في سنة 1971 انعقد في بيروت لقاء شعري هو الاول في تاريخ الشعر العربي الحديث. كان ذلك جديداً على هذا الشعر اليافع الذي لا ترجع بدايته الى اكثر من ربع قرن، لكنه لم يكن جديداً على الشعر العمودي، القديم قِدم التاريخ العربي كله. لهذا الشعر القديم كانت تعقد لقاءات عُدّت احداثها اياماً مشهودة في اكثر الدول العربية. في القاهرة جرى لقاء عُدّ تاريخياً لشعراء اوائل القرن وذلك لتطويب احمد شوقي اميراً للشعر، في بيروت ما زالت المناسبات مُتذكَرة ومنها تكريم الشعراء العرب لشاعر لبنان الاخطل الصغير، في منتصف الستينات. قبل ذلك، في الخمسينات وما قبلها كانت قصائد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري تلهب الجماهير وتهزّ عروش السياسيين. الشاعر السوري بدوي الجبل كان قد فعل الشيء نفسه في سورية. الشعر العربي القديم كان شيئاً من تاريخ العرب ومن أصالتهم. على مدى التاريخ العربي كله احيط هذا الشعر بقدر من القداسة ابقاه، في بنائه وأوزانه وقوافيه، ثابتاً مستمراً من دون تغيّر. الشعر الحديث، الذي يؤرّخ لبدايته في اواخر النصف الاول من اربعينات هذا القرن، كان عليه ان ينتظر كل هذا الزمن حتى يتمكن من الظهور. لكنه، في سنة 1971، اسرع الى عقد ملتقاه الاول في بيروت، كان ذلك بمثابة تظاهرة ثقافية اجتمع لها الشعراء الحديثون من مختلف الدول العربية. هذا يعني ان شعر الحديثين خطا خطوة كبيرة الى الامام متجاوزاً بذلك حلقات النخب الضيقة. الملتقى ذاك بدا كأنه يجمع الشعراء ليتمكنوا معاً من ان يطووا صفحة الماضي الكبيرة. بدت الحداثة كما لو انها تثأر من ذلك التاريخ الواحد القديم بإيقافه وإنهائه. وأحسب ان ذاك الهجوم كان محكماً اذ ابقى للشعر التقليدي دوراً واحداً هو ان يلقى من على المنابر في المناسبات، لا ان يقرأ في الكتب. الشعر الحديث تمكن من ان يرد الشعر القديم الى الماضي القديم ويغلق الحاضر عليه. كان ذلك الهجوم محكماً اذ من اسلحته مثلاً احكام السيطرة على الصفحات الثقافية في الصحف والحؤول بينها وبين ان تنشر قصائد عمودية. سقوط أحمد سعيد ما كانت الحداثة الشعرية لتحقق هذا الانتصار السهل لولا الصدمة الهائلة التي احدثتها حرب 1967، او هزيمة 1967. في سنة 1948 حدثت هزيمة اولى أُخرِج الفلسطينيون نتيجتها من مدنهم وقراهم، لكن هذه كانت اقل وقعاً من لاحقتها اذ لم تختبر فيها القوة العربية كاملة. هزيمة 1967 لم تترك مجالاً للبس اذ على مدى ايام ستة فقط كانت القدرات العسكرية العربية قد تحطمت جميعها. الناصرية انكسرت صورتها بعدما شكلت على مدى عقدين املاً باستعادة القوة العربية. الاذاعات العربية التي ظلت سنوات كثيرة تبشّر بالنصر العربي القادم وتحتفل به، تحولت الى موضوع سخرية عام. احمد سعيد، السياسي والمذيع الضخم الصوت الهادئ المتحدي، أُسكت على اثر الهزيمة وصار اسمه، في خلال سنوات كثيرة تلت، نكتة شائعة تشير الى غش النفس وخداعها بالكذب، كما تشير الى ما سمّي في تلك السنوات بالعاهة العربية التي قوامها العجز القابع تحت لغة الخطابة المنتصرة. هذا ولم تضع الهزيمة الناس في موضع الناقد الدارس لأسبابها. بين اكثر الايام