أتصور أن كارثة العام السابع والستين عمّقت في وعي أمل الثنائية الحادة التي عارضت ما بين "الأنا" القومية و"الآخر" الأجنبي إلى النهاية، شأنه شأن طائفة من أبناء جيله الذين كانوا محتدمين بتوتر الشعور القومي المهزوم. وكانت النتيجة نزعة حدية متصاعدة أوقعت "الأنا" و"الآخر" موقع العداء، وأنزلت الثنائية الخاصة بهما منزلة الثنائية التي يتناقض فيها المقموع والقامع داخل الوطن، فتبادلت الثنائيتان الوضع والدلالة، وغدا "الآخر" الأجنبي صورة موازية للقامع المحلي، والمقموع صورة موازية للأنا القومية بمعنى من معاني علاقتها بالآخر الأجنبي. ولم تكن حدِّية التقابل بين أطراف الثنائيتين المتماثلتين بعيدة عن التوجه الثقافي الذي أفضت إليه هزيمة العام السابع والستين وأشاعته بين المثقفين. أعني توجه العودة إلى أصول الذات القومية والتمسك بهويتها، والبحث في ميراثها الخاص عن مصادر جديدة للاستلهام، تأكيدا لأصالة الملامح، ودعما لهذه الذات في مواجهة أعدائها في الداخل والخارج. وكان البحث عن أشكال قومية للإبداع ضمن هذا التوجه، والاستعانة بعناصر التراث القومي في صياغة هذه الأشكال، الوجه الآخر من المقاومة التي التزم بها الإبداع لمواجهة ما رأى فيه تهديدا للهوية وإبقاء على واقع الهزيمة. وترتب على ذلك تصاعد التعارضات التي باعدت المسافة بين ما ينتمي للأنا وينتسب للآخر، وتأصيل نوع من تراتب القيمة الذي استبدل الموروث بالوافد في مجالات عديدة، في مقدمها تقنيات النظم وأقنعة القصيدة. ووجدت قصيدة القناع تبريرها في هذا السياق بما ردّها إلى تقاليد الكتابة الرمزية في التراث العربي، تلك التقاليد التي اتخذت من أقنعة الإنسان والحيوان ما أنطق المسكوت عنه من الخطاب المقموع في أزمنة الماضي القومي. ولذلك، كانت الأقنعة الأكثر انسجاما مع واقع الهزيمة القومية هي الأقنعة المشابهة لقناع زرقاء اليمامة من حيث هي أقنعة قادرة على ملامسة العصب العاري للذاكرة الجمعية، وتفجير تداعياتها الشعورية واللاشعورية في السياقات التي تتجاوب فيها ترابطات القناع أو تصل بينها. هكذا، تصدرت الأقنعة التراثية شعر أمل، وكان تنوعها علامة على اختيار الشاعر الذي اختفى وراءها ليستعين بموروثه على حاضره، حاسما علاقته بما يأتي عن "الآخر" الذي أصبح أقرب إلى النقيض لا الشبيه، ممعنا السير في الطريق الذي استبانت ملامحه منذ قصيدة "الأرض والجرح الذي لا ينفتح". وهي القصيدة التي تجلى التوجه القومي للشاعر في مقاطعها، حيث تصدرت الإشارة إلى المغول والترك، في موازاة الأموي الذي قطع طريق الماء على الحسين ، والثقفي الذي ثبت قناعه المهزوم بعد أن مضى تموز بوجهه العربي، والسماء التي تهوي منها كل عام نجمة عربية لتدخل في برج البرامك، والخصيان الذين جلسوا غير بعيد من ابن سلول بوجهه القزحي، وقريش الواجمة التي تقلع آخر سفنها المضيئة من مرافئها إلى ندم الغبار. وكان أمل دنقل، قبل ذلك، متأثرا بشعراء الجيل السابق الذين فتنتهم الأسطورة اليونانية والفينيقية، وأعجبتهم تقنيات ت. إس. إليوت في الإشارة والتضمين وصياغة أقنعة القصيدة، فمضى في إثرهم محاولا استخدام الإشارات والشخصيات التي حسب أنها تعطي قصيدته امتداداً أوسع في التاريخ الإنساني، وتصل شعره بتجليات الأسطورة الفرعونية التي حاول اللجوء إليها. ولكن الوعي المقاوم للهزيمة حتى من قبل وقوعها، وبعد عناصر هذه الأسطورة عن الوجدان الجمعي، دفعا به إلى وضع الأساطير القديمة عموما موضع المساءلة، سواء من ناحية صلتها الفعلية بالوجدان الجمعي للذاكرة القومية، أو إمكانات تأثيرها في الجماهير متفاوتة الثقافة التي يتوجه إليها