أذكر إلى اليوم الهزة التي شعرت بها يوم أن قرأت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" منذ واحد وثلاثين عاما. كانت كلحظة الكشف التي تعصف بالأعماق، أثرها يمكث لا يتبدد أو يتجزأ، كل ما في الوعي اندفع معها إلى الأمام نتيجة المعرفة التي تجتلي بها الذات نفسها في فعل اكتشاف موضوعها. لم تكن القصيدة محاكاة لعالم الواقع المحبط، أو فرارا من انفعالات الهزيمة التي سممتنا بها النكسة، أو تطهيرا للنفس من أحزانها التي لا تزال فاجعة، وإنما كانت سؤالا مفتوحا بعمق الجرح، ومواجهة للكارثة بالبحث عن أسبابها، وحوارا مضمرا في الذات التي وضعت كل شيء موضع المساءلة، وأداءً دراميا لقناع قريب من وجدان القارئ، وموازاة رمزية لواقع المأساة التي أعادت القصيدة صياغتها في معادلاتها الموضوعية، ضابطة إيقاع البناء بما يبقي وعي المتلقي في أقصى درجات يقظته وقدرته النقدية والنقضية. وكانت البداية حاسمة، تستهلها صيغة النداء التي تفتح الباب لدفقة الجملة الحالية الممتدة على تنويعات تفعيلة الرجز. لا يفارقها الحرص على التقفية التي تقابل بتعارضاتها الصوتية مأساوية الموقف الذي يبعث على السؤال: أيتها العرافة المقدسة جئت إليكِ.. مثخناً بالطعنات والدماءْ، أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة، منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء، أسأل يا زرقاء. وتمضي القصيدة بعد هذه البداية مستغلة الترابطات الإيقاعية لبحر الرجز، مستفيدة من تباين نغمات تفاعيله بما يؤكد مفارقة البكاء الذي ينقلب على معناه الشائع فيغدو إدانة وكشفاً وإلحاحا على المساءلة، مستغلة الإمكانات النثرية للوزن الذي يصل النظم بالفكر من غير أن يتخلى عن الخاصية الشعرية، ملحة على القافية المتكررة الواصلة بين كل المقاطع، كأنها اللازمة النغمية التي يبدأ منها الإيقاع وينتهي إليها في كل دورة من دورات مقاطعه، واصلا بين لزوم القافية وتنوعها الذي يتماوج بتماوج المعنى ليعود إلى المحط النغمي الثابت مضيفا إلى علاقات الإنشاد. وهي العلاقات التي لا يغيب عنها حضور المتلقي المضمر في القصيدة، والموجود في كل مستوياتها بأكثر من كيفية، ابتداء من صيغة النداء الاستهلالي على العرافة المقدسة. ولكن من هذه العرافة المقدّسة؟ من حيث المعنى الظاهر، أو المعنى الأول للإشارة التراثية، هي زرقاء اليمامة التي اشتهرت بحدّة بصرها وقوة رؤيتها حتى أنها كانت ترى من مسيرة ثلاثة أيام. وهي التي حذّرت من خطر الأعداء المتخفين تحت أغصان الأشجار، فلم يأبه قومها بتحذيرها، ولم يتأهبوا لعدوهم إلى أن صبحهم جيشه الذي قتل رجالهم وسبى نساءهم، ودعا باليمامة فقلع عينيها ليحرمها نعمة البصر الذي كان علامة على البصيرة. والإشارة إلى العرافة المقدسة إشارة إلى التاريخ الذي يستعيده الحاضر مرآة لوقائعه وموازاة رمزية لأحداثه. ولكن "الزرقاء" الحكيمة التي تنتسب إلى لقمان في كتب الأخبار العربية تفارق ترابطات الإشارة إلى الموروث العربي وحده، وتغدو منطوية على بعض الشبه بربات الشعر أو إلهات الإبداع التسع في الأساطير اليونانية، أعني الإلهات الوثنية اللائي تعود الشعراء اليونان القدامى على التوجه إليهن بالخطاب في مستهل قصائدهم، طلبا للوحي واستعانة على النظم ونشدانا للعون على الموقف. ولذلك تتميز "الزرقاء" في قصيدة أمل بفمها الياقوت الذي ينطق ما تراه البصيرة الملهمة. وعلامتها نبوءة العذراء التي قد تشير إلى ربات الإبداع الموزيس muses العذراوات في الأساطير اليونانية. وهي "العرافة المقدّسة" أو "النبية المقدسة" التي يقصدها القاصدون في ما يشبه معبد دلفي Delphi أو سيسون Sicyon، حيث يسعى من يريد المعرفة أو يؤرقه السؤال الذي لا يجد إجابة. ولكن يبدأ البكاء بين يدي الزرقاء كأنها الأصل الذي ينطلق منه الشاعر، أو النبع الذي يأخذ عنه، أو الطاقة التي يتحد بها ويعود إليها إذا ضاقت به السبل وضاع منه