من مساوئ الجدل المشحون بالعواطف والانفعالات، وهو النمط السائد في المشهد السياسي والفكري العربي، انه غالباً ما يحوّل النقاش في شأن مسألة ما مهما كانت أهميتها، الى مجرد عراك ديكة ينهش فيه المتحاورون بعضهم بعضا. بل إنه في حومة الغبار الذي يثيره مثل هذا النوع من المبارزة اللفظية يحجب الكثير من الحقائق أو سبل الوصول اليها من خلال الحوار الموضوعي الهادف بغض النظر عن أين يقف المتحاورون من القضية المطروحة للنقاش. وليس أدل على هذه الحقيقة من موضوعة اعلان كوبنهاغن وما تمخض عنه من ولادة جماعة عربية سميت "حركة القاهرة للسلام" هدفها كما هو معلن هو التوجه مع رديفتها الاسرائيلية الى الرأي العام العربي والاسرائيلي وتحفيزهما لدعم عملية السلام في المنطقة، في ظل التعثر الذي تواجهه ومن منطلق أن العملية هي أهم وأكبر من أن تترك للسياسيين وحدهم لإدارتها. فمنذ كانون الثاني يناير 1997، وهو تاريخ التوقيع على الاعلان من جانب شخصيات عربية واسرائيلية غير رسمية في العاصمة الدنماركية، والجدل مستعر في العواصم العربية بين دعاة الاعلان ومريدي الحركة التي تمخض عنها من جهة، وبين خصومهم من جهة أخرى، وحتى أنه تجاوز صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون ووصل أو كاد يصل الى ساحات المحاكم. فالمدافعون عن "التحالف العربي- الاسرائيلي من أجل السلام"، وهو أحد الاسماء العديدة للتحرك، يشددون على أنه مجرد حركة شعبية لا تمتلك صفة رسمية أو تفاوضية، هدفها الاساسي هو دعم المفاوض العربي في العملية الجارية والتعبير عن الإسناد لحركة السلام الاسرائيلية التي تقوم بدور مشابه في مواجهة المواقف المتشددة لليمين المتطرف في اسرائيل. وفي شكل عام، فإن هدفهم هو العمل على بلورة رأي عام ينسجم في توجهاته مع استراتيجية السلام التي اختارتها الحكومات العربية. أما الطرف الآخر فظل يرى في الحركة مجرد حفنة من المثقفين الذين يروجون للتطبيع خدمة لأهداف اسرائيلية وبالغ في نقده لهم حين حذّر من أن استمرار ذلك النهج سيؤدي الى حرب أهلية داخل المجتمعات العربية. ولفترة ما ساد الاعتقاد بأن الأمور ستهدأ وتنتهي الى تلك الحدود من الجدل بين معسكرين من المثقفين، كلٌ يتخندق وراء موقفه ومصطلحاته وشعاراته، خصوصا في ظل تدهور عملية السلام ذاتها ووصولها الى حافة الانهيار. حتى جاء تأسيس "حركة القاهرة للسلام" والاجتماع المشترك الذي عقدته مع نظيرتها الاسرائيلية في شهر حزيران يونيو الماضي وما تمخض عنه من بيان مشترك أفصح عن نية التحالف وبخاصة طرفه العربي في ولوج مرحلة العمل الفعلي لتنفيذ ما عزموا عليه من أهداف التحالف. هذا الإصرار العنيد، على رغم المواجهة الضارية من تيار رفض التطبيع، على الانتقال من مرحلة الاعلان عن المشروع الى آلية الفعل، بل الى التطلع الى مرحلة الشراكة في التفاوض، كما عبرت عن ذلك النقاط السبع التي جاء بها البيان المشترك الصادر عن اجتماع القاهرة، يكشف، من بين حقائق عدة، الكثير عن موازين القوى السائدة على الساحة العربية غير الرسمية والامكانات المتاحة أمام التيارات والاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة في بلورة مواقفها أمام الرأي العام العربي واكتساب دعمه وتأييده وبالتالي الادعاء بمشروعية تمثيله. إن مثل هذا الاندفاع يجد تفسيره في المقولة التي بدأ مريدو التحالف في ترويجها اخيرا وهي أن معارضيهم عاجزون ويقفون على رصيف الأحداث. ما يعني، حسب استنتاجهم هذا أنهم بالمقابل يتفوقون عليهم لأنهم يقفون في الصميم منها، إن لم يكونوا من صناعها. إن الفكرة الجوهرية هنا، كما تعبّر عنها هذه المقولة، هو أن دعاة "التحالف من أجل السلام" يعتقدون الآن أنهم كسبوا الرهان، مستندين