طرح الهاشمي الحامدي ملاحظات انتقادية حول عمل المنظمة العربية لحقوق الانسان "الحياة" 19 حزيران/ يونيو الماضي فردّ عليه الامين العام محمد فائق "الحياة" 3 تموز/ يوليو الجاري. الملاحظات والردود ليست الاولى ولن تكون الاخيرة، فمشاكل المنظمة اخذت بالتفاقم في السنوات الاخيرة الماضية. وقد انفجر الوضع خلال مؤتمر الرباط الاجتماع الرابع للجمعية العمومية - حزيران/ يونيو 1997 حين افتتح رئيسها السابق اديب الجادر باب النقد العلني، بتقديم نقد ذاتي جريء للمنظمة وادائها مشيراً الى ان "المنظمة فشلت الى حد كبير في تحقيق الاهداف التي وضعت في نظامها الاساسي، وذلك لاسباب تتعلق بالآليات والادوات والنظام الاساسي واخرى تتعلق بالاشخاص…" واردف بالقول "وانا كرئيس للمنظمة اتحمل نصيبي من المسؤولية، فقد كنت من اولئك الذين خططوا لهذه المنظمة لتكون اداة التغيير الجذري السلمي في مجتمعنا العربي ولتكون الافعل والابقى من بين مثيلاتها، وما ابعدنا اليوم عن هذا الهدف، والفجوة بين الكلام والفعل تتسع كل يوم". بدا الاختلاف واضحاً الى حد التناقض، حين عرض الامين العام محمد فائق تقريره على المؤتمر، مقدماً صورة زاهية ووردية عن اوضاع المنظمة وعملها. وتحول المؤتمر الى صراع عاصف بين اتجاهين اساسيين، الاول اصلاحي تجديدي، حاول ان يقدم رؤية واقعية لمسيرة المنظمة ونجاحاتها من دون ان يهمل نواقصها وثغراتها، خصوصاً تحديد المسؤوليات. اما الاتجاه الآخر فيمكن ان نطلق عليه الاتجاه المحافظ، وقف موقفاً متشدداً ازاء النقد محاولاً التبرير والدفاع، واعتبر اصحاب هذا الاتجاه ان النقد العلني يضر بالمنظمة، بل انه محاولة لنشر الغسيل امام الغير. 1- وبغض النظر عن الرؤية الواقعية والقراءة الخاصة لمشكلات المنظمة، فان ازمتها طفحت الى السطح ولم يعد بالامكان التعتيم عليها او اخفاؤها. كما ان نفيها لا ينفي وجودها او يلغيها، وهو ما استوجب الحوار العلني الهادف والمسؤول وبصوت عال. فالرئيس المنتخب علي أومليل اعلن استقالته بعد انتخابه بپ6 اشهر ونيف في مؤتمر الرباط وبادر بتوزيعها على الصحافة، طارحاً عدداً من الاشكالات من جملتها عدم وضوح العلاقة بين الرئاسة والرئيس والامانة العامة الامين العام، والعلاقة المتعثرة بين المنظمة والفروع المنتسبة وعلاقة المنظمة بالمنظمات الدولية، التي لم تصبح علاقة عضوية حيث المنظمة لا تعتبر المحاور الرئيسي والمصدر الاساسي لقضايا لحقوق الانسان العربي، وعدم حسم الوضع القانوني للمنظمة. ودعا الى التوافق على مقاييس موضوعية في تقييم تجربة المنظمة. 2- اثارت انتقادات الرئيسين السابقين الجادر وأومليل واستقالة عبدالعزيز البناني رئيس المنظمة المغربية لحقوق الانسان وقبلها استقالة برهان غليون من مجلس الامناء واعتذار ليلى شرف عن ترشيح نفسها وملاحظات مهدي الحافظ عضو مجلس الامناء السابق ورئيس المنظمة في النمسا، اضافة الى اعتراضات وتحفظات فروع ومنظمات النمسا وكندا والاردن واحتجاج رئيس منظمة المانيا السابق وملاحظات منظمة بريطانيا "المزمنة"، تساؤلات مشروعة حول مستقبل المنظمة لا من داخلها فحسب، بل في الاوساط العربية والدولية. ويتم التساؤل الى اين؟ ولماذا الاستمرار في نهج التفريط والاستئثار ودفع المنظمة الى اتجاهات ضيقة واصدار احكام بعيدة عن الواقع سواء ازاء العمل او توجهاته؟ 