إذا كان اغلب ألوان الطيف السياسي المصري ما زال يحتفل سنوياً بذكرى انطلاق ثورة 23 تموز يوليو 1952، الا ان ذلك لم يحل دون حدوث اختلافات واسعة في تقييم ما تنفذه الدولة الان من سياسات في علاقتها بالأهداف والاجراءات التي تبنتها حكومات الثورة حتى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في 28 ايلول سبتمبر 1970. وتبدو الاجراءات والتشريعات التي تبنتها الدولة المصرية في السنوات الاخيرة انعكاساً لسياسات مخالفة لما شهدته البلاد طوال الخمسينات والستينات، حين استهدفت توجهات اجتماعية يعتبرها مؤيدوها مناقضة لمثيلاتها الحادثة الان بل انهم وصفوها بأنها "ردة" عن اهداف الثورة ومنجزاتها. واعتمدت حكومات الستينات سياسات استهدفت ابراز دور الطبقات الاجتماعية الوسطى والعمالية والفلاحية في القرار السياسي، ومن ثم اطلقت قرارات التأميم وفرض الحراسة والاصلاح الزراعي واحتكار الدولة للعمليات الانتاجية الرئيسية والخدمات والتجارة الداخلية والخارجية، واعلاء شعارات الاشتراكية ودور العمال والطبقات الكادحة في المجتمع في ظل نظام الحزب السياسي الواحد. بينما نهجت حكومات التسعينات سياسات مغايرة استندت على مفاهيم التعددية الحزبية والفكرية، واستهدفت تخلص الدولة من ملكيتها للهيئات الانتاجية والخدمية، واطلاق دور القطاع الخاص في التملك والاستثمار والغاء كل القيود في هذا الصدد، وتحرير السوق واخضاعها لقواعد العرض والطلب، واعلان شعارات الاقتصاد الحر ودور المستثمرين في عمليات التنمية الاقتصادية. وعلى رغم سياسات "خصخصة" كل أوجه النشاط الاقتصادي التي تنتهجها الحكومة الآن وبيع الجانب الاكبر من شركات وهيئات القطاع العام التي اسستها حكومات تموز الا ان ذلك لم يمنع استناد الدولة المصرية حتى الآن ايضاً على شرعية "الثورة" التي تفجرت قبل 46 عاماً باعتبارها الاساس الشعبي لقاعدة الحكم، وفتح ذلك الباب للتنازع على احقية التعبير عن اهداف عبدالناصر بين الحكومة ومعارضيها من الفصائل اليسارية. ويعتبر "انصار يوليو" من الناصريين واليساريين احد القرارات التي اصدرتها "الثورة" مطلع الستينيات بتأميم البنوك وشركات التأمين هي الاهم في خطواتها السياسية والاقتصادية وان خصخصة الحكومة لها بعد 37 عاماً يمثل ضربة قوية لآخر انجازات الثورة واهمها: وهو ما فتح الباب للتساؤل بعد ذلك عما تبقى من ثورة يوليو؟ امين عام الحزب الناصري ضياء الدين داود يقول: "ان السياسات المطبقة حالياً تستهدف تغيير كامل منجزات "الثورة" وابرزها الدور المحوري للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية، والعودة الى ما قبل منتصف العام 1952 باطلاق كامل الحرية للرأسمال في ادارة شؤون الوطن من كل جوانبه". ويختلف رئيس لجنة الشؤون العربية في الحزب الوطني الحاكم واستاذ الاقتصاد محمد عبداللاه مع داود في هذا الشأن ويلفت الى ان "الثورة في بداية انطلاقها الاقتصادي نهاية الخمسينات قامت "بتمصير" مؤسسات اقتصادية عدة مثل المصارف وشركات للتأمين وتملكتها "البرجوازية" الوطنية وهذا ما نسعى الى تطبيقه مجدداً". ويشير الى ان "خطوات التأميم التي تلت التمصير كانت خاطئة