الكتاب: جيل الهزيمة من الذاكرة المؤلف: بشير العظمة الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998 - 286 ص "المذكرات إما أن تكون صريحة وإمّا لا تكون". هكذا يؤكد الكاتب بشير العظمة في "المدخل" ثم يجعل من كتابه قسمين أولهما "توقف عند المنعطفات الرئيسية لحياتي العادية"، معتبراً ان سيرته الذاتية غير ذات أهمية، لينتقل في القسم الثاني من المذكرات الى الأحداث السياسية الهامة التي شارك فيها حتى عام 1963، ولو أنه منذ البداية يفضل أن يبقى المواطن الذي يمارس الطب ويخدم المرضى، غير منخرط في الشؤون السياسية، لأنه يكره الألاعيب والمراوغات، ولأن له رأياً معيناً في المبادىء السياسية وفي تنفيذها، مبنياً على الصدق والحقيقة، على التزام العدل والعدالة، لا على المظاهر والشعارات. ولكن الواقع، هو أن سيرة بشير العظمة الذاتية ذات أهمية كبيرة، لا من حيث أنها تتعلق بحياة رجل من عائلة من الطبقة الوسطى تجمع أفرادها "خيالات أمجاد الجد البعيد" وحسب، ولكن من حيث أن سيرة هذا الفتى كانت منذ البداية صورة لمجتمع دمشقي في النصف الأول من القرن العشرين، وعرضاً لأحداث ولمرحلة من حياة الناس في معاملة أبنائهم ونسائهم، وتعاملهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم العامة والخاصة. يتكلم بشير العظمة عن والده ووالدته، وعن مكانة جدّه، وعن الحياة البيتية، ذاكراً "قسوة الظروف المادية والنفسانية"، منبهاً الى ما هنالك من "تناقض فاضح بين الظاهر والباطن، بين صورتنا الخارجية ودخيلتنا في بيوتنا خلف الأبواب في حياتنا الواقعية اليومية". وللطفولة أهمية كبيرة في حكاية بشير العظمة فهو لا يذكر أنه لها "لاعباً مع أبناء أو بنات عمومتي في الدار". ثم أن معاملة الطفل في المدرسة كمعاملة حيوان صغير، إلا إذا كان ابن احد "أصحاب النفوذ أو أبناء العائلات" إذ يعامل بالنصح والملاطفة. وليس ذلك كل ما في الأمر. علاقات التلامذة بمدرسيهم مثيرة للخوف والريبة، كريهة الأجواء من الناحية الجنسية إلا إذا عرف الولد كيف ينجو من مغبة الانحراف الجنسي. وبرحيل الأتراك من البلاد العربية، يختلف الناس في نظرتهم للفرنسيين كأوغاد، فيما الانكليز "محترمون شبعانون أكابر" برغم أن بريطانيا كانت صاحبة وعد بلفور ورأس الأفعى الاستعمارية. وفي هذا الجو كان الفتيان - يستجيبون لموجة الأناشيد، فيما هم يتابعون الدراسة" وهم يجهلون لغة الأدب الذي يدرسون، فيما المدرس يجهل اللغة العربية. ويقارن بين التلامذة أبناء "الأكابر" والتلامذة المتوسطي الأحوال أو الفقراء، من حيث مستوى حياتهم، لكنه كان في هذه الأجواء مندفعاً في المطالعة، ليعود فيروي لرفاقه ما قرأه من روايات جرجي زيدان أو سواه. وأهم ما خبره في هذه الفترة أحداث الثورة السورية سنة 1925، والتظاهر والإضرابات، حتى أن الفرنسيين لم يعرفوا الاستقرار برغم بقائهم منتدبين على سورية نحو ربع قرن من الزمن. وبالانتهاء من الابتدائي، حيث كان التعلم بالعصا والقمع والشتيمة كالقرود والبهائم الأخرى، انتقل الى أجواء الحفظ عن ظهر قلب من دون فهم الى مرحلة المعلم الذي لا يعلم والإدارة الضائعة العاجزة عن ضبط الأمور، ليتهيأ الى دراسة الطب رافضاً مقولة تصرف الآباء بمستقبل الشباب من الجنسين، وغايته من ذلك "أمل وامكانية للعيش الأفضل والطعام الأنفس"، وبرغم المصاعب من