بشعره التحريضي. وأضافت حَدِّية التعارضات الشعورية التي وصلت بها الهزيمة إلى ذروتها ما استبدل بالحماسة لأقنعة من مثل "سبارتاكوس" أو "المسيح" حماسة مقابلة لأقنعة من نوع أبي موسى الأشعري وزرقاء اليمامة. وانتهى أمل إلى أن استخدام الأقنعة الأجنبية، كاستخدام الإشارة أو التضمين، يقلل من إمكانات نجاح القصيدة بالقدر الذي يتباعد به القناع والإشارة والتضمين عن الوجدان الجمعي للجماهير العربية التي يتوجه إليها الشاعر بشعره، وأن غربة القناع الأجنبي عن الوجدان القومي هي الوجه الآخر من غموض الإشارة التاريخية أو الأسطورية التي تحول بين القصيدة وتوسيع دوائر التلقي العام. لقد كان يريد لقصيدته أن تؤدي دورها في تثوير الواقع، معتمدة على علاقتها الحميمة بالمستمعين الذين تسعى إلى التأثير فيهم بوصفها قصيدة إنشاد. لكن دون أن يعني ذلك تنازل القصيدة عن إحكام الصنعة أو التساهل في التقنية الفنية، فرغبة الشاعر في تثوير الواقع هي الوجه الملازم لرغبته في تثوير تقنيات القصيدة. ولذلك مضى أمل إلى النهاية في الإلحاح على ضرورة استبدال الأقنعة القومية بالأقنعة الأجنبية، ووضع التاريخ القومي موضع الصدارة في علاقات الإشارة والتضمين مهما اختلفت جوانبه الدينية والسياسية والاجتماعية والأدبية. وترتب على ذلك انسحاب الشخصيات الأجنبية إلى علاقات الغياب في شعر أمل، وتصدر الشخصيات القومية في علاقات الحضور على نحو متصاعد، ابتداء من ابن نوح الذي يأبى الفرار أو النزوح، مرورا بزرقاء اليمامة والجندي العبسي وأبي موسى الأشعري وأبي نواس والمتنبي، وانتهاء بكليب بن ربيعة واليمامة كبرى بنات كليب. وكلها شخصيات تحوّلت إلى أقنعة لها ترابطاتها المختزنة في الشعور الجمعي، وثيقة الصلة بغيرها من الرموز القومية التي شملت خالد بن الوليد والحسين وصقر قريش وسيف الدولة وصلاح الدين، جنبا إلى جنب رمزية الخيول التي كانت علامة على المجد العربي الذي تراكض عبر سهول الدنيا. وغير بعيد عن ذلك الإشارات التي وصلت بين المغول والمماليك والصليبيين والترك، في موازاة لحظات التاريخ الدالة التي تبدأ من آخر سفن قريش إلى غرناطة، وتنتهي عند قبة الصخرة التي ترنو لمغيب الشمس العربية على خريطة مبتورة الأجزاء، كان اسمها سيناء. وسعت الأقنعة التراثية إلى بعث قيم الذاكرة القومية من رماد النسيان، ووصل الخاص بالعام في السياقات التي تتجاوب بها أزمنة التاريخ العربي، خصوصا حين تضيف خبرة الماضي إلى الحاضر، ويضيف الحاضر إلى معنى الماضي، ويرتد كل نظير على نظيره في مناقلة الدلالة التي ترهص بالمستقبل أو تتنبأ به. ويعني ذلك أن أقنعة أمل استعانت بتاريخها الذي انتسبت إليه على تاريخها الذي تولّدت عنه رافضة مساره، باحثة عن أفق مغاير يبعث روح المقاومة التي لا تكف عن القتال حتى لو كانت النهاية معروفة منذ البداية. وكما أبانت هذه الأقنعة عن تقابل مجد الماضي وهوان الحاضر، دفعا للحاضر إلى إعادة إنتاج ماضيه، كشفت عن تعدد لحظات الماضي نفسه، وانطواء لحظات انحداره على الأسباب نفسها التي قادت الحاضر إلى هزيمته، فكانت مرايا الحاضر الذي يجتلي نفسه في تاريخه الذي هو إياه بأكثر من معنى. وغير بعيد عن هذا المنظور، ما أعانت به هذه الأقنعة الشاعر في علاقته بجمهوره، خصوصا في تأكيدها حضور صوته المركزي الذي استعاد الملامح الأساسية للشاعر العربي القديم، من حيث هو الفرد الذي ينطق باسم الجماعة، وبصيرتها الهادية التي تقودها في الظلمات، ووعيها الحكيم الذي يصوغ همومها وأحلامها، وينطق المسكوت عنه من خطابها، ويضعها في مواجهة شروط الضرورة التي تحياها بما يدفعها إلى الثورة الدائمة على