عندما خطت اقدام الجنرال الاسرائيلي المتقاعد موردخاي بار اون اعتاب القصر الجمهوري في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، واستقبله الرئيس مبارك مع فريق حركتي "السلام" المصرية - بقيادة الكاتب لطفي الخولي - والاسرائيلية، عند هذا اللقاء وما ترتب عليه، تقررت اشياء عدة، وحُسمت قضايا خلافية سابقة بين "القلة" من المثقفين والسياسيين الداعين الى الحوار والتطبيع مع الكيان الصهيوني، و"الاكثرية" الرافضة لهذا الحوار او التطبيع على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية. ولعل أبرز قضية خلافية بين الطرفين تم حسمها، هي في طبيعة الدور الذي تضطلع به "حركة السلام المصرية"، واستمرار وصف المعارضين لها بأنها مجرد اداة صغيرة - في الواقع صغيرة جداً - من أدوات التلاعب السياسي وادارة التفاوض/ الصراع بين الحكومة المصرية والكيان الصهيوني، وان في الاستقبال الحافل من قبل الرئيس المصري لهذا الفريق، وفي حرص اعضائه على تقديم "كشف حساب" بالانجازات والبيانات التي توصلوا اليها له، وحرصهم الشديد على ابراز وقائع ذلك اللقاء في وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والتقاط الصور التذكارية مع الرئيس، وأحياناً التصريح بما لم يقله واعلانه على الملأ. في هذا السياق، تم حسم قضية خلافية كانت عقبة امام المراقبين والمتابعين لهذه الهوجة السلامية، غير المنسجمة مع المناخ العام الذي تعيشه قصة الصراع العربي - الصهيوني منذ قدوم نتانياهو الى السلطة. إنها قضية ان هذه المجموعة 30 فرداً في احسن تقدير احصائي، ليست "حركة" وليست "شعبية" وانها مجرد اداة طيعة وقناة ثقافية اعلامية خلفية للنظام السياسي المصري يريد بها فتح حوار مع قوى يتصورها صاحبة ثقل او دور او وجود داخل اسرائيل قوى السلام الآن. هذا الحسم تم بفضل استقبال الرئيس لهذا الفريق، وما استتبعه من تصريحات وردود افعال كشفت ما حرص اعضاء هذا الفريق طيلة عام كامل وهو العام الذي تلى تأسيس ما يسمى بتحالف كوبنهاغن 30/1/1997، على اخفائه او تعمد التعمية عليه وتصوير "حركتهم" على انها حركة شعبية لا علاقة لها بصناع القرار ومعاملهم واجهزتهم وخططهم، فكان لقاء مبارك بهم نقطة الفصل والحسم في هذا الشأن. وفي تقديري ان هذه هي القراءة الصحيحة لدلالة استقبال "رئيس دولة" لممثلي حركة تزعم انطلاقها من الشعب، وبعدها عن التوجيهات الرسمية للأجهزة. والمتأمل للبيان الصادر عن لقاءات القاهرة التي تمت في ذكرى هزيمة حزيران يونيو 1967، يشده أول ما يشده ذلك البؤس الفكري الواضح في صوغ البيان ومنهجه. فالقارئ المتفحص لا يلحظ كلمة "فلسطين"، أو "الوطن العربي"، ويلحظ شيوع تعبيرات بائسة تنم عن وهن وضعف الطرف العربي الذي صاغ البيان وكأن على رأسه بطحة كما يقولون. فهو بدلاً من "الشعب أو الشعوب العربية" يقول "شعوب الشرق الاوسط" طيلة البيان، وبدلاً من "الوطن العربي" سيجد "العالم العربي" بكل دلالاتها. والقدس والأمن والسلام كلمات صيغت في سياقات من العبارات المطّاطة التي لا يمكنك