العربية احتشاداً عاطفياً كان يوم اعلان جمال عبدالناصر استقالته، ربما في اليوم ذاته الذي جرى الاعلان فيه اننا هزمنا تلك الهزيمة الكاملة. أبقي عبدالناصر حيث هو لثلاث سنوات حزينة مات في آخرها مسبباً يوفوريا عاطفية اخرى. في جنازته سار الملايين، هو المهزوم المنكسر، وبدا ان كل قيادة من بعده لن تستطيع ان تجمع هذه الكتل البشرية وأن تعطي لها معنى ووجهة. بموت عبدالناصر وليس بهزيمته بدأ ذلك المعنى الواحد بالتفتت والتبعثر. كان عبدالناصر قد احتكر السياسة في مصر، بلده، اما بسبب جماهيريته العالية وإما بحجره ومنعه للأحزاب التي على يمينه ويساره. بعد موته عادت التيارات الاسلامية الى الحركة من جديد بادئة، شأنها دائماً، من قعر المجتمعات، الامر الذي يميز عملها بالبطء لكن بالثبات، وبالخفية إذ لا يضيرها ان يظهر عملها الى العلن بعد سنوات كثيرة من بدئه. ثقافة الاسلام حاضرة دائماً لإرشاد الحركات الاسلامية ولا يلزم، للعودة الى السياسة، إلا سماع صوت النفس الذي بددته الحكومات والجمهوريات وأشكال الحكم المستوردة. استطاعت الثقافة الاسلامية ان تبقى تعمل سنين طويلة من دون ان تخرج الى واجهة السجال الثقافي او السياسي. لكن الثقافة الاخرى، ثقافة الشيوعيين واليساريين، بدأت، منذ انطلاقتها الجديدة في مطلع السبعينات، تطلق افكارها وشعاراتها فبدت كما لو ان غايتها الايهام باتساع رقعتها ونفوذها. اما في الاتجاه العام، ذاك الذي تعبّر عنه الجامعات وحركات الشوارع واتجاهات الرأي العامة، فبدا ان سنوات ما بعد السبعين هي سنوات قطيعة مع الثقافة التي كانت قائمة من قبل، كما سنوات تحدٍ لها ومجابهة. في الملتقى الشعري الحديث ذاك، الاول من نوعه، لم توجّه الضربة قاسية الى الشاعر القديم فقط، لكن لكل ما هو قديم ايضاً. الشاعر ادونيس، وهو الذي بدا اكثر الشعراء حداثة في الملتقى، بدا كأنه ينعي الحضارة العربية المتقهقرة كلها منذ ايام العرب في الاندلس قبل نحو خمسمئة عام. كما بدا ناعياً اللغة العربية، رمز تلك الحضارة وقوقعتها. شاعر آخر هو عبداللطيف اللعبي وجّه لمغنية العرب الاولى اكثر الشتائم صراحة وعلنية: Chante, Chante, Vielle Putain. في ذلك الوقت كانت ام كلثوم رمزاً مقدساً من رموز الحضارة العربية وليس الفن العربي وحده، اذ في يوم موتها، بعد سنوات قليلة من موت عبدالناصر، بدا ان مصر فقدت رمزها الوطني الثاني. Chante, Chante, Vielle Putain: صار يقول عبداللطيف اللعبي في قصيدته التي برغم كونها بالفرنسية، او بلغة "الاستعمار الفرنسي"، استقبلت استقبالاً حاراً في الملتقى الشعري ذاك. كان هذا الملتقى يتجرأ على المحرمات العربية. شاعر من سورية هو ممدوح عدوان قال، بعد ان ذكّر بتراجع الإمام عليّ وقعوده، "ولذا اعطيت سيفي لإبن ملجم"، وإبن ملجم هذا هو قاتل الإمام عليّ، خليفة المسلمين والرمز المستمر لإحدى طوائفهم الكبيرة. وفي ذاك الملتقى الشعري قال خليل حاوي، الذي قضى انتحاراً بعد ايام من الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، مخاطباً العالم العربي في ما احسب: "وكيف تبعثك العناية وأنت ميت حجّرته شهوة الموت". هذا فيما