واقع الضرورة. وحين ينطق كل قناع من هذه الأقنعة بواسطة ضمير المتكلم، مؤكدا مركزية الصوت الذي يتوجه إلى المخاطب أو المخاطبين، منطويا على توتر الأداء الدرامي للصوت الذي يقوم بعملية الإنشاد، فإنه يؤكد مركزية "أنا" الشاعر الذي يتكلم من وراء القناع، ويجسّد هذه "الأنا" كما لو كانت قطب الحضور الذي ينوب عن المقموعين، والذي يستبدل بمركز السلطة القمعية نقيضها الذي لا يخلو من معنى المركز المتمرد أبدا على كل قمع. ولذلك، لم تخل أقنعة أمل دنقل من شخصيات الشعراء الذين عرفوا بالتمرد الاجتماعي أو السياسي أو الفكري، من أمثال أبي نواس والمتنبي وغيرهما من الشعراء الذين كان شعورهم بذواتهم مهيمنا على قصائدهم، وكان اعتزازهم بمكانة فنهم تهوينا من تضخيم مكانة السلطة التي استند إليها ممدوحوهم. وكانت مركزية "الأنا" في شعرهم مناوشة متصلة للتقاليد الجامدة للجماعة والإذعان الخانع للحاكم والاتباع الخامل للسلف، الأمر الذي جعل من أقنعة هؤلاء المتمردين القدامى رفضا لقمع السلطة بكل تجلياتها، ودليلا على إمكان المقاومة بواسطة حيل الشعر الذي يعرف قيمة الضوء الطليق. وكما كان الشاعر المعاصر الامتداد المتجدد لأسلافه الشعراء، في السخرية والاستهزاء والتهكم على الشروط الملازمة للقمع في كل العصور، كانت أقنعة هؤلاء الأسلاف تأكيدا وتجسيدا للحضور الخلاّق للشعر الذي لا يتوقف بحثه عن وجه الشروق، ولا يكف عن كونه الفرح المختلس في حياة المقموعين حتى لو صادره العسس. ولم تكن أقنعة غير الشعراء بعيدة عن التمرد الجذري الذي انطوت عليه أقنعة الشعراء في هذا السياق، فهذه هي تلك في الدلالة الأساسية للرفض الذي تولّدت منه كل الأقنعة في شعر أمل، سواء في مواجهة قمع السلطة السياسية الذي ظلَّ قاسما مشتركا في الأقنعة كلها، أو تخاذل المتخاذلين في المواقف الوطنية والقومية على نحو ما نجد في قناعي أبي موسى الأشعري وابن نوح، أو نقض التصورات الاعتقادية التقليدية عن الكون والفساد على نحو ما نجد في سفر التكوين. يضاف إلى ذلك مفارقات التركيبة الاجتماعية التي أصبحت مشهدا متكررا في علاقات الأقنعة، خصوصا حين تبين عن تحيزات صاحبها لشباب المدينة الذين يروضون جموح الفساد في سعيهم إلى إنقاذ الوطن. وأخيرا، مواجهة العدو الأجنبي مواجهة شاملة، تضع الغزو العسكري موضع الغزو الثقافي في العلاقة التي تدنى بطرفيها إلى حال من الاتحاد، فيغدو الغريم الذي تسعى إليه الإسكندرية، في المزمور الأول من مزامير العهد الآتي، الوجه الآخر للعدو في قصيدة "لا تصالح" الشهيرة. وكان الزمن الحاضر نقطة البدء والختام في صياغة الأقنعة بما يحقق هدفها في تثوير الواقع. ولذلك لم تنحصر عملية الصياغة في صيغة واحدة، أو قالب متكرر، وإنما تعددت الصيغ وتباينت التشكيلات واستغل الشاعر مطاوعة المادة التاريخية التي فرضها أفق الدلالة السياقية، مراوحا بين مستويات الزمن، متنقلا بين لوازم الزمن القديم للقناع وقرائن الزمن المعاصر للصوت الذي ينطق من وراء القناع. وكانت النتيجة تفاعل المكونات والقرائن بما أفضى إلى تغيير الأطراف، ومن ثم تبدل معنى الحاضر الذي عثر على عمقه التاريخي الكاشف، وتحوّل معنى الماضي الذي أصبح مصاغا من منظور الحاضر، وأعيد إنتاجه بما يدفع حركة هذا الحاضر إلى الأمام. وتلك نتيجة جسّدتها صيغ الأقنعة المتنوعة التي لم يعد من الممكن ردها حرفيا إلى أصلها التاريخى الذي تشير إليه، خصوصا بعد أن دخلت دائرة المجاز، وغدتْ تأويلا للأصل وإعادة إنتاج له. والعلاقة بين التأويل وإعادة إنتاج علاقة بين وجهين لعملية واحدة، فكل تأويل للأصل إعادة إنتاج له في ضوء رؤية تنتسب إلى