في غمرة الأحداث الساخنة الراهنة التي تمر بها دولنا ومنطقتنا يبرز تساؤل منطقي حول تاريخنا والحقيقة في رواياته ومفاصله وثوابته ومقدّساته بعد أن طاول التشكيك كل نواحي حياتنا. فإذا كان «تاريخ» الأحداث التي نعيشها لكي تتحول الى مسلمات هو صورة طبق الأصل عن وقائع تاريخنا المسجل والمتداول وكأنه يمثل الحقيقة الكاملة التي لا يجوز المس بها فإن علينا أن نعيد النظر في كل شيء ونعتبر كل تشكيك مشروعاً ومحقاً لأن المكتوب يقرأ من عنوانه والعنوان لا يوحي بالصدقية والشفافية والموضوعية. فهل نحن في حاجة الى إعادة كتابة تاريخنا القديم والمعاصر في شكل مختلف وضمن رؤية واقعية تستند الى الوثائق والوقائع والقراءة الموضوعية لكل الروايات المتاحة والمباحة من دون استثناء ولا تمييز؟ إنه سؤال يتردد اليوم في أوساط المثقفين بعد أن سادت عقلية التباعد والاختلاف وظهرت بوادر محاولات تعميق الهوة وإثارة الخلافات ونثر الشكوك حول حضارتنا وتاريخنا ورموزنا ليس في المناهج والكتب فحسب بل في عقر دارنا من خلال التلفزيون. هذا السؤال كان أيضاً محور ندوة مهمة عقدت في القاهرة وشاركت فيها مع نخبة من المفكرين والمثقفين العرب وهم الدكتور وحيد عبدالمجيد الكاتب المعروف والدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة والدكتور عماد أبو غازي نائب رئيس المجلس الأعلى للثقافة في مصر. موضوع الحلقة تركز على «الرؤية الدرامية للتاريخ» بعد أن بدأت عدوى عرض المسلسلات التاريخية في الفضائيات العربية التي أثارت ضجة كبرى مثل مسلسل الملك فاروق، ومن قبله مسلسلات عن حياة جمال عبد الناصر وأنور السادات ورموز أخرى وأحداث تاريخية ألقيت عليها أضواء مخالفة لما كان متداولاً ومعروفاً. والأهم من هذا الجدل المثار تأكيد البعد عن ثقافة الاختلاف وتحوله الى مصدر خلاف وفتن وتشكيك ورفض للوجه الآخر للحقيقة التي نعرف جميعاً أنها نسبية وأنه ما من أحد يملك ناصيتها من ألفها الى يائها. وحتى لا نظلم المسلسلات التاريخية وما أقدمت عليه من إبراز لأشخاص أو تعتيم على آخرين وتسفيه للرأي الآخر فإنه يمكن الجزم بأن في تاريخنا كثيراً من الالتباس إن عبر القرون الماضية أو في حقائق تاريخنا المعاصر، بل وفيه الكثير من التزوير والتعتيم والتوجيه والإبراز والتشويه والمبالغة، إلا أن مطلب التصحيح والتصويب يجب أن لا يدخل في متاهات إثارة الفتن وتشويه صورة الرموز التاريخية، وأن لا يفتح المجال لتنفيذ مآرب القوى الأجنبية الحاقدة التي تحاول تشويه تاريخنا وتجاهل حضارتنا والإساءة الى صورتنا وتراثنا وموروثاتنا الحضارية. وحتى لا نظلم أنفسنا كثيراً فإن التشويه التاريخي شأن عالمي. لأن تاريخ العالم كتبه المنتصرون والأقوياء فلمعوا صورتهم وطمسوا هوية المهزومين كما حدث مع هتلر ونابوليون وغيرهما، بل أن الصورة النمطية التي درج عليها الغرب في النظرة الى تاريخنا عبر الكتب وفي الأفلام والمسلسلات والروايات الخيالية تعتمد على التشويه والإساءة لكل ما هو عربي وإسلامي. أما بالنسبة الى الرؤية الدرامية للتاريخ العربي فإن أخشى ما أخشاه أن تتحول الهجمة الفضائية التلفزيونية الى أداة هدم وتشويه لغايات في نفس يعقوب أو من باب الخفة والاستسهال واللامبالاة وتكمل ما بدأ من قبل في كتابة التاريخ المنقوص أو الملتبس والمشوه. ففي الماضي كان يشرف على كتابة التاريخ مؤرخون وعلماء وأصحاب نفوذ فيبرزون ما يرونه مناسباً ويعتمون على من لا يحظى بالرضا من أشخاص وأحداث، وهنا مكمن الخطر في المنحى المتجدد أو «الموضة السائدة» بحيث يستبدل هؤلاء بأصحاب الأموال والمشرفين على المحطات الذين يريدون قوالب جاهزة للتسلية أو لسد الفراغ وحصد غنائم إعلانات شهر