تحتفل مصر اليوم بعيدها الوطني. وفي الايام الغابرة كانت جماهير الامة العربية تعتبر 23 تموز يوليو عيداً قومياً لها. اما الآن فقد حان الوقت لنعيد تقويم المعاني التي ادخلها هذا الحدث على الثقافة السياسية المعاصرة ووجدانها. ما حدث في 23 تموز عام 1952 كان انقلاباً عسكرياً صار تدريجاً "ثورة" نتيجة بعض العوامل السياسية والفكرية التي ادخلتها القيادة على انماط الحكم وعلى سلوكها عربياً ودولياً. إذ ما كاد يمر على هذا الانقلاب نحو ثلاث سنوات حتى ادرك ان ما حصل، ولا يزال حينها، يشكل اختراقاً ثورياً للمعادلة الدولية السائدة آنذاك، وتجديداً للدور التاريخي لمصر في قضايا المصير العربي في مغرب الامة ومشرقها. في السنوات الثلاث الاولى بعد 23 تموز اتسم الانقلاب بالتزام سياسة اصلاحية، في حقلي الاقتصاد والزراعة، وفي محاربة الفساد الذي استشرى والذي كان عاملاً اساسياً في تحفيز الجيش للقيام بالمهمة الموكولة اليه في المجابهة مع المشروع الصهيوني ومن ثم اسرائيل. هذان العنصران - الاصلاح ومحاربة الفساد - دلاّ على بدايات التزام لمشروع نهضوي قابل للصيرورة. ان التأكيد على ان ما حدث في 23 تموز 52 كان انقلاباً لا ينفي مطلقاً انه نضج الى ثورة، دامت، وان بتفاوت، بين عامي 1955 و1967. يبقى ان نحدد اللحظة الحاسمة التي اخرجت حدث 23 يوليو من كونه انقلاباً وصار بمثابة ثورة على اسباب الهزائم والجمود والفساد. وسأكتفي بالقول ان اللحظة كانت حينما تمردت قيادة جمال عبدالناصر على التبعية للغرب، وعملت على فك الطوق الذي كان من شأنه التضييق على حرية مصر في الحركة وحصر خياراتها القومية والدولية. هذا ما يفسر اهمية صفقة الاسلحة التشيكوسلافية عام 1955، اذ كانت بالغة الاهمية بالنسبة الى العرب لأنها كانت بمثابة اعلان استقلال للارادة العربية وفك الرهان عنها، ما ادى الى بلورة المشاعر العارمة للشعب العربي في كل اقطاره التواقة الى من يعبر عن نقمتها المشروعة على الغرب الذي ظلم الامة في قضية فلسطين، وكان لا يزال يمعن في ممارسة الاستعمار والهيمنة في الكثير من البلدان العربية. كان هذا التحدي الذي اقدم عليه الرئيس عبدالناصر بفك عقدة التبعية والارتهان سبباً مباشراً في تعزيز مكانته الشعبية من جهة، وادى من جهة ثانية الى تعزيز التوجه لدى كل من بريطانيا وفرنسا لاستعمال اسرائيل أداة لا لاحتواء النفوذ الناشئ في الامة العربية فحسب بل العمل لتسديد ضربة قاتلة لمن تجرأ على ممارسة الارادة الحرة بالاضافة الى اعلانها. وكان من جراء شدة الرغبة في الانتقام من الدور المتعاظم لمصر ان جرى التخطيط للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956. لكن التهديد الغربي لمصر لم يثنها عن متابعة سياساتها التحررية التي اكسبت قيادة ثورة 23 تموز شبه اجماع من التأييد قلما حصل مثيله من قبل… ومن بعد! استمرت قيادة الثورة في مجابهة الغطرسة الغربية، فكان تأميم شركة قناة السويس، وتقديم الدعم النضالي، المادي والسياسي، لحركات التحرر في الدول العربية الرازحة تحت الاستعمار، كما في مختلف الدول الافريقية. وكانت مصر في سياستها هذه عاملاً رئيسياً في تمكين العديد من الدول الافريقية من انتزاع حقوقها في السيادة والاستقلال. ولم تكف الدول الاستعمارية - بريطانيا وفرنسا - عن التآمر لزعزعة اركان هذه الثورة، وكان العدوان الثلاثي بالتحالف بين بريطانيا وفرنسا واسرائيل. جابهت مصر هذا التحدي بحزم وتصميم، ما جعل التعبئة القومية قوة دافعة في انجاز التعبئة الدولية. ظل المد والجزر في الصراع المصري والعربي - الغربي حتى تمت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 مبلورة ارتباط الوحدة بالتحرر، وقامت الجمهورية العربية المتحدة. شكل قيام الوحدة اول انجاز حقيقي لحركة القومية