راح شعراء مثل بلند الحيدري العراقي وصلاح عبد الصبور المصري يعبّرون في قصائدهم عن أرق ما بعد منتصف الليل وعن حاجتهم الى الاقراص ليتمكنوا من النوم. في بيروت، التي كانت مركزاً اساسياً للثقافة العربية في سنوات ما بعد 1969، بدا ان ما استجد على المدينة مقبل على تدمير الركائز الهشّة التي قام عليها لبنان. أوسَعَ لبنان، او بعض طوائف لبنان، للمقاومين الفلسطينيين القادمين من الأردن فبدا الامر كما لو ان شعباً يُدخل الى باطنه شعباً آخر. اما المقاومة الفلسطينية فاعتبرت آنذاك البديل عن الانظمة العربية جميعها. في التظاهرات التي كانت تعمّ بيروت، كانت جميع الانظمة تدان. في الجامعات، بين الطلاب المسيّسين، بات الانتساب الى الناصرية شيئاً من الماضي وتحوّل الطلاب الناصريون الى الصف الخلفي، فاقدين كل جاذبية كما كل قدرة على المساجلة والنقاش. استدارة ثم استدارات في تلك الفترة من اواخر الستينات وأول السبعينات لم تُرفض انظمة الحكم وحدها بل رُفض معها كل تشكيل نظامي في السياسة كما في الثقافة والفكر. كل ما هو موجود وراسخ في وجوده ينبغي تحطيمه لأنه من مقومات الهزيمة ومن مقدماتها. كل ما ينتسب الى الفترة التي سبقت 1967 ينبغي ان يسقط لأنه من عناصر الزمن العاجز المهزوم. الامر يشابه، ان شئنا ان نستخدم ابسط الامثال، اكتشاف امرئ انه كان يسير في الطريق الخطأ فاستدار، ليسير نحو الجهة المعاكسة. هذه الاستدارة نحو الجهة المعاكسة ستعقبها استدارات نحو جهات معاكسة كثيرة في السنوات التي تلت، ما دام ان كل طريق تُسلك تُظهر، من بدايتها، انها الطريق الخطأ ويجب العودة عنها. ثقافة المقاومة حلّت اذن محل ثقافات الانظمة وقد جرى تحطيم الهياكل القائمة كلها، في السياسة وفي الثقافة ايضاً. ساد الاعتقاد في تلك الفترة، ولسنوات تلت، بأنه ينبغي للثقافة ان تلعب دوراً مباشراً وراهناً فتكون بذلك مشاركة في القتال ضد اسرائيل، حيث هو القتال، وأن تعمل على اسقاط الانظمة المهيمنة، هناك بعيداً عن الجبهات. في الفترة التي سبقت الهزيمة، وعلى مدى عقود عدة، كانت التيارات الشعرية العربية تقوم على ما يجمع الشعراء تبعاً للاتجاهات الخاصة بالشعر، تشكلت في الثلاثينات كما احسب، مجموعة أبولو التي تضم شعراء سعوا الى التقدم خطوة نحو الحداثة لكن من دون تخليهم عن عمود الشعر وقافيته. كما قامت مجموعة للشعراء الرمزيين او للشعراء الرومنطيقيين. هذه اتجاهات انبثقت من مدارس الشعر نفسه، وليس من خارجه. بعد اواخر الستينات صار الشعراء يُجمَعون تحت اسماء هي هذه: شعراء المقاومة الفلسطينية، وهذه التسمية تضم شعراء متفاوتي الاهمية لكن تجمعهم المقاومة الفلسطينية التي نُسّبوا اليها. في لبنان ايضاً كانت هناك حاجة لشعراء مقاومة لبنانيين فأطلق على مجموعة منهم، يجمعها انتسابها الى جنوبلبنان المحاذي لإسرائيل، اسم "شعراء الجنوب". كان على الشعر اذن ان يعمل من فوره. ان يذهب الى الشوارع حيث التظاهرات لا الى الكتب. هذا الدور الجديد للشعر قد يبرئه من التهمة الموجّهة الى الكلام عموماً، التي قوامها الفراغ واللامعنى. كما ان هذا الدور الجديد للشعر، لم يقتصر ذلك على الشعر