رمضان المبارك بسرعة وبموازنة مضغوطة بهدف التوفير ثم جني الأرباح الطائلة على حساب الجودة والإبهار والموضوعية والبحث عن الحقائق والوثائق والوقائع الثابتة. التلفزيون هو اليوم أفيون الشعوب بحق، وهو الرفيق اليومي لمئات الملايين، وهو المسيطر على عقول الناس وتفكيرهم ولهذا لا يجوز اعتماد القشور على حساب الجوهر، ومن غير المقبول أن يسهم هذا النهج في تعميق أدوات الجهل بعد أن أدى قصور مناهجنا التعليمية الى الإساءة للأجيال عبر تشويه التاريخ أو التقليل من أهميته، فخرجت منزوعة الانتماء لحضارتها وتاريخها. ولهذا لا بد من التركيز على إعادة النظر في كتابة التاريخ بأسلوب عصري إن بالنسبة الى المفاصل التاريخية منذ العهد الأموي أو بالنسبة الى لأحداث المفصلية المعاصرة مثل الحروب العربية - الإسرائيلية ونكبة فلسطين والحروب العربية - العربية والانقلابات والوحدة والانفصال منذ بدايات القرن الماضي. وقد ركزت في كتابي «ذكريات وأسرار 40 عاماً في الإعلام والسياسة» على هذه النقطة بالذات ودعوت لإعادة الاعتبار للكثير من الشخصيات العربية التي ظلمت وشوهت صورتها وطالبت بتكريم الرواد. كما أشرت الى مفاصل تاريخية مهمة لا بد من إعادة إلقاء الأضواء عليها لنتبين الحقيقة. ففي بدايات القرن الماضي وقعت أحداث واتخذت قرارات لعبت بمصائر العرب وغيرت مسار حياتهم مثل قضية الثورة العربية الكبرى وما تلاها وقلت: في بداية القرن الماضي ضحك الغرب على العرب واستغلّهم واستعملهم كأداة لضرب الخلافة العثمانية وتفتيتها بعد إعلان (وعد بلفور) تمهيداً لتسليم فلسطين لإسرائيل. فبعد وعد الشريف حسين شريف مكة باختياره ملكاً على العرب بعد أن سمى نفسه خليفة في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1916 والتوصل الى بدعة اتفاق (سايكس بيكو) في 9 أيار (مايو) 1916، تقاسمت بريطانيا وفرنسا منطقة الشرق الأوسط، فأخذت بريطانيا العراق وفلسطين، وأخذت فرنسا لبنان وسورية وكيليكيا وولاية الموصل. وبعدها أعلن (وعد بلفور) في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، ثم جرى ما جرى من احتلال وانتداب على الدول العربية التي قُسّمت وكأنها وجبة طعام على مائدة اللئام. وبعد أن ألغيت السلطنة العثمانية في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1922 بموجب معاهدة (سيفر) تخلّى الغرب وتحديداً بريطانيا عن العرب في شكل مهين وتنصلوا من كل التزاماتهم، فسادت خيبات الأمل وتبخر الحلم بإقامة وحدة عربية. وهكذا ضحك الغرب على ذقون العرب بعد أن صدقوا الكذبة الكبيرة بأنهم يقومون بثورة حقيقية دفعوا ثمنها من أرواح آلاف الضحايا، ثم من تفتيت الوطن العربي الى أجزاء متناثرة ما زالت مفاعيله قائمة حتى يومنا. هذا لمزيد من التفتيت ولمزيد من الشرذمة، فيما العرب يستسلمون لمبضع الجراحين الأجانب كأنهم جثة بلا حراك. وفي نهاية القرن الماضي، ضحك الغرب متمثلاً بالولايات المتحدة هذه المرة، على المسلمين، عندما استُخدموا كأداة لضرب الاتحاد السوفياتي بداعي الجهاد ضد الشيوعية والإلحاد، فصدقوا مرة أخرى الكذبة وظنوا أنهم هم الذين قضوا على الشيوعية. وبعد أن استنفد الأميركيون حاجتهم تخلوا عن المجاهدين فخاب من خاب ورحل من رحل وتحولوا الى خلايا ما يسمى ب «القاعدة» التي قامت بعمليات ما يُسمى بالارهاب. هذه واحدة، وفي نهاية القرن الماضي وقع حدث جلل ما زلنا ندفع أثمانه الباهظة بدأت فصوله المأسوية بإقدام النظام العراقي على احتلال دولة الكويت وما نجم عنه من أحداث وانعكاسات خطيرة غيرت وجه المنطقة. وما زلنا ننتظر الكشف عن حقائق هذه الأحداث بخاصة أن الأمير خالد بن سلطان قد وضع اللبنة الأساسية في هذا المجال عبر