة. وأنا أشكل أفضل موضوع أعرفه"، وكتبت مرة: "لم أرسم أبدا الاحلام. رسمت حقيقتي الذاتية فقط". وعندما تزوجت دييغو ريفيرا، عاشت معه علاقة صاخبة سمتها "حادثي الثاني". وأما عائلتها فاعتبرت زواجهما "اقتران فيل بيمامة". ولكنها من اجل دييغو، لبست ازياء النساء الهنديات معبّرة بذلك عن انغمارها بحضارة وطنها التقليدية في حين رسمها هو، في احدى لوحاته الجدارية، مرتدية قميصا احمر اللون، معلقة نجمة حمراء على صدرها ورابطة يديها بحربة. توفيت فريدا عام 1953 مخلّفة عدداً صغيراً من اللوحات وانما اعترافاً بفنها ازداد وكبر مع مرور الوقت، ودييغو الذي توفي عام 1957 فترك آلاف اللوحات ونتاجاً جدارياً هائلاً.