طبعاً. في الاغاني، التي هي الفن الاقدر على الانتشار والفعالية الجماهيرية، استبدل الغناء العربي كله، المزدهر آنذاك والقائم على تاريخ غنائي وموسيقي طويل، استبدل بمحاولات غنائية تنسجم وظيفتها مع الوظيفة الموصوفة للشعر اعلاه. في 1971 كان يمكن لواحدنا ان يسمع اغنيات الثنائي احمد فؤاد نجم والشيخ امام، المصريين، ليعرف كيف ان كل شيء بات عرضة للتكسير: ام كلثوم، التي سبق للشاعر المغربي ان شتمها، جرى شتمها مرة اخرى في اغاني الرجلين. المغني الاكثر شهرة عبدالحليم حافظ اطلقت عليه اغنية الثنائي صفة الخناثة والدلع الذي لا يليق إلا بالنساء. كما تناول الثنائي في اغنياته المثقفين العرب الذين لا يفعلون شيئاً إلا الكلام في المقاهي، ومن ضحاياه ايضاً جمال عبدالناصر نفسه ومحمد حسنين هيكل الصحافي الاكثر شهرة وتأثيراً في العالم العربي. اما الضباط المصريون فكان الكلام عنهم الاكثر قسوة إذ وُصفوا حاملين احذيتهم تحت آباطهم وهاربين من خط النار. بين المثقفين في اكثر من مدينة عربية بدا كما لو ان هذا الثنائي هو البديل عن الغناء العربي كله، تماماً مثلما هي المقاومة الشعبية المسلحة هي بديلة عن الانظمة كلها. مغنٍ آخر هو مارسيل خليفة اعتبر ايضاً بمثابة نموذج يمكن البدء به لعصر غنائي عربي جديد، وقد اتخذ اغنياته لكلماتها من شعراء المقاومة وشعراء الجنوب. كنا كما لو اننا نخلف عالماً كاملاً وراءنا لنبدأ بتأسيس عالم جديد. وأحسب ان الاحزاب السياسية آنذاك، وفي مقدمها احزاب الرفض اليساري المتأثرة بموجة 1968 في فرنسا، لم تدعُ الى التعقل. اذا كان موت جمال عبدالناصر قد انهى الناصرية قبل ان تتوافر بدائل منها، فان رفض المتظاهرين انهى كل ما هو قائم مقترحاً بدائل هي لا اكثر من محاولات هامشية عارضة. المتن والهامش في المظاهرات التي كانت تعبر شوارع بيروت كان الهتاف يعلو: "هو هو هوشي منه ... تشي تشي غيفارا"، كان ذلك يستجيب لموجة عالمية بالطبع، لكن هنا، في بيروت الموصلة افكارها الى العواصم العربية جميعها، بدا كما لو ان هذين القائدين يُستدعيان لأنهما نظيفان من كل محلية عربية قد تلوثهما. جرى الالتفات الى هناك، الى اقاصي آسيا وإلى اميركا اللاتينية البعيدة من اجل استلهام النماذج. من التراث العربي كله، وهو تراث عريض ومديد، لم يهتد الدعاة الجدد إلا الى وجوه قليلة أبقاها التاريخ العربي الرسمي في هامشه. بين حلقات الطلاب كان يتردد اسم ابي ذر الغفاري مثلاً وهو مناضل دافع عن الفقراء نفاه الأمويون قبل نحو الف وثلاثمئة عام. كان الطلاب والمثقفون والصحافيون كأنهم يجيئون بالهامش الى المتن ليضعوه محلّه. وهم، على اي حال، لم يعثروا على شيء كثير في ذلك الهامش اذ لم يتبحّروا فيه، هم الذين ما عادوا من اهله. قبل الهزيمة كان اعلام الثقافة العربية هم اولئك المشتغلون على الثقافة الاسلامية العربية. حين كنا طلاباً في المدارس الثانوية، قبل 1967 مباشرة، كانت تطلق على طه حسين صفة عميد الأدب العربي. وهو كان كذلك فعلاً ليس في ما يتعلق بالأدب العربي فقط لكن ايضاً في التاريخ العربي الاسلامي الذي وضع فيه كتباً كثيرة. كان طه حسين هذا ابرز شخصية