كتابه الشهير «مقاتل من الصحراء» وروى فيه بالوقائع والوثائق والسرد الموضوعي والصادق مجريات ما سمي «حرب الخليج الثانية» عندما كان يتولى قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات في فترة زمنية قياسية أي بعد 4 سنوات على نشوبها. فقد تعودنا أن نقرأ تاريخنا مشوهاً أو مقلوباً، كما تعودنا أن نتابع قضايانا وأسرارنا وخلفيات أحداثنا في الكتب والمذكرات الخاصة بشخصيات سياسية وعسكرية وصحافية أجنبية وهي تحتوي كثيراً من الأكاذيب والتشويهات وعمليات دسّ السمّ في الدسم أو في العسل، كما يقولون. وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة الى حرب الخليج بالذات، إذ طالعنا كتباً ومؤلفات ومذكرات عدة لقادة وعسكريين بينهم مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة والجنرال البريطاني دولابليير والجنرال شوارزكوف قائد القوات الأميركية وغيرهم ... جاءت جميعها ناقصة ومجحفة بحق السعودية والقوات العربية والإسلامية، وبحق الحقيقة نفسها لأنها أهملت الدور الكبير الذي قامت به في تحرير الكويت، كما أنها أعطت الدور الأميركي هالة كبرى غطت على أدوار الآخرين من عرب وأجانب. وجرت العادة أن نقرأ لكُتّاب مذكرات من مسؤولين حاليين وسابقين، ولكن بعد فوات الأوان ووقوع الضرر أي بعد سنوات طويلة على وقوع الحدث، عدا أنها كانت أحادية الرأي والشخصانية ظاهرة فيها بوضوح لأنها تعمدت إظهار وجه وإهمال وجوه أخرى، أو تحطيم أصحابها وتشويه صورتهم وتهميش أدوارهم. ولكن مذكرات الأمير خالد جاءت مفاجئة لنا لأنها وصلت الى المتلقي بسرعة وحرصت على الحقيقة، والإنصاف، إنصاف النفس وإنصاف الآخرين، بخاصة عند تأكيده أن السعودية لم تكن تريد الحرب وأنها فُرضت فرضاً من قبل صدام حسين ونظامه بعد استنفاد جميع الجهود والطاقات من أجل إقناعه بانسحابه من الكويت والكف عن تهديد دول الخليج من دون جدوى. وأيضاً أنه كان هناك حرص سعودي وعربي على الحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه. وكم نحن في حاجة الآن الى كتب مماثلة وشهادات صادقة حول هذه الحرب وغيرها من الأحداث حتى تطمئن قلوبنا الى صدق مسيرة «التأريخ» في تسجيل ما جرى بموضوعية والثقة بتاريخنا حاضراً ومستقبلاً. وقد يقول قائل إن هذه الدعوة مثالية وغير قابلة للتحقيق فليس هناك من ضامن لعدم تكرار الأخطاء السابقة من حيث الانحياز أو تغليب النظرة الأحادية أو المصلحة الشخصية والسياسية وحتى العاطفية، ولكني طالبت بالعودة عن الأخطاء وليس العودة إليها، وتصحيح ما يمكن تصحيحه وتكليف مجموعة من المؤرخين النزيهين المشهور لهم بالعلم والكفاءة والأخلاق بمراجعة كل ما نشر وما كتب والتدقيق في الوثائق الرسمية العربية والأجنبية والمراجع التاريخية وإجراء مقارنة دقيقة لها وصولاً الى المقاربة التاريخية الصحيحة والصحية. فنحن في حاجة الى كتاب تاريخ موحد بكل مفاصله وحقائقه وأشخاصه وأحداثه حتى لو كان من طريق الإنتاج التلفزيوني أو بتخصيص قناة تلفزيونية متخصصة بالتاريخ العربي أسوة بالقناة الأجنبية. أعرف أن هذا المطلب صعب جداً ولكنني أجزم بأنه ليس مستحيلاً كما أعرف أن محاولة سابقة قد خاضت غمارها جامعة الدول العربية تنفيذاً لقرار بإنتاج مسلسل «تاريخ العرب» لكنه أوقف منذ الحلقة الأولى ودخل في غياهب الأدراج العربية بعد أن اختلف العرب على كل شيء كالعادة فأجهض المشروع الرائد وهو في مهده! أخيراً إن من ليس له تاريخ حقيقي ومجيد لا مستقبل له، ومن لا يؤمن بحرية البحث لا حياة له، فتاريخ العالم ليس شيئاً آخر سوى تقدم الوعي بالحرية ... وعندما نصل الى هذا الوعي تفتح أمامنا أبواب الحقيقة والتصميم والتصحيح والإبداع. * كاتب عربي