العربية وأول رد عملي قاطع على المشروع الصهيوني. وتصاعد، في الفترة بين عامي 1955 و1958، المد الشعبي الى اوجه، كما ان "حدث" قيام الوحدة بين قطرين عربيين غرس في الوجدان الجماعي ان ما اعتبره ويعتبره الكثيرون مستحيلاً صار ممكناً. لكن ماذا بعد ذلك؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال لا بد من ابداء الملاحظات التالية: ان الفترة التاريخية التي لخصتها شكلت بالنسبة الى عدد من الاجيال العربية التي ننتمي اليها، حقبة مكنتنا ولو للحظة من ان نلتقط الحلم الذي راود العرب وكاد ان يصبح واقعاً. هذه اللحظة زرعت فينا بذور التفاؤل بأن ما اعتقدناه حلماً هو في الحقيقة "رؤيا" مستقبلية للأمة. ان استحضار هذه اللحظة، التي تزاوج اثناءها المرغوب مع الموجود، غدا المصدر الذي منه نستمد ديمومة الالتزام والقدرة على تكييفه من دون تمييعه. اشدد على هذه النقطة لأن الاجيال الطالعة لم يتح لها في حالة التردي الحالية ان تنفذ الى روعة هذه اللحظة في التاريخ العربي المعاصر، اضافة الى ان هناك خطة مقصودة تنفذ للحيلولة دون تمكين الاجيال الطالعة من النفاذ الى هذه اللحظة المضيئة في مسيرتنا. ما كادت نشوة الوحدة تستحوذ على جماهير الأمة وضميرها وتعلن من دون اي تردد تعلقها بالقيادة التاريخية لأبطال معركة السويس وصانعي الوحدة حتى اخذت تتضح التناقضات التي اجهضت الكثير من المكاسب بعد معركة السويس واعلان الوحدة. كانت الوحدة بحد ذاتها ثورة، لكن من دون فكر ثوري يحكمها ويديرها. التطور الجذري الذي حصل بين مصر وسورية عولج بيروقراطياً. كان الاندفاع في سورية نحو الوحدة سياسياً ووجدانياً وشعبياً، وذات جذور راسخة. وهذا الاندفاع نحو الوحدة كان ايضاً ميزةً لالتزام جمال عبدالناصر وقناعته. لكن نمط الحكم الذي ساد مصر منذ عام 1952 لم يتبدل بما فيه الكفاية ليعالج النقلة النوعية التي ادخلتها الوحدة - الجمهورية العربية المتحدة - على طبيعة المعالجات والسياسات العامة للدولة. تعاملت السلطة في مصر مع "الاقليم" السوري كأنه راغب في الالتحاق بدلاً من كونه ملتزم الوحدة. ادى هذا التوجه البيروقراطي الى اشاعة التشكيك بالاحزاب والقيادات التي ساهمت في تحقيق الوحدة فتم تهميشها والغاء دورها. وكان سبب هذا التصرف ان منهج الانقلاب طغى على السلوك التغييري والثوري. وبدأ العد العكسي الذي ادى في نهاية المطاف الى نجاح حركة الانفصال عام 1962، التي لا نزال نعاني من تداعياتها لغاية الآن. اشير الى ان المنهج الانقلابي تغلب على المنهج الديموقراطي والتغييري لأن الفئة التي قامت بانقلاب تموز لم تطمئن لمن لم يشاركها "التنظيم السري" ما ادى الى ابتعاد الاحزاب والحركات القومية عنها. كما ان الفئة الانقلابية نفسها لم تحاول بما فيه الكفاية التعرف على المخاض الفكري الذي جعل هذه الاحزاب والحركات تتجاوب مع قيادة عبدالناصر وتوجهاته. ظلت مصر عبدالناصر حتى بعد سقوط الوحدة رائدة في تبني نضالات الشعوب العربية ودعمها ضد الاستعمار، كما ان اتباعها سياسة عدم الانحياز جعلها من رواد هذه الحركة الاستقلالية. كان الماريشال تيتو يواجه محاولة "الاتحاد السوفياتي" السيطرة على يوغوسلافيا الشيوعية، كما كانت مصر عبدالناصر تواجه محاولات الغرب اعادة السيطرة والتحكم بمقدرات العرب وثرواتهم. وعلى رغم التباين في مناهج الصمود فان ما جمع عبدالناصر وتيتو كان تأكيدهما على ممارسة الاستقلال عن الكتلتين اللتين ادخلتا الحرب الباردة الى الساحة الدولية. في هذه الاثناء كان جواهر لال نهرو قد ارسى للهند مكانة دولية متميزة، ورسم للدول الحديثة الاستقلال سبيل "الحياد الايجابي" او عدم الانحياز بعد نجاح عملية التحرير في الهند. رأى جواهر لال نهرو ان ربط مصر عبدالناصر ويوغوسلافيا تيتو - على رغم الفروقات في ظروفهما