ادبية عربية بالرغم من ان مجال عمله اقتصر على الادب والتاريخ القديمين. قبل 1967 كانت ثقافتنا هناك، في تاريخنا. وكنا كأننا مجتمعون حول محورها. كنا بذلك متصلين مع ذلك التاريخ الثقافي والأدبي وكتابنا الاكثر شهرة هم اولئك الدارسون له. مع طه حسين، كما مع احمد امين وشوقي ضيف وعباس محمود العقاد كانت الثقافة الاسلامية العربية هي موضوع النظر، هكذا من دون ان يكون قارئوها اسلاميين، بعد الهزيمة، ولا اعرف ان كان ذلك بسببها، بدا كما لو ان الجميع اداروا الظهر عن ذلك التاريخ وتلك الثقافة. بعد رحيل طه حسين ومن معه لم تنجب الكتابة العربية جيلاً جديداً له التأثير ذاته، صارت دراسة التاريخ والأدب الاسلاميين عمل اختصاصيين لا تصل كتاباتهم إلا الى اختصاصيين مثلهم. أرى ان هذا الانقطاع هو الاكثر اساسية بين التحولات المتعاقبة التي شهدتها فترة ما بعد هزيمة 1967. ذاك ان النكات التي قيلت في الهزء من النفس آنذاك، والاغنيات التي لعبت الدور نفسه، كما الشعارات السياسية والافكار السياسية، كل ذلك جرى نسيانه الآن. قصائد الشعر المبالغة في حداثتها التي نشرتها مجلة "مواقف" آنذاك، لم تكتب لها حياة طويلة. ما انتج في تلك المرحلة كبديل عما سبق لم يعد موجوداً الآن إلاّ في ذاكرة قليلين. ما بقي هو ذلك الابتعاد عن الثقافة العربية وذلك الانفصال عنها. كان طه حسين، الدارس في فرنسا والمجيد للغة الفرنسية، يسعى الى تحديث التاريخ العربي وإغناء النظر اليه بفكر عصري جديد. هذه محاولة توقفت من بعده. ذاك ان الاجيال الثقافية الجديدة انصرفت عما كان هو منكباً عليه. آثرت ان تدير وجهها نحو الثقافات الحزبية السريعة التأثير والفعل. منذ مطلع السبعينات باتت الافكار الوافدة مكتسبة جاذبية لم تتوقف. في العالم العربي اليوم ما زالت مزدهرة عملية الترجمة التي بدأت كأنما لتعويض الثقافة المتروكة. لكن الترجمة ليس الغرض منها التعرف على ما يجري في الثقافات الأخرى فقط، لكن من اجل تمكين هذه الثقافات اكثر وإزاحة الثقافة المحلية والتقليل من اهميتها. الاسلاميون في العالم العربي، اولئك الذين بدأت اصواتهم تسمع عالية في عواصم كثيرة يجدون اسماً جامعاً للمثقفين العرب الآخرين وهو انهم "غربيون"، او "متغربون". ذلك وضوح في التعيين لم يكن لهؤلاء الغربيين ان يدركوه بأنفسهم اذ انهم يعتقدون انهم مثقفون وكفى. مثقفون هكذا من دون اضافة او تعيين. البدء بين استمرار وانقطاع لقد تُرك التراث الاسلامي لأهله، اي للجماعات الحزبية الاسلامية التي تقرأ الاسلام خالصاً من اي شائبة قد تلمّ به. لقد ترك لهم ذلك التراث، هكذا طوعاً، وهم عادوا اليه، او الى اصوله الاولى مبعدين كل ما استجد عليه من تفسيرات وأحداث وتواريخ حدثت من بعده. ما فعله الاسلاميون هو رفض التاريخ جملة والعودة الى الحدث الثابت في زمنه الذي هو ظهور عقيدة الاسلام. لقد رفض هؤلاء قروناً كثيرة وأزاحوها من ذاكرتهم ووعيهم. الحديثون ايضاً فعلوا الشيء نفسه اذ لم يجدوا شيئاً سبقهم، باستثناء اسماء من قبيل ابي ذر الغفاري المناضل الطبقي في العصر الاموي، يمكن استئنافه ليكون بدؤهم استمراراً لا انقطاعاً. منذ هزيمة 1967 