تأتي الذكرى الستون لثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر، بعد أول انتخابات رئاسية أجرتها ثورة 25 يناير (كانون الثاني) على أساس تعددي يضع مصر في مصاف الدول الديموقراطية. وعلينا أن نتذكر أن ثورة يوليو بقيادة الضباط الأحرار هي التي أقامت النظام الجمهوري في 18 يونيو 1953 على أنقاض نظام ملكي تواطأ مع الاحتلال الأجنبي وأجهض مشروع تجربة ديموقراطية بين 1923 و1952 عبر دعمه حكومات أحزاب الأقلية. ومع ميلاد الجمهورية، تولى مصريون، بدءاً بالرئيس الراحل محمد نجيب، حكم مصر لأول مرة منذ العهد الفرعوني. ولعل ذلك ما يفسر حمية المصريين خلال ثورة 25 يناير رفضاً لوجود ملامح لمشروع التوريث تحت عباءة النظام الجمهوري، وقد نجحت الثورة في الحفاظ على الجمهورية والدخول بها إلى مرحلة جديدة. ولم تكن الجمهورية فضيلة ثورة تموز الوحيدة، بل كان هناك استكمال لمقومات الاستقلال الوطني عبر جلاء آخر جندي بريطاني في 18 حزيران (يونيو) 1956، ومن دون إنكار لما قامت به حلقات سابقة من النضال الوطني من أجل الاستقلال، منذ ثورة عرابي ونضال الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد ثم ثورة 1919 وما تلاها من نضال حزب الوفد بقيادة سعد زغلول ومصطفى النحاس وصعود قوى وطنية أخرى مثل جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الشيوعية ومصر الفتاة التي تحولت إلى الحزب الاشتراكي والحزب الوطني الجديد وغيرها من قوى مهدت بنضالها وبدماء شهدائها الطريق أمام ثورة تموز، لتحقق المرحلة الأخيرة من هذا الهدف العزيز، وتدعم هذا الاستقلال عبر القرار التاريخي بتأميم قناة السويس. وكما الحال بالنسبة إلى الحفاظ على النظام الجمهوري، كان أحد دوافع ثورة 25 يناير السعي لاستعادة زمام الاستقلال الوطني الذي ساد شعور عارم بأنه بدأ ينفرط عقده رويداً رويداً. وارتبط تحقيق الاستقلال الوطني بلعب دور قيادي ومنحاز لإرادة الشعوب وتطلعها للحرية والاستقلال من قبل قيادة ثورة يوليو، ليس فقط على صعيد الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية التي كان حديث الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عنها في كتابه «فلسفة الثورة» حديثاً كاشفاً وليس حديثاً منشئاً، بل امتد هذا الدور على مدار الساحة الدولية لتساهم مصر في محاولة صوغ عالم جديد يتصف بالعدالة وديموقراطية العلاقات الدولية والمساواة في السيادة بين الدول. وهو هدف وإن لم يتحقق فإن جهود تحقيقه أثرت بلا شك في معالم النظام الدولي وتركت بصماتها عليه حتى لحظتنا الراهنة. وإذا كانت الدعوة إلى «العيش» و «الكرامة» و «العدالة الاجتماعية» برزت ضمن شعارات ثورة 25 يناير، فقد كان أحد الأهداف الستة التي حددتها ثورة 23 يوليو منذ بدايتها، واقتربت من تحقيقه بدرجة أو أخرى في الخمسينات والستينات، هو «تحقيق العدالة الاجتماعية»، الأمر الذي أوجد شعبية جارفة لهذه الثورة وقائدها لدى الشعب المصري، ولو شابتها أخطاء. وعلينا الحكم على تجربة ثورة يوليو في هذا المجال وغيره بمعايير زمن حدوثها وليس بمعايير اليوم نظراً إلى اختلاف الزمان والظروف. كما وفرت الثورة الخدمات الأساسية للجماهير العريضة مجاناً، مثل التعليم والرعاية الصحية وغيرهما، وإن تأثرت هذه الخدمات ونوعيتها سلباً بهزيمة 5 حزيران 1967 وتوجيه الموارد كافة لإعادة بناء القوات المسلحة. لكن ثورة يوليو لم تكن كلها خيراً، بل كانت ككل الثورات الكبرى في التاريخ الحديث والمعاصر، لها إنجازاتها الكبرى وإخفاقاتها الكبرى أياً تكن الأسباب أو التبريرات لهذه الإخفاقات، ومن هذه الإخفاقات هزيمة 5 حزيران وتداعياتها السلبية على مشروع النهضة في الداخل وعلى الدور والتأثير في الخارج، ومنها الفشل في الحفاظ على الوحدة العربية الأولى التي تحققت منذ تفكك الوطن العربي وتعرضه للاحتلال، وهي الوحدة المصرية - السورية في شباط (فبراير) 1958، وارتباط ذلك بحرب استنزاف عربية - عربية أضرت في النهاية بالعرب جميعاً. ثم تأتي «الفريضة الغائبة» لثورة 23 يوليو، والمتمثلة في الهدف السادس لها وهو «إقامة حياة ديموقراطية سليمة»، وهو ما لم يتحقق، رغم تعدد الاجتهادات. وارتبط بذلك الفشل في بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون على النحو الذي كان من شأنه إذا تحقق، الحفاظ على ما حققته الثورة من إنجازات وتطويرها وتصحيح المسار عند الحاجة، كما ارتبط بغياب الديموقراطية السياسية استشراء ممارسات مثّلت انتهاكات لحقوق المواطنين وحرياتهم، وارتبط بهذا الغياب كذلك عدم إيجاد البيئة المواتية لتبلور مجتمع مدني له ذاتيته المستقلة، وكانت معالمه بدأت تتبلور قبل ثورة 23 يوليو، وما ترتب على ذلك من إيجاد حالة اعتماد كاملة للمواطن على الدولة وبدء حدوث خلل، تزايد بمرور الزمن، في التوازن المفترض بين حقوق المواطن وواجباته. وأخيراً وليس آخراً، وعلى رغم النهضة الثقافية والفنية التي حدثت خلال الخمسينات والستينات على يد الثورة، لم تتمكن ثورة يوليو من التوصل إلى الصيغة الملائمة والمتوازنة والمثلى للتنمية الثقافية التي تكون قابلة للاستدامة والصمود، بما يجمع بين ضرورة التمسك بالثوابت ومتطلبات التغيير والتطوير، وبما يصلح كقاعدة صلبة للنهضة الوطنية الشاملة. ونأمل بأن تمثل الذكرى الستون لثورة يوليو، وفي أعقاب ثورة يناير، فرصة لمصالحة تاريخية بين مراحل النضال الوطني المصري وتياراته المختلفة لوضع الأسس السليمة لتوافق وطني على الثوابت المشتركة من أجل الانطلاق إلى بناء الدولة المصرية الحرة والديموقراطية، العادلة والحديثة والقوية.