وطبيعة التحديات التي يواجهانها - مع الهند في محور دولي سيتيح للقوى المناهضة للاستعمار الغربي الاستفادة من وجود خيارات عقائدية وسياسية متنوعة امامها. كان لانفصال سورية عن مصر، وبالتالي تفكك الجمهورية العربية المتحدة، اثر سلبي بالغ على التطورات التي حصلت في المنطقة. سقوط الوحدة اعاد الحياة او بالاحرى الحيوية الى القطرية في النظام العربي. وكان من ابرز نتائج الانفصال ان قضية فلسطين لم تعد تدار وتعالج كمسؤولية قومية مباشرة وشاملة، مثلما كانت فلسطين مشمولة بمطلب التحرير، بل انتقل التوجه الى جعل القضية الفلسطينية مسؤولية فلسطينية، وان كان لا مفر من التضامن العربي معها. بعد عام 1964 تحول جمال عبدالناصر من كونه قائداً للجماهير العربية الى كونه رئيس دولة موثوق به. ادرك عبدالناصر ان ثقة الجماهير بقيادته لم يبادلها بالنسبة نفسها ثقته بها. وتعاملت الجماهير معه كونه رمزاً لكرامتها وقائد مسيرتها وأعطته ما لم يعطه شعب طواعية لأي زعيم في تاريخ العرب المعاصر. اما القيادة في مصر فلم تبادل الشعب الثقة بالنسبة نفسها، فتعاملت معه من خلال مراكز قوى واجهزة استخبارات متعددة. صحيح ان القيادة في مصر كان لديها هاجس أمني، وكانت في هذا الاطار على حق، الا ان الجماهير ارتبطت بقيادة مصر ومنحتها مناعة امام المؤامرات، في حين ان هذه القيادة بقيت في ذلك الحين الى حد ما معزولة عن الجماهير وطلائعها الفكرية والسياسية. افرز هذا النمط في اسلوب الحكم ومنهجه في مصر التزاماً قومياً لفترة دامت اكثر من عقد من الزمن، كما افرز النقيض الذي تبلور مضمونه بعقد الرئيس انور السادات اتفاقية كامب دافيد ومعاهدة الصلح مع اسرائيل. أدت هزيمة حزيران 1967 الى تقديم الرئيس عبدالناصر استقالته، مصمماً على تحمل المسؤولية شخصياً. كان الرفض الشعبي العارم لهذه الاستقالة صادقاً وعفوياً. الاستقالة كانت بمثابة اعتذار عن فشل، كما كان الرفض الشعبي للاستقالة اعطاء القائد الذي احبته الجماهير فرصة ثانية لاستئناف المسيرة التي رسمها لوطنه وأمته. لكن منح الرئيس عبدالناصر فرصة ثانية من قبل الجماهير العربية كان، ايضاً، تعبيراً عن خوفها من القفز الى المجهول، اضافة الى محبتها وتعلقها بقيادته. لسنا هنا في صدد سرد تاريخي لكل ما حدث. ولكن ما يستدل من تناقض بعض سياسات قادة مصر منذ 23 تموز عام 1952 ان الانقلاب تحول في مرحلة تاريخية مهمة الى ثورة، علماً ان هؤلاء القادة لم يكونوا ملتزمين، بنفس النسبة، سياسة التحرير ومقاومة التبعية. وتمكن انقلاب 23 يوليو باستمرار من تعبئة الجماهير، لكنه فشل في تنظيمها، لأن فقدان الرابط العقائدي بين قيادات الانقلاب يفسر التناقض الحاد بين سياسات جمال عبدالناصر وانور السادات. ويستتبع هذا الوضع سؤال عمن يمثل شرعية انقلاب 23 تموز: ثورة خروج مصر على التبعية واعلان استقلال ارادتها، أم الانقلاب على الثورة وتراثها العربي الذي قام به السادات واخرج مصر من اطارها العربي؟ ان التأرجح بين تراث نضالي يؤكد الانعتاق من التبعية وبين ممارسة السيادة مدخلاً للتفلت من المسؤولية العربية ادى الى ارتكاب مصالحة مع عدو الامة. هذا التأرجح في هذا العيد الوطني لمصر لا بد ان يدفع العرب في كل اقطارهم الى العمل على اخراج مصر من مأزق التأرجح وان يسهموا في ترجيح انفتاح مصر على ثورتها، واستبعاد الانبهار الذي كاد ان يحرم الامة من دور وعطاءات مصرها. صحيح ان التأرجح افضل من الانقلاب والتبعية ودليل على مخاض صحي، لكن رجحان الديموقراطية وتراث الكرامة القومية في الثورة يعيد الأمل كما يعيد التزاوج بين الحلم والواقع واعطاء فرصة اخرى للوحدة المنشودة ديموقراطياً وطوعياً. عندئذ تصبح ذكرى 23 تموز عيداً قومياً لكل العرب. هذا حق للعرب مثلما هي رسالة مصر في وطنها الكبير