اذن جرى رفض مسارات كاملة في الثقافة والادب والفن والغناء. بدونا بعد الهزيمة كما لو اننا كنا نعيش في مرحلة جنحت عما يمكن ان يكون خط السير الصحيح للتاريخ. الزمن الذي سبقنا وأنجبنا كان خطأ ينبغي حذفه والخلاص منه. البعض، وهم الذين تشكلوا في تيارات اسلامية، عبّر عن رفضه ذاك بالعودة الى الماضي، الى النقطة التي تسبق حدوث التاريخ. البعض الآخر قرر البدء مما يرى انه المستقبل. وكان على هذين المختلفين، ان ينتظرا نحو العقدين حتى يبلغ افتراقهما تلك النقطة التي جعلت منهما طرفين مكتملي العداوة. لقد انقضى اكثر من ثلاثين سنة على هزيمة 1967. لكن في ذلك التاريخ، وقت حدوث الهزيمة، سمّاها المهزومون "نكسة" اي ما يشبه ان تكون ارتجاجة عابرة في سياق زمن متماسك صلب. رافضو الهزيمة وأنظمتها املوا، هم ايضاً، بأن يكون الامر كذلك وهم حاولوا، كل على طريقته، ان يصححوا الخطأ الذي أدى اليها. الآن، بعد انقضاء هذه السنوات الثلاثين، او الاحدى والثلاثين بتنا نعرف اننا في سياق هزائم وأننا لم نتلق فقط هزيمة واحدة مفردة، كما اننا، فوق ذلك، نزداد ابتعاداً عن معرفة الطريق الصحيحة التي ينبغي البدء منها لنكون على الطريق الصحيح. كان الامر سهلاً في البداية، اثر 1967، اذ كانت هناك الاحتمالات الكثيرة التي لم تجرّب بعد. في هذه السنوات الثلاثين ادرنا وجوهنا نحو جهات كثيرة لنبدأ التقدم، في كل مرة، نحو بداية نظنها هي الصحيحة. الآن نعرف اننا جربنا الاحتمالات كلها. 1997 او 1998 أمرُّ وقعاً من 1967 اذ نبدو الآن فاقدين لحماسة البدايات، كما فاقدين اليقين من ان التزاماً ما، او عقيدة ما قد يضعان الاقدام واثقة على طريق صحيحة. في الأدب ما زال وقع 1967 مستمراً ايضاً. احياناً قد نجد ذلك في صورة مباشرة كأن يكتب روائي اردني هو غالب هلسا، في اواخر الثمانينات، رواية عن الرجع المتطاول لهزيمة 1967. ذاك ان قلق التردد بين البدايات لم يُصب السياسيين فقط. في الأدب قلّما بلغت تجربة مداها او قلما استقر الكتاب على اعتقاد ادبي. في هذه السنوات الثلاثين جرى تجريب كل ما امكن تجريبه، وما زلنا نعتقد اننا لم نصل الى التحقق الذي انطلاقاً منه نبدأ بكتابة ما سيشكل حقبتنا الادبية المنتظرة. في هذه السنوات التي انقضت تعاقبت علينا موجات ادبية، واحدة اثر واحدة. في السبعينات استقبلنا بحفاوة بالغة ما جرت ترجمته من الادب الواقعي، ثم ارتفعت عالية موجة الأدب الاميركي اللاتيني التي سمّيناها "الواقعية الخرافية"، ثم ارتفعت عالياً موجة الادب الياباني الذي لم يكن، قبل وصول موجته، قد تُرجم شيء منه الى العربية، ثم موجة الأدب المنشق عن الاشتراكية الخ.. انها موجات تتتالى لم نستطع ان نرفع موجة لنا بينها. ذاك اننا كنا نبدأ شيئاً سرعان ما نعود عنه. الآن اذ ينظر واحدنا الى الآثار الأدبية للسنوات الثلاثين لا يجد تجارب او هياكل مكتملة. اننا في مرحلة تفتّح قبل الأوان. الأوان الذي لم يحن بعد ولا نستطيع ان نحدس وقت قدومه. ليس في هذه السنوات اثر يتسم بالاكتمال، بالوجود الكامل. لا شيء يساوي ما انجزه الشعراء العرب القديمون الذين يرجع زمنهم الى ما يزيد على الألف عام.