3- مشكلات المنظمة لا تخص هيئاتها القيادية ولا حتى النشطاء منهم، بل تعني جمهرة الاعضاء وابناء الشعب العربي الذين يهمهم وجود منظمة مستقلة وفاعلة وديموقراطية تدافع عنهم ضد الانتهاكات، لذلك فان طرح الحامدي للمسألة على بساط البحث واستجابة فائق للحوار، مطلوب وضروري، بعد ان وصلت اوضاع المنظمة الى طريق مسدود. ولا سبيل لمعالجة الامر الا بالحوار الهادئ وتقديم الحقائق وبالتوافق على اسس ومفاهيم حقوق الانسان بالفعل تماماً مثلما هي بالقول. 4- انخراط المثقفين في دائرة الجدل يؤكد حرصهم على مستقبل المنظمة وعلى سلامة الأداء لواحدة من اهم مؤسسات المجتمع المدني وعلى ترسيخ ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر، فضلاً عن حرية التعبير الذي هو حق اساسي من حقوق الانسان. اعتادت الخطابات الرسمية وغير الرسمية للنخب العربية على الاستنفار عند اول بادرة للنقد او المراجعة او تشخيص السلبيات، خوفاً من شيوعها وسريانها، اذ يمثل النقد حسب هذه التوجهات مساساً بالمسؤول، وما تزال تركة هذه الافكار الشمولية تعشش في صفوفنا والتي يتحدر قسم منها ممن عملوا في مواقع المسؤولية مع الانظمة واعتادوا سماع كلمات "الطاعة" و"التأييد" و"الثناء" وهي الكلمات ذاتها التي اعتادوا ان يقولوها لرؤسائهم، بدلاً من الحوار والنقد والنديّة. وعانت التجربة العربية الحديثة من هذه الظاهرة التي اتخذت شكل القمع او الردع او اقصاء الخصوم واصحاب الرأي الآخر. استبشر المثقفون بتأسيس المنظمة عام 1983 واصبح عليها بعد مسيرة شاقة ومضنية وليست من دون تضيحات ان تحافظ على الدور الاخلاقي والادبي الذي يتعلق بصلب وظيفتها، فضلاً عن واجبها الحقوقي والانساني، ولهذا فان مناقشة مستقبل المنظمة امرٌ في غاية الاهمية. 5- دفع بعض الممارسات العديد من قيادات المنظمة الى الانسحاب او العزوف عن العمل او ضعف الثقة، خصوصاً في غياب النقد العلني والنقد الذاتي. كما ظلت المنظمة تعاني من ضعف العمل الجماعي ومن اختلال مبدأ المشاركة ومن الارتياحات الشخصية والدوافع الذاتية. والاختلال بين ما هو قطري وما هو قومي. ففي منظمة ينبغي ان يكون تركيبها القومي هو السائد، دفعت تحالفات واصطفافات داخلية لأن يكون ربع اعضاء مجلس الامناء من بلد واحد. ويتألف اكثر من نصف اعضاء اللجنة التنفيذية من بلدين، بينما يجري رفض تنسيب شخصيات من بعض البلدان العربية الى مجلس الامناء حسب النظام الاساسي، علماً انه لا يوجد من يمثل هذه البلدان، وذلك لحسابات خاصة. واذا جرى الانتباه الى وجود عضو واحد من بلد عربي من اتجاه سابق غير الاتجاه القومي الضيق فيتم الحديث عن التعددية ويبادر، بتأييد من الامين العام، من يقترح تعيين احد الموالين لنظام عربي هو الاكثر انتهاكاً لحقوق الانسان ولا يعرف عن هذا الشخص اي اهتمام بحقوق الانسان في بلده. هذه القضية تثار وسط همس وغمز ولمز، حتى من الدائرة الضيقة! 6- المنظمة وخطابها الحقوقي في حاجة الى المزيد من التدقيق والتنقية من بعض التداخلات بالعمل السياسي. وسبق ان تعرضت المنظمة الى اهتزازات بسبب رغبة البعض في جرها الى مواقف سياسية وايديولوجية محددة، مثلما حدث عند قصف حلبجة او عند حرب الخليج الثانية او عند توقيع اتفاق اوسلو او عند الاختفاء القسري لوزير خارجية ليبيا الاسبق منصور الكيخيا. وما زالت هذه القضية موضع نقد في المنظمة ومن داخلها ومن خلال ندوات وفاعليات وانشطة وعلى رغم تشكيل اللجنة القانونية بعد اربع سنوات من المطالبات الا ان خطابها امام الاممالمتحدة ربيع هذا العام، جاء مخيباً للآمال باقحامه بما هو سياسي وليس ببعيد عن الاساءة الى منصور الكيخيا. 