حيث عدم توفر الكتب والمراجع وأجواء الخوف والإرهاب في المعهد الطبي، نجح بالاحتفاظ بالمركز الأول بالدراسة، ثم ذهب الى فرنسا لمتابعة الدراسة والتخصص، ليعود الى دمشق للعمل في مختبر الشعبة الداخلية. وإذا كان قد عاش في فرنسا مأخوذاً بالأجواء العلمية، ولم يعرف فرنسا الا الفرنسيين فإنه واجه بعد العودة محاولات من رفاقه لقضاء حياة اللهو في الملاهي، لكنه أصر على الرفض لأن ذلك ليس من طبيعته. وأثناء ممارسة الطبابة تعرف الى "ممرضة ممشوقة القد"، ظن أنه أحبها، لكن الأهم من ذلك تعرفه الى مريضة هي "فنانة" في دمشق وزواجه منها زواجاً دام شهراً فقط، إذ انتهى تيهه بذلك وتزوج من رفيقة عمره ابنة خاله. ووقعت الحرب العالمية الثانية، وأدى الاستياء من سياسات بريطانياوفرنسا نحو العرب الى التعاطف الشعبي مع المحور هتلر وموسليني" وكأنه آمن بذلك، فبدا يدرس اللغة الألمانية باعتبار هتلر سيكون المنتصر، ولكن انتصار الحلفاء غيّر الأوضاع، وبدأ الصراع بين فرنساوبريطانيا على التفرد بالهيمنة على المنطقة. وهنا وجد بشير العظمة نفسه مدعواً للانتساب للحزب الوطني، ثم لحركة التحرير، لكنه رفض، إذ كان يرى القيادات العربية التقليدية غائبة عن عصرها لا تدرك ان الحرب القائمة ما هي غير حرب بين الدول للهيمنة على العالم ولاعتقاده "أن الديموقراطية تربية وكفاح وممارسة... وليدة كفاح جماهيري تاريخي مديد انتزعت فيه الشعوب حقوقها في المشاركة والرقابة والنقد". وواصل عمله الطبي في اختصاصه في السل الرئوي حتى سنة 1958 يرفض أن يتعاطى السياسة. وهنا يشرح لنا أسباب انتشار هذا الداء، واهتمامه بالمصابين به، خلافاً لعادات سابقة كانت تعزله عن المجتمع" وعرض لنا صورة استنزاف المريض وضرورة الاهتمام الطبي بالمصابين فيما كان يشهد حدوث الانقلابات العسكرية وتدخلات بريطانيا للحلول محل فرنسا، وأحداث الحرب العربية الإسرائيلية وقيام الدولة الصهيونية بحيث "سادت الأجواء العربية حالة رهيبة من الإحباط والقسوة"... "واستسلم الرأي العام يائساً من الخيانات والعمالة". وتحولت سورية الى محور تدور حولها المؤامرات من أجل احتواء المنطقة. وأدى ذلك الى اتفاق عام في سورية "على المطالبة بالوحدة مع مصر للخلاص من المؤامرات والانقلابات والتهديد بالاكتساح". وكانت بالتالي "وحدة اندماجية وفورية". وتحمس بشير العظمة للاندماج حتى لقد شارك في تزوير الاستفتاء على الدستور وانتخاب جمال عبدالناصر رئيساً، لكنه لحظ أموراً غريبة منها وقوف اسرائيل وسواها متفرجين هادئين، لم يعتبروا وحدة مصر وسورية خطراً، كما لحظ نشاط الحزب الشيوعي وهو غير المرخص له قانونياً قبل الوحدة. لقد تحمس للوحدة مع مصر، واشترك في الوزارة كوزير صحة، لكنه سرعان ما لاحظ أشياء غير مرضية في زياراته المفاجئة لدوائر الوزارة، كما لحظ فروقاً بين المواطن المصري والمواطن السوري - انسجام العادات والملابس عند المصريين مثلاً، دون ذلك عند السوريين. وكان كما يقول عاطلاً عن العمل، فشعر بالضيق. وكان في اتصالاته بجمال عبدالناصر الذي يحترمه ويقدره يجد ازدواجية، وآثر أن يصدقه القول، رافضاً عروض الإغراء، الى أن كانت محاولات رشوته من قبل شركات الأدوية، فتقدم بالاستقالة وعاد الى عمله الطبي في سورية. وقد لحظ أن العداء المصري ليس للغرب، لكن الغرب هو الذي دفع بمصر الى السوفيات. ثم