الطريق. وفي إفرادها ما يردها إلى دلالتها الأصلية في المشابهة التي تدني بها والشاعر إلى حال من الاتحاد، فتغدو هي إياه أو يغدو هو إياها في ترجيعات المعنى. وغير بعيد عن هذه المناقلة، في الدلالة، ما نراه في القصيدة من تشابه يصل بين الزرقاء العرافة/ النبية المقدسة والصوت المختفي وراء القناع الذي يتوجه إليها بالخطاب. كلاهما لا حول له أو شأن. لم يستمع إليهما أحد، ولم يصدق نبوءتهما أحد. كأن ما قالته الزرقاء لقومها الذين لم يصدقوها عن قوافل الغبار ومسيرة الأشجار التي رأتها هو الوجه الآخر من محاولة الصوت المختفي وراء القناع، حين قال ما قال ووصف ما رآه للذين أسكتوه كي ينال فضلة الأمان، فكانت النتيجة الكارثة التي شملت الجميع، وتركت الزرقاء وحيدة عمياء، وصاحب الصوت في القناع مشوّه الوجه مقطوع الساعد. هكذا يشير رمز الزرقاء، في مستوى من مستوياته، إلى الشعر في دلالة "البكاء" بين يديه، وتغدو "الزرقاء" نفسها بديلا عن القصيدة التي يلجأ إليها الشاعر كي يطرح عليها وبها الأسئلة التي يبحث عن إجابة لها، كأنها مرآته التي يجتليها كي يعرف عمق المأساة ويكشف عن أسبابها، لكنها المرآة التي يتبادل الشاعر وإياها الوضع والدلالة في عالم لا يعترف بهما، ولا ينصت إليهما، لأنه عالم لا يقبل فيه السادة سوى الإذعان والطاعة والاتباع والرضا وكل ما يبقي الرعية خاملين في حظائر النسيان. ولذلك يستعير الشاعر قناعا مرسوما عليه صورة وجه عبد من عبيد بني عبس، ليس وجه عنترة العبسي بالضرورة، وإنما وجه عبد بسيط منكسر، كأنه صورة موازية للمواطن العربي الذي استبدلوا له الكابوس بالحلم، أو المثقف الذي أقصي في دائرته الهامشية محكوماً عليه بالصمت، أو الشاعر الذي أخرس كي لا ينطق المسكوت عنه من الكلام غير المباح. وجه يشبه وجه القارئ العربي الذي طالع في قصيدة "البكاء" شبيهه الذي ينطق صوته، ولا يزال هذا القارئ إلى اليوم يجد بعض صورته في ملامح القناع نفسه على رغم مضي واحد وثلاثين عاما على كارثة العام السابع والستين. هذا النوع من التشابه تؤكده الموازاة المقصودة بين الصوتين اللذين يتبادلان النطق في خطاب القناع، صوت الجندي العربي الذي لم يكن مسؤولا عن هزيمة العام السابع والستين وصوت العبد العبسي القديم الذي حكم عليه بالموت من قبل أن يدعى إلى القتال. صاحب الصوت الأول الذي يؤدي دور المشّبه في بلاغة القصيدة نراه في مطلعها، زاحفا فوق الجثث المكدسة، مغبر الجبين والأعضاء، تاركا ساعده المقطوع وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكسة، سائلا عن جاره الذي ثقبت الرصاصة رأسه وهو يهم بارتشاف الماء، وعن صديقه الذي مات عطشا في الصحراء الحارقة. والعبد العبسي صاحب الصوت الثاني يؤدي دور المشبه به في خطابه النثري الذي يخلو من المجاز: قيل لي "اخرس" فخرست.. وعميت.. وائتممت بالخصيان! ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان اجترُّ صوفَها أردُّ نوقَها أنام في حظائر النسيان طعامي: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات السياسية وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان دعيتُ للميدان! أنا الذي ما ذقت لحم الضان أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة! والنثرية مقصودة تماما في هذا المقام، والمجازية التي تحتشد بالاستعارة أو التشبيه لا لزوم لها مع الإلحاح على المدركات البصرية المختارة بعناية، والمضفورة بتقنية المونتاج التي تسهم في تحويل المسموع إلى منظور، والدرامية التي يؤكدها المونولوغ تتولى إبراز المفارقة الساخرة التي يستمد منها الموقف شعريته الخشنة. أعني تلك الشعرية التي لا تدفع إلى التحليق في عالم العواطف الموارة، أو الاستسلام إلى تداعيات المشاعر المصاحبة، وإنما إلى التحديق الواعي في المشهد، وتأمل دلالته تأملا نقديا يصل بقدر ما يفصل بين ذات القارئ وموضوعها المقروء. وبراعة الموازاة بين الصوتين، القديم والجديد، تدني بطرفي التشبيه إلى أبعد حد، فترد العبد العبسي القديم على الجندي العربي الحديث، وترد الثاني على الأول بالقدر نفسه. والنتيجة تجاوب الدلالة التي يتولد منها صوت ثالث. هو صوت الشاعر المحصور بين سندان السكوت ومطرقة الكلام. ولا شئ أبلغ في الدلالة على ثنائية السكوت والكلام من الإلحاح على دال السؤال الذي يتكرر لافتا في قصيدة البكاء. وفي كل مرة يقترن تكراره إما بما هو مصدر الكلام فمك الياقوت أو أصل السبب كيف حملت العار؟ أو مكان الاختفاء أين أخفي وجهي المتهم المدان؟.. أين أخفي وجهي المشوّها؟ أو جدوى الكلمات ماذا تفيد الكلمات البائسة؟. ولذلك يبدو إلحاح السؤال في القصيدة إصرارا على معرفة الأسرار، وتعرية للمسكوت عنه من الكلام المحظور. تكرار نطقه من حيث هو دال علامة على رغبة الكشف والإظهار والفضح والإعلان، وإلحاح داله على مدلول الكلام إلحاح على نقيض الصمت الذي هو تغطية على الحقيقة بإخفائها عن العيون وإبعادها عن الألسنة. ولذلك يتكرر فعل الأمر "تكلمي" مقرونا بفعل النهي "لا تسكتي" في خطاب القناع إلى الزرقاء التي تغدو مقدسة، لكن على نحو لا يفارق سياقه فعل النهي: "لا تغمضي عينيك". وحينما نردّ مدلولات النطق على مدلولات فتح العينين تتجلى المفارقة في الزرقاء القديسة - العرافة التي تستبدل البصيرة بالبصر، والصمت بالنطق، في سياقات القصيدة التي تتولد من تجاوبها الدلالة التي تناوش قمع السلطة سادة عبس التي أغمضت العيون، وأخرست الألسنة، واستبدلت بالرجال الخصيان، وبالأحرار القطعان، وألقت بالعارفين من أشباه الزرقاء في الهوامش المجهولة أو المعتقلات المعزولة، مجبورين على السكوت سنة فسنة. وعندما أزفت الآزفة، وفوجئ السادة بالكارثة، قايضوا بالمقموعين الذين وقفوا عزلا ما بين السيف والسجان، والتمسوا النجاة، تاركين أشباه الزرقاء على حالهم، لا يكفون عن منازلة الصمت الذي كان يخنقهم. سلاحهم في ذلك السؤال الذي يفتح سبيلا إلى حرية إنطاق المسكوت عنه ولو على سبيل التورية والرمز، السؤال الذي أشبه في مغزاه الذي لم ينصت إليه أحد سؤال "الزباء" القديم: ما للجمال مشيها وئيدا أجندلاً يحملن أم حديدا ذلك الذي ظل سؤالا حائرا معلقا كالقضاء الذي حُمَّ في العام السابع والستين، ولم يبق غير الموت والحطام والدمار: وصبية مشرّدون يعبرون آخر الأنهارْ ونسوة يسقن في سلاسل الأسرِ وفي ثياب العار مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات التاعسة. وكالعادة التي لم يتخل عنها أمل دنقل في قصائده اللاحقة، تأتي دلالات الأطفال والنساء مضفورة مع دلالات التضمين التي تفتح الذاكرة الجمعية للمتلقي على مخزونها الشعوري الحي، وذلك على نحو يوازي فيه انتهاك العرض انتهاك الأرض، وتشيع صورة الصبية المشردين معنى اليتم متشحا بالخرس. وتتبادل الزباء والزرقاء الموضع والمحل في سياق عالم تفجعه الهزيمة، عالم يعاني وطأة الحرس الذي أطلقه سادة عبس كي يبقوا على الزرقاء وحيدة عمياء، ويبقوا على الشاعر، مثلها، وحيدا، أعزل، لا الليل يخفي حجم مأساته ولا سحائب الدخان، ولا الصحيفة التي تستبقي الصفاء الأبله المموه في أعين الرجال والنساء. وعندئذ، تنتهي قصيدة البكاء بالزرقاء كما بدأت منها، ولكن بعد أن فارقت الزرقاء نفسها صفات العرافة والنبية المقدّسة، وأصبحت متوحّدة كالشاعر سواء بسواء، مرآته التي هي أياه بأكثر من معنى. غير أنها لم تماثله إلا حين كشفت له المستور بواسطة الرمز والإشارة، وكشفت لنا معه عن مدى ما يمكن أن تفعله الكلمات التي تسائل الصمت الذي يخنقنا كي تنطقه، الكلمات التي تراوغ براثن السلطة التي تدعونا إلى الموت ولا تدعونا إلى المشاركة، والتي تضعنا هذه الكلمات في مواجهتها بالقدر الذي تضعنا في مواجهة لوازمها من الأضواء الزائفة والعربات الفارهة، فلا يبقى لنا سوى أن نكون كالشاعر، في النهاية، وحيدين في مواجهة الواحد الذي هو القمع.