7- اما قضية الترخيص القانوني والاعتراف الرسمي فظلت تؤرق المنظمة، وعلى رغم المطالبات الا ان هناك نوعاً من الاسترخاء منذ العام 1994، وقد يكون ذلك ناجماً عن عدم الرغبة في الدخول بأية اشكالات مع جهة المقر او بهدف عدم احراجها. وفي تقديري فان ذلك من اهم مشكلات المنظمة على الصعيد الشرعي، ما يطرح مسألة شخصيتها القانونية وماليتها ومقرها ملكيتها امام التساؤل المشروع. 8- وبخصوص المشكلة المؤسسية، ظلت المنظمة تعاني من ضعف العمل الجماعي ومن قلة المشاركة، وتركزت الصلاحيات والمسؤوليات بيد الامين العام، وبحكم استمراره منذ ما يزيد على عقد ونيف من الزمان فقد اصبح استمرار العمل روتينياً ومحدوداً ومن دون ابداع، كما ان اللجان التي غالباً ما يعلن عنها، تظل حبراً على ورق. 9- اعتقد ان الاشكالية التي طرحها الحامدي بخصوص الخط القومي الفكري والتنظيمي، غالباً ما تطرح علينا في الاجتماعات العامة وفي المؤتمرات… هل ان مرجعية المنظمة هي الخط القومي؟ او المؤتمر القومي؟ اجاب محمد فائق الامين العام عن هذا السؤال حين قال "اتهام لا ننفيه" واعتقد انه بذلك يدافع عن توجهه الفكري والسياسي ولا يمثل المنظمة بهذا المعنى، فالخط القومي ليس متجانساً، ففيه القومي البسماركي الذي يؤمن باحتلال الكويت وضمها قسراً او من ينكر حق الاكراد والاقليات الاخرى في الوطن العربي مثلما فيه الديموقراطي والتقدمي. ثم ما هي معايير هذا الخط؟ هل هو الانتساب الى الاتحاد الاشتراكي السابق او الحزب الناصري حالياً او حزب البعث او حركة القوميين العرب او جبهة التحرير او اللجان الثورية ام هو شيء آخر، خصوصاً ونحن نتحدث بلغة حقوق الانسان؟ ثم هل احتلال موقع قيادي في نظام شمولي قومي مناوئ للديموقراطية يمنح صاحبه الهوية القومية أم ان الاساس هو العمل القومي العروبي العام والايمان بوحدة الامة العربية ومصيرها المشترك وبالتنمية المستقلة وبالديموقراطية وحقوق الانسان؟ تركيب المنظمة هو الذي ينبغي ان يكون قومياً وكذلك ساحة حركتها الجغرافية. اما توجهات تيار فكري محدد سواء كان قومياً اسلامياً او قومياً ليبرالياً او قومياً ماركسياً، فليس هو المقصود وغالباً ما يقع بعض الاخوة في هذا الخلط بين اهداف المنظمة ومهامها التي تختلف عن المنظمات المهنية الاخرى، وبطبيعة الحال تختلف عن التوجهات السياسية القومية للفرق والجماعات وتركيبها وتمثيلها التي تعاني اختلال وارتباك. وبقدر حفاظ المنظمة على استقلالها ونأيها عن الانخراط في الصراع السياسي والفكري السائد ووضعها مسافة بينها وبين الحكومات من جهة والمعارضات السياسية من جهة اخرى، تكون قد جنبت نفسها تبعات عدم النزاهة والحيدة والانحياز. ومع تقديري لمكانة الامين العام وموقعه الدستوري في النظام الاساسي الا انه ليس جهة الفصل في اشكالات المنظمة، خصوصاً انه تبنى وجهة نظر محددة، وقد تكون آراؤه او اجتهاداته خاطئة او نتيجة ردود افعال. وثمة اختلافات في المفاهيم وفي التعبير عنها وهذا ناجم عن الخلفية الفكرية والثقافية والحقوقية والانحدار السياسي وعن حقيقة القناعة والتشرب بقضايا حقوق الانسان وعن الضغوط المختلفة التي نعمل في وسطها وتحت ظلها وعن فهمنا بالتالي لهذه القضية او تلك. * كاتب عراقي. رئيس المنظمة العربية لحقوق الانسان في بريطانيا.