كانت فترة الانفصال ومحاولات العودة عنها، لكن هذه المحاولة فشلت برغم محاولات عبدالناصر. وفي هذه الفترة طلب من بشير العظمة تشكيل وزارة سورية، ففعل بعد رفض ومحاولة تنصل، ولكنه وجد أنه لا بد له أن يكون شاهد زور إذ وجد ان العسكريين يلازمون رئيس الجمهورية السوري ويناقشونه ويطالبون، فيما رئيس الوزارة يقف من ذلك موقفاً حذراً. وفشلت محاولة الاتصال بالقاهرة لاعادة الوحدة لأن مصر رفضت التفاوض إلا مع حكومة "تعلن التوبة وتطلب المغفرة". تلك الحكومة لم تكن آنذاك بنظر مصر معبّرة عن إرادة السوريين غير صالحة للمحادثات، وجاءت محاولة رشوته لضمان مستقبله فرفض، ثم استقال في 13/9/1962. لكنه إذ قبل برحلة الى الأممالمتحدة حضر جلسات لمجلس الوزراء فأذهلته بأجوائها السائدة في صراعات مكشوفة لا سيما وأن الرئيس الجديد لمجلس الوزراء خالد العظم أسقط من حسابه تحولات كبيرة في طموحه الى الرئاسة الأولى. وفي هيئة الاممالمتحدة وجد أنه لا يزال يعتبر ناصرياً وأن الخطر الأول الذي يقاومه العرب ليس اسرائيل بل الشيوعية العالمية والناصرية. وبذلك آثر انهاء حياته السياسية، ولم يشترك بعد ذلك الا في مؤتمر طبي عربي في العراق عاد منه برأي بأن عبدالكريم قاسم غير متزن. * * * لم يقصد بشير العظمة المتعة النفسية من سرد ذكرياته، بل أراد أن يصوّر "عينة عشوائية لشريحة واسعة من أبناء النصف الأول من القرن الحالي" في مواجهة التحديات المصيرية. كان يكتب بشفافية مقرونة ببساطة تنمان عن حب الوطن والشعب والبشرية، ليعود فيسأل: لماذا اتسمت مواقف هذا الجيل بالانهزامية؟ أراد الإجابة عن خلفيات النكبات والمطبات ومشاعر اليأس التي يعاني منها الجميع منذ نصف قرن تقريباً بقصد "المشاركة في بحث نزيه للإنسان العربي المحكوم بالبقاء والضياع في نفق مظلم مسدود"، ليبين ما يراه اسباباً للهزيمة فيما هو يعلن إيمانه بقدرة العربي على الإبداع والتفوق. ويحاول في النهاية أن يرد على السؤال: كيف أمكن اختراق هذا العالم العربي بيسر وسهولة في مسلسل الهزائم؟ ولعل بعض الجواب على ذلك "انكفاء شعوب المنطقة العربية على ذاتها كرفض الاتصال والتعامل مع الغرب الكافر"، لكنه يعترف بأنه غير مؤهل للرد على ذلك لأن القضية تاريخية معقدة". ومن أسباب النجاح المنتظر بيد العقلانية التي لا تبالغ بالتمسك بالقديم لأنها بذلك تجعل الإنسان يعيش حاضره بعقلية الماضي. ثم يرفض السلطة التي تعطل الموقف العقلاني، ويدعو الى الإيمان فالحرية والديموقراطية، سبيلاً للتطور والتقدم. وخلاصة القول أن هذا الكتاب يظل ملازماً "للذاكرة" يجعلنا "نرى الأشياء بطريقة جديدة أو مختلفة"، كما يحرضنا "على مداومة التفكير وإعادة النظر" بالأمور، ويزعزع "قناعات كانت ثابتة" ويدفعنا الى "التساؤل والشك". لقد عرض كاتب المذكرات حياة ومرحلة بصوت وصراحة وشجاعة، وأبدع في الوصف ولم يأنف من نبش جذور عيوبه، مفسحاً في المجال للإضافة والتعديل. وتميز "جيل الهزيمة" بجدة الأسلوب الذي يتوخى كشف القناع عن الذات وعن الآخرين، ليصل من الذات الى ما هو موضوعي. هو لا يطلب منا أن نوافقه على آرائه، سياسية أو غير سياسية، ولكنه يريدنا أن نرى الواقع وأن نكون ناقدين له بشجاعة لاكتشاف نقاط الضعف، وتبني الصيغة العقلانية في الفكر والسلوك داعياً الأجيال القادمة: "العقل طريقنا الى المستقبل، فانتبهوا"