في ذلك، على ان موقفهم يرتكز الى المعطيات الجديدة التي خلقتها عملية السلام، وهي عملية من وجهة نظرهم سائرة في طريقها وغير قابلة للارتداد رغم العراقيل التي تواجهها في المرحلة الحالية. أما خصومهم في المعسكر المضاد، فهم، استناداً إلى وجهة النظر هذه، لم يخسروا الرهان فقط بل إنهم أصبحوا خارج حركة التاريخ. ومن المؤكد ان التيار الرافض، وبمختلف أجنحته العقلانية والمتزمتة والعاطفية، يرى في مثل هذا الزعم الكثير من التبجح والاستعلاء، ليس على المعارضين فقط، وانما على المعطيات نفسها التي يجادل المريدون بها. لقد كان من الواضح منذ البداية أن انشاء حركة سلام عربية بالمفهوم الذي قام عليه "تحالف كوبنهاغن"، ليس بالأمر اليسير، ليس بسبب خاصية النزاع العربي- الاسرائيلي وتاريخه وتعثر العملية السلمية الجارية وأيضاً تصورات كل طرف المستقبلية عن حلّه، وهي كلها عوامل شديدة الوطأة على ذهنية طرفي الصراع والاستعداد النفسي لديهما، بل أيضاً لسبب آخر يتعلق بالطريقة التي أعلنت فيها الحركة عن نفسها والتي تميزت، أولا بظهورها كحركة نخبوية من غير أية امتدادات شعبية على رغم ان "اعلان كوبنهاغن" يشير صراحة الى أن موقعيه "يعكسون ارادة غالبية شعوب المنطقة". وثانياً، هو ظهور الحركة من خلال خطابها السياسي والفكري وأسلوب عملها في شكل تبدو فيه لصيقة بالاتجاهات الرسمية للانظمة والحكومات ومعبرة عن تكتيكاتها التفاوضية ما أثار شكوكها في امكان تعبيرها عن الارادة الشعبية التي هي فعلاً تواقة ليس للسلام العادل فقط وانما الى أن تلعب دوراً فاعلاً في تحقيقه. وثالثاً، فقد ولدت الحركة ونشطت فيما تعاني الجبهة العربية، كعادتها دائماً، من انقسام وتمزق واضحين أمام الخيارات المطروحة عليها إسرائيلياً، الأمر الذي زاد في شكوك المعارضين لها وقلّب المواجع من جديد، ولكن هذه المرة ليس بين الانظمة ذاتها بل بين محازبيها وأنصارها، ولعله أيضاً بين تيارات جادة في الرأي العام العربي تتعامل مع موضوعة السلام كقضية مصير ومستقبل. الملاحظ انه في حومة الاتهامات والاتهامات المضادة وما بينهما من تبجح من طرف وركون الطرف الآخر الى اللغة القديمة التي تقتصر على التعبير عن الابيض والاسود ضاعت، كشأنها دائما، فرص كثيرة كان في إمكانها أن تلعب دوراً حيوياً في بلورة نقاش مفيد، والأهم من ذلك، رأي عام عربي جاد وناضج ومسؤول ازاء واقع ومستقبل الصراع العربي- الاسرائيلي، الذي يتفق الجميع على انه "أم التحديات" التي تواجه المنطقة وشعوبها. ومن هنا كان التساؤل دائماً: هل يكفي القول، كما يجادل دعاة الحوار، بأن حركتهم هي امتداد طبيعي لمعطيات الواقع ولقبول الانظمة العربية بخيار السلام الاستراتيجي، أو كما يفعل الطرف الآخر حين يحاول احتكار الحقيقة بالضد من منطق الحياة والأشياء. وكل ذلك من دون اكتراث من الطرفين لدور الشعوب ورأيها في العملية الجارية الذي يجري استلابه وادعاء تمثيله تماماً كما تفعل الأنظمة. إن القول بأن هناك رغبة ومصلحة في السلام للعرب مثلما هو للاسرائيليين، هو قول صائب تماما. ولكن هل إن بالدفع بهذه المعادلة وحدها يمكن بناء الحجة لإقناع الرأي العام العربي المتردد والمشكك بجدوى السلام المطروح عليه؟ فالسؤال سيظل لدى العرب مثلما هو لدى الاسرائيليين- أي نوع من السلام؟ الواقع الحالي يشير الى ان الاسرائيليين مخضوضون، ذلك أن لديهم الكثير من الفرص في تقرير نوع السلام الذي يريدون من حكومتهم أن تنجزه ووفقاً للثمن الذي هم على استعداد لدفعه. ولا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا أمر جوهري لا يتعلق فقط بمبدأ ديموقراطية الحكم واتخاذ القرار بل بمبدأ بسيط يتعلق بصلب العملية وهو ان السلام لكي يكون مقبولاً لا بد أن يكون معقولاً وعادلاً وعندما يكون كذلك يكون الشعب، أي شعب، مستعداً ليس للقبول به بل الدفاع عنه وحمايته. ذلك لأنه خياره وقراره. إن هذه المقاربة بين وضع الرأي العام العربي المهمّش والرأي العام الاسرائيلي الفاعل في تقرير نتيجة عملية واحدة تكشف عن مفارقة هائلة تستدعي من دعاة السلام العرب أن يتنبهوا لها في خطابهم لها من دون تعالٍ واستنكاف. والقدر نفسه من الانتباه مطلوب من الطرف الآخر الذي يتحتم عليه في هذه الاوقات الحاسمة ان يتخلى عن الإفراط في التظاهر والمصادرة وأن ينخرط في عملية الحوار باعتبارها جزءاً من الصراع الأكبر لا ضد شرور العالم وأخطائه فقط بل ضد أخطائنا والشرور التي نبتت بيننا ايضاً. إن عملية صنع السلام، أو رفضها أو الاحتجاج على شروطها - ولا ينبغي لنا إلا أن نستعين بالتجربة الاسرائيلية ثانيةً ودائما طالما هي المعادل المقابل في العملية - لا يمكن صنعها من خلال البيانات المشتركة والتظاهرات، مهما كانت القوة الادبية والسياسية للذين يقفون وراءها. بل هي تتم وفق معادلة شديدة الارتباط بمفهوم موازين القوى والتشابك القائم في المصالح والتطلعات بين الدول والشعوب. ومن الواضح أن هناك إقراراً لم يتزعزع منذ إنشاء دولة اسرائيل حتى اليوم بأن الرأي العام الاسرائيلي، بما يمثله من احزاب وهيئات، يشكل جزءاً مهماً من "ميكانيزم" القوة في المجتمع الاسرائيلي، وبالتالي في دعم التوازن الذي تشكله القوة المادية التي تملي شروط السلام. ولعل خير مثال على فاعلية الرأي العام الاسرائيلي، بمختلف اتجاهاته الشديدة التباين، في مجرى العملية السلمية هو ما نعرفه جميعاً عن مدى تأثيره في إلهام الاحزاب السياسية في صوغ برامجها الانتخابية ومواكبتها في تنفيذها، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة. كما لم يعد سراً انه في كل المفاوضات التي جرت منذ كامب ديفيد وحتى الآن، كان "بارومتر" القبول والرفض لدى الجانب الاسرائيلي هو قبول ورفض الاغلبية، سواء كان ذلك في الكنيست او في الشارع المعبِّر عن رأيه بمختلف الطرق والوسائل. واليوم يلمِّح رئيس الوزراء الاسرائيلي الى احتمال الدعوة الى استفتاء عام حول أي اتفاق جديد ينوي التوصل اليه مع الفلسطينيين، وهذا إذا ما تحقق سيكون قمة الانصياع لإرادة الرأي العام، بغض النظر عن رأينا فيه. ومن الصعب ألا تثير كل هذه المشاركة الفاعلة من جانب الرأي العام الاسرائيلي في صنع عملية السلام الاسئلة الكثيرة عن الدور المقابل الذي يمكن ان يلعبه الرأي العام العربي في سياق عملية واحدة يُراد لها ان تحقق اهداف وطموحات الاثنين. حقاً لا أحد في إمكانه أن يشكك أو يتجاهل ضرورة وجود مبادرة على مستوى تنظيمات المجتمع المدني تُبدي رأياً مفيداً في عملية صنع السلام اذ ان هذا ما هو متوقع من المجتمعات الحرة التي تقرر مصيرها بنفسها في مناخ من الديموقراطية وحقوق المواطنة. لكن هل يكفي ان يكون للبعض تحت مختلف الذرائع الصوت المدوي في التعبير عن ما يرونه من إرادة وتطلعات هذه المجتمعات، فيما يغيب صوت الاغلبية وينزوي في ظل انعدام المشاركة سواء في العملية الجارية أو في مجمل الممارسة الديموقراطية الغائبة؟ تقول التجربة التاريخية إن الشعوب الحرة التي تمتلك قرارها بيدها هي وحدها القادرة على صنع السلام وحمايته وجعله عملية لا رجعة فيها، وليس المعاهدات أو التحالفات. وإذا كان مثل هذا الاستنتاج، بكل تبعاته لا يزال بعيداً عن اليقين بقدر ما يتعلق بالجانب العربي فمن المشكوك فيه، اذا ما استمرت العملية السلمية في مسارها على نحو عادل ودائم، أن يقبل الطرف الاسرائيلي ضمانات أقل مما يوفرها هو نفسه من خلال قناعة الرأي العام عنده بها ودعمه لها. * صحافي عراقي