عصر مغاير لعصره، وكل إعادة إنتاج للأصل تأويل ينتج عن الرؤية نفسها أو يلازمها. وعندما نتحدث عن المعاني التأويلية للأقنعة التراثية في شعر أمل، من حيث عمليات التحوير والتعديل التي باعدت بين الأقنعة وأصولها القديمة، فإنما نتحدث عن إعادة إنتاج هذه الأقنعة لأصولها التاريخية من منظور الرؤية القومية التي انطوى عليها شعر أمل دنقل، والتي اكتسبت عناصرها الحدية بسبب الهزيمة الشاملة للعام السابع والستين، الأمر الذي أدّى إلى تحديد بؤري للنظر إلى الأصول التراثية، والتركيز على عناصر بعينها، وإعادة ترتيب مكوناتها. وفي الوقت نفسه، وضع هذه العناصر في علاقات تصل بينها في الدلالات الناتجة التي تضيء الماضي والحاضر من منظور الرؤية المهيمنة. بكلمات أخرى، لم تباعد عمليات التحوير والتعديل بين الأقنعة التراثية وأصولها، ولم تقطع ما بينها والتاريخ الذي تنتسب إليه من صلات. ولذلك تظل الأقنعة دالة على أصولها القديمة في التاريخ العربي القديم الذي تتهوس به قصائد أمل، وتنتسب إليه في الوقت الذي تدل على عصرها الخاص وتنتسب إليه. ولعلي في حاجة إلى القول إن القناع بنية ثنائية أساسا، من حيث هو تركيب مجازي موسّع ينبني على تفاعل صوتين وزمنين، صوت الشاعر الذي يخاطب عصره في زمن الكتابة وصوت الشخصية التاريخية أو الأسطورية في زمن الاستعادة. وسواء كان القناع أقرب إلى الاستعارة التي يحل فيها طرف محل غيره، أو الكناية التي يراد بها لازم المعنى مع جواز إرادة المعنى، فإن الثنائية قائمة في الحالين: حال الاستعارة التي يغيب فيها المشبَّه المنتسب إلى الحاضر عن علاقات الحضور رغم فاعليته فيها، حين يخلي مكانه للمشبَّه به المنتسب إلى الماضي. وحال الكناية التي يتجاور فيها طرفا الماضي والحاضر، أو يوضع أحدهما فوق نظيره بما يبقى على ثنائية الدلالة التي تجمع معقوليتها ما بين المعنى اللازم والمعنى الجائز. والمناوشة بين طرفي الثنائية في القناع هي مصدر دراميته، وسبب ما يحدث من تبادل مكاني بين صوت الشاعر وصوت القناع. وهي أصل ما نجده من حوار داخلي بين الأنا الذات والأنا الموضوع في الأقنعة، أو ما نراه من حوار بين شخصية القناع وغيرها من الشخصيات المضادة أو الموازية التي تكشف بالتجاوب والتعارض عن أبعاد التركيب المجازي في قصيدة القناع. وأيا كانت مجالات أقنعة أمل دنقل، ومهما كان اختلاف الأزمنة التي تنتسب إليها في الماضي العربي، فإنها تتحرك على محاور ثلاثة، ينبني كل منها على ثنائية متكررة، تصله بغيره في المبدأ الثنائي العام. هناك القناع الذي يختفي الشاعر وراءه في دائرة المشابهة التي تدنى بطرفيها إلى ما يوهم الاتحاد. وهي دائرة منطوية على الثنائية التي يتقابل فيها الماضي والحاضر، أو الزمن الذي ينتسب إليه القناع والزمن الذي ينتسب إليه الشاعر. وهناك الجمهور الذي تنبني استجابته إلى القناع على مستويين متفاعلين: ترابطات القناع الموروثة في الذاكرة، والسياقات الجديدة التي يدمج الشاعر في علاقاتها هذه الترابطات بما يتجه بها إلى دلالة أو دلالات بعينها. وهناك سلطة القمع أو قمع السلطة الذي يرى قبحه في مرايا الأقنعة بما يقوِّض من بطشه، وذلك على نحو أشبه بما فعله درع برسيوس حين شاهدت على صفحته الميدوزا بشاعة وجهها فانسخطت حجرا. وهناك الشاعر المختفي وراء القناع الذي لا ينال منه بطش السلطة، نتيجة مراوغة دواله التي تقول شيئا وتعني غيره. وتوازي علاقة التضاد بين القمع والقناع علاقة التشابه بين الشاعر والقناع، في الثنائية نفسها التي تقابل بين الشاعر والقمع أو الشاعر والجمهور، فالثنائية قائمة في كل علاقات الأقنعة ومبناها في الوقت نفسه.