ويجب العودة عنها". اما رئيس حزب العمل ذو التوجه الاسلامي ابراهيم شكري فهو لا يتحدث عن استمرار "الثورة" او الرد عليها، اذ يرى ان النتائج تأتي دائماً ترتيباً على تطورات ومتغيرات متصلة وجهد مبذول من الشعب ونظام سياسي يعبر عن رغبات الجماهير وإلا انقلب الاخير على الاول ومن هذه الزاوية فان ما شهدته مصر من تطورات في الآونة الاخيرة يأتي في سياق طبيعي وما حدث في بدايات "الثورة" كان ايضاً في سياق التطور المنشود آنذاك. ويتناول امين عام التجمع "اليساري" رفعت السعيد زاوية مختلفة يرى ان ما يدور الان في مصر يقضي على الاجراءات التي تبنتها "الثورة" ويتخلص منها، لكن مبادئها وأهدافها الثورة من ناحية اخرى مازالت قائمة كمفاهيم ووجدان ومشاعر وطموح في داخل نفوس المصريين الذين يتذكرون الخمسينات والستينات كلما شعر بعضهم ب"الجوع" أو بالخوف من "الطرد من مسكنه" او من "ارضه التي يزرعها" نتيجة تعديل السياسات وتطبيق اقتصاد السوق. والملاحظ دائماً في تقييم الاتجاهات اليسارية تركيزها المستمر على استمرار مبادئ "الثورة" وافكارها في نفوس المصريين، وكما يقول داود إن "دعوات الاستقلال والحرية والوحدة قائمة كشعارات لا يمكن انتزاعها من وجدان الشعب بعد ما شهده على مدار سنوات طويلة ورغم كل المتغيرات المادية ومحاولات الهدم الاخيرة الا ان كثيراً من الجوانب التي ساهمت يوليو في تغييرها على المستوى المحلي والاقليمي مازالت قائمة". وإذا كان عبداللاه يتفق مع معاني استمرار مبادئ الثورة، في نفوس الشعب المصري فانه يرى في الوقت ذاته ان "يوليو" لم تستطع تحقيق برامج التنمية الاقتصادية التي طمحت اليها ولو فعلت لارتفع مستوى المعيشة وتحقق التوزيع العادل للدخل، ويقول ان مشكلة الثورة تمثلت في انها "لم ترفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة بالصورة المأمولة لكنها نجحت في محاصرة الفئات الاكثر ثراء". وتعزو الدولة المصرية مالحق بها من تطورات اخيرة الى تغير المعطيات الدولية وانعكاساته على الواقع المحلي، وكما يقول عبداللاه "مسيرة الثورة عكست ضغوط الاستعمار التقليدي على مصر ورغم انها كانت في البداية تعبيراً عن فكر الطبقة الوسطى الا انها اتخذت اجراءات اكثر راديكالية في الستينات تواءمت مع الصراع الدولي بين القوتين الاعظم روسيا واميركا ورغبة القاهرة في الحصول على مساندة موسكو لها في صراعها مع واشنطن، وهو واقع مغاير تماماً لما نعيشه الآن من سيادة قطب واحد وتغير المفاهيم الدولية السياسية والاقتصادية". لكن داود يعتقد ان تجربة "يوليو" ليست رد فعل لضغوط دولية ويعتبر ان "افكارها الاقتصادية والاجتماعية تعرضت لضربات خارجية اقوى من قدراتها والنتيجة ما يستثمره البعض من مزاعم حول فشل التجربة في تحقيق النمو المطلوب"، ويؤيد السعيد جانباً مهماً من هذا المعنى، مشيرا الى ان "الثورة حققت جزءاً من العدل الاجتماعي الذي كان ينشده الشعب وغرست شعارات الكرامة الوطنية والاستقلال والسيادة على مصير الوطن من دون منازع، وجانب كبير من هذه المعاني عاد ليصبح احلاماً يصعب للغاية انتزاعها من وجدان المصريين مهما كانت قوة الاجراءات والسياسات الجديدة". الجانب الذي تتفق عليه كل الاطراف هو صعوبة الغاء المكاسب الاجتماعية التي حققتها الثورة سواء في مجانية التعليم وتوفير الرعاية الصحية والحقوق العمالية، وكما يقول عبداللاه "حتى في ظل الخصخصة لا تستطيع الدولة انهاء عقود عمال الشركات المباعة تعسفياً وتضطر الى توفير وظائف اخرى في المؤسسات الحكومية لمن يرفض البدائل المطروحة عليه وهذا نوع من الميراث الاجتماعي لا يمكن تصفيته اذ توجد المدارس المجانية متجاورة مع المؤسسات الخاصة ونفي احداهما مستحيل". غير ان هذا الاتفاق لم يمنع الخلاف على ديموقراطية "الثورة" اذ يرى السعيد الدرس القاسي في التجربة "الناصرية" متمثلا في موقفها من الديموقراطية وعدم احترام الرأي الآخر واتاحة الفرصة لمخالفيها الذين اعتبرتهم ثورة مضادة "فانهار الحلم" مع اول صدام. ووصف عبداللاه المسألة بأنها "السلبية الحقيقية ليوليو التي لم تستشعر حقيقة شعبيتها واستندت الى اجراءات ادارية واستثنائية وحظرت على الاخرين التعبير عن رأيهم". الاجماع انعقد بدرجة كبيرة على بقاء المعاني الجوهرية التي رسختها ثورة يوليو في شأن الاوضاع الاقليمية والدولية وفي هذا الشأن يعتقد رئيس حزب العمل ابراهيم شكري ان "التطورات الداخلية في مصر لا تستطيع تغيير دورها الاقليمي، وما انتهى اليه عبدالناصر من مفاهيم قومية في ايامه الاخيرة ما زال مطروحاً، من منطلق الدور التاريخي الذي تفرضه الحقائق رغماً عن ارادة البشر، ولعل درس محاولة خروج انور السادات عنه ابلغ الامثلة على استحالة ذلك". وفي السياق ذاته يرى داود ان تغير المعطيات الدولية والاقليمية لم يواكبه مثيل في مضمون قضايا المنطقة، ومن ثم اذا كانت شعارات اطلقت في مرحلة سابقة لم تعد ملائمة في الشكل فان جوهرها مازال مطلوباً وبإلحاح لانه يتطابق مع الاشكاليات المطروحة، بل ومازال هو الافضل وخصوصاً ما يتعلق بالوحدة العربية في مواجهة التشرذم والتفتت، والتعاون الاقتصادي ضد التكتلات الدولية، والتنسيق العسكري في مواجهة الاطماع الاستعمارية الصهيونية والاميركية. ويضيف السعيد ان مفهوم وحلم الكرامة الذي راود المصريين والعرب في الخمسينات والستينات عاد بقوة امام الغطرسة الاميركية والاسرائيلية في السنوات الاخيرة ليؤكد صعوبة بل استحالة نزع مفاهيم، رسختها الثورة في وجدان المواطنين مهما كانت المتغيرات والتبدلات المادية المتطورة، حتى إن هذه المفاهيم تنتشر بالتوالي بين الاجيال الجديدة التي لم تر الثورة او تعيش ايامها. ويطرح عبداللاه جانباً مختلفا اذ ان ما تبقى من الثورة في هذا المضمار هو تنمية الاحساس بالانتماء القومي والعربي وتوحد القضية المركزية، لكن في الوقت ذاته لم تعد ما رفعته من شعارات لتحرير الارض مجدية، ومن ثم فان التطورات الجديدة تفرض مفاهيم مغايرة تتعامل مع واقع متخلف وإن كان يتحرك في الاطار العام ذاته، ومن هذا المنطلق يأتي اشتباك الدولة المصرية مع حلقات دولية جديدة، مثل مجموعة ال 15، ومجموعة الثمانية الاسلامية ومنظمة الكوميسا الافريقية وهي كلها امتداد لافكار ثورة يوليو في الانتماء العربي والاسلامي والافريقي وعدم الانحياز والحياد الايجابي.