ان تضبطها وفق اصول مفهومة ومحددة. إنه بؤس الفكر الذي تؤكده أكثر ملاحظاتنا التالية: 1- يقول البيان البائس "ان شعوب الشرق الاوسط المثخنة بالجراح اصبحت مرهقة من الحروب الدورية، فبعد خمس حروب رئيسية وكثرة مما هو أصغر منها والصدامات الدموية التي خلفت وراءها الآلاف من الضحايا، فإن الشوق الى السلام عند نهاية الألفية الثانية، أصبح بالنسبة الى الغالبية العظمى من الرجال والنساء نسي البيان ان يذكر الأطفال. هو العاطفة الأقوى، والأمل الأعظم الذي ينتظر من القيادات السياسية انجازه". لم يتوقف البيان ولو بفقرة صغيرة امام حقيقة ودوافع وجذور تلك "الحروب" التي "راح ضحيتها الآلاف". ولم يسأل صائغو البيان انفسهم مَنْ المجرم لكي يُحاسب أو على الأقل لكي نبدأ بداية صحيحة لهذا السلام ولتلك العاطفة لاحظ الشاعرية الزائفة التي صيغت بها العبارة. هل كان الطرف العربي هو السبب في هذه الحروب وفي وجود هؤلاء الضحايا؟ ان صياغة البيان البائس تقول ذلك وتلقي على الاقل بنصف الجريمة جريمة الحروب على العرب. وكل حقائق التاريخ، بما فيها الحقائق التي كتبها اليهود انفسهم، تقول إن كل بدايات الحروب، بل كل شرور هذه المنطقة طيلة الخمسين عاماً الماضية، كانت منطلقة من داخل الكيان الصهيوني... فلماذا المساواة؟ ولماذا البدء بعبارة غامضة ملتبسة في بيان من المفترض انه سيكون "أساساً واقعياً للعمل" كما يقول نحات الكلمات المصري الاستاذ لطفي الخولي. ألم يكن من الادق، والأكثر احتراماً للحقائق التاريخية ان يبدأ "البيان التاريخي" بعبارات غير ملتبسة لا يشتم منها وهن وضعف الطرف العربي الذي شارك في صياغة البيان، وهو طرف كان ضحية على طول الخط لحروب لم يشعلها!! 2- بيد ان هذه البداية الملتبسة للبيان لم تأت عبثاً، وكانت منطقية، خصوصاً عندما نتوغل قليلاً فنقرأ "للأسف... منذ تولي رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو للحكومة منذ عامين، فإن عملية السلام باتت متوقفة تقريباً، وشكّلت مدركاته الايديولوجية التي فات اوانها ورؤاه السياسية غير السليمة عقبة كئود على طريق السلام". إن البيان يريد ان يقول لنا إن المشكلة كلها ليست في مجمل أفكار وسياسات الكيان الصهيوني العدوانية ماضياً وحاضراً بل هي فقط في أفكار وسياسات بنيامين نتانياهو؟! وهنا ينقشع الضباب والالتباس الذي أحاط "الفقرة الاولى" في البيان لجهة أن أصحاب كوبنهاغن وجمعيات السلام لا يرون في الصراع وفي سُبل حله وفي طبيعته سوى "مشكلة السيد بنيامين نتانياهو"، فاذا حُلت هذه المشكلة وتم تشكيل لوبي ضاغط عليه، لكي يصبح مثل اسلافه بيغن وشامير ورابين، على حد وصف البيان، فإن كل مشاكل الصراع ستحل! هل هناك سذاجة او سطحية في النظر في طبيعة التشكيل الصهيوني في فلسطين وادواره ومطامعه، اكثر من هذا؟ ولكن هل هي فعلا سذاجة وسطحية أم هو تعمد وقصد للتسطيح وإعادة خلط الاوراق امام الرأي العام العربي المغلوب على امره ليقتنع بأن المشكلة والفشل المزمن لخط السياسات العربية المهادن منذ 1967 وحتى اليوم تجاه قضية لا تصلح فيها المهادنة أو لغة التزييف القائمة كامنان في الطرف الآخر الحاكم؟ إن أبسط متابعة لقصة الصراع واحداثه في فترة حكم حزب العمل الاسرائيلي، تلك الفترة الذهبية لدى اصحاب كوبنهاغن وجمعيات السلام، لتؤكد ببساطة انها كانت الأشرس والأكثر دموية وعنفاً عبر سني الصراع الماضية. ولنتأمل فقط سلسلة الاعتداءات خلال عقد التسعينات على لبنان وآخرها مذبحة قانا 1996 وسلسلة المواجهات الدامية مع رجال ونساء وأطفال الانتفاضة الفلسطينية 1987 - 1993 ومن الذي كان يصدر قرارات تكسير العظام والحقن بالعقم للفتيات الفلسطينيات ألم يكن اسحق رابين ذلك "الشهيد العظيم" في نظر لطفي الخولي وشركاه؟ ولنتأمل عمليات التعذيب شبه اليومي التي تمت لأكثر من عشرة آلاف معتقل فلسطيني إبان حكم حزب العمل وكيف كانت تعد الزنزانة على شكل قبر انظر صحيفة "الحياة" 19/6/1998 التي ذكرت ان السجين أحمد شكري الفلسطيني اعتقله رابين وبيريز ولا يزال في زنزانة تحت الارض منذ 4 سنوات، ومعه 63 اسيراً آخر من اصل 2800 معتقل منذ حكم بيريز، فهل فعل نتانياهو ذلك من دون ان يراه احد؟ ومن بنى المستوطنات التي يتم التنازع الآن عليها؟ ومن احاط القدس بسلسلة من الوحدات السكنية الخرسانية التي اذهبت معالمها العربية؟ ومن قتل الشهيد فتحي الشقاقي والشهيد يحيى عياش؟ هل هو نتانياهو؟ إن هذا الخلط المقصود صار من تهافت منطقه بحيث لا يصلح اساساً للنقاش. ولكن، عندما يريد نظام سياسي ان يستخدم ادواته ورجاله، فهذا الخلط صار شائعاً وصار مثلاً. فالحديث عن التبعية يساوي الدخول الى "العولمة والتقدم"، و"القبول بالذل" صار رديفاً لأحاديث "السلام الوردية". هذا الخلط من شيم رجال السياسة، عادة، فما بال مثقفينا ورجال حركات السلام يتبنونه ويصدقون أنفسهم؟ اللهم إلا إذا كانوا هم أيضاً من رجال السياسة وإن في القنوات الخلفية؟ 3- يقول فكر البيان البائس في مجال تحديد الاسس التي ستشكل موجهاً عملياً لعمل حركتي السلام المصرية والاسرائيلية "ان حدود ما قبل الخامس من حزيران يونيو 1967 سوف تكون الأساس في تقرير الحدود الدائمة بين دولة اسرائيل والدولة الفلسطينية وسيأخذ الجانبان كلاهما في الاعتبار الحقائق التي جرت على أرض الواقع". ترى ما هي الحقائق التي جرت على ارض الواقع لكي يتم اخذها في الاعتبار؟ معروف انه فلسطينياً اقصد قطاع غزة - اريحا ليس هناك شيء على ارض الواقع ذو شأن يذكر: سلطة عاجزة، تنمية متوقفة، سجون مفتوحة، فساد مالي واداري واسع النطاق، تنازع صباحي ومسائي على خلافة السيد ياسر عرفات، ادارة ناقصة وحدود غير مسيطر عليها! ما الجديد في هذا الجانب لكي يؤخذ من قبل الجانب الاسرائيلي في الاعتبار؟ المقصود طبعاً هو الجانب الآخر، ولكنها الصياغة الملتبسة عن قصد لأصحاب كوبنهاغن، بهدف تمرير المآسي وابتلاعها. فالذي تم من حقائق على الارض تم بأيدي الاسرائيليين حين نشروا 303 مستوطنات في أدق وأخطر خطوط وطرق المواصلات داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وحين تم تسليح المستوطنين للدفاع عن انفسهم ضد عدو متصور غير موجود اساساً الا في "الجهاد الاسلامي" و"حماس"، والاثنان يتم ضربهما بانتظام من قبل سلطة الحكم الذاتي، وكأن هذه هي مهمتها الوحيدة تجاه شعبها. ماذا تم من حقائق؟ نكشف الغطاء قليلاً، ونرفع الالتباس الذي يلف عبارات هذا "البيان التاريخي" لحركتي السلام المصرية والاسرائيلية. يقول الواقع: ان مساحة غزة هي 360 كم مربع ومساحة الضفة هي 5633 كم مربع، ومساحة الاراضي المحتلة قبل 1967 والمسماة اسرائيل هي 20770 كم مربع ومجمل مساحة فلسطين هي 863،26 كم مربع، مساحة الضفة وغزة منهما تصل الى 23 في المئة. وبعد ان تنازل عرفات وفق اتفاق اوسلو عن 40 في المئة من مساحتهما لصالح 5 آلاف مستوطن صار ما تبقى على ارض الواقع يساوي 8،0 في المئة من مساحة فلسطين، حتى هذه النسبة يرفض نتانياهو تقديمها الى عرفات. ويقول الواقع: إن 80 في المئة من مياه الضفة وغزة هي في أيدي المستوطنين. ويقول الواقع: إن سلطات الدفاع والامن والسيطرة الجوية في أيدي اسرائيل. ويقول الواقع: إن ما تبقى من القدس هو شارع أو شارعان يتحدثان العربية ومحاصران تماماً مثل الآثار والمقدسات الاسلامية والمسيحية، وان سلطة الحكم الذاتي لا تملك - فضلاً عن انها لا تقدر - ان تحمي معابرها الى الخارج. فأي واقع بائس هذا؟ وأي حقائق تلك المراد أخذها في الاعتبار؟ بالتأكيد سيسعد الاسرائيليون كثيراً ان اعترف فريق من العرب ولو كان هزيلاً ومستعملاً من قبل الانظمة بتلك الحقائق، بل ان نتانياهو يُرجع سبب تشدده الى ان ثمة "حقائق على الارض" لا يمكن تجاهلها، وهي حقائق استيلاء بالقوة على أرض ووطن ليست لهم. ولكن أهل كوبنهاغن تكرموا وبادروا بإعطاء اعتراف مجاني بهذه "الحقائق". فهل هذا منطق؟ وأي بؤس هذا الذي يلفه؟ 4- عندما جاء البيان الى مدينة القدس قدمها لنا بفقرة مائعة وغير حاسمة، وكأن المقصود هنا هو ارضاء الطرف الآخر من دون أي اعتبار للعوامل التاريخية والدينية الخاصة التي يكنها المسلمون والمسيحيون تجاه القدس. ولنتأمل، يقول البيان: "تظل القدس مدينة موحدة بصورة دائمة، ويعاد تحديد مساحة المدينة... وستوجد عاصمتان داخل هذه المنطقة البلدية: عاصمة اسرائيل في المنطقة اليهودية وعاصمة فلسطين في المنطقة العربية، وسيتم تحديد وضع وترتيبات الاماكن المقدسة من خلال المفاوضات استناداً الى الحفاظ على الحقوق الدينية وحرية العبادة". ان هذا هو عين ما تريده "اسرائيل"، فهي تريد "القدس الموحدة"، وهي تريدها عاصمة لها، اما الشارع او الشارعان وال 100 ألف عربي، فلا بأس من اعطائهم حرية العبادة والتنقل، بل والادارة الذاتية. المهم هنا ان الجانب الأكبر من المدينة، التاريخي والرمزي الذي ربما يستعصى فهمه على اصحاب كوبنهاغن، فتم تلخيصه في "العاصمة الموحدة" تلك اللفظة الذكية التي صاغها الطرف الاسرائيلي في حركات السلام وورط الطرف العربي بها عن قصد. إن النص يؤكد ويحقق لإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه لسنوات، والطريف بل والخطير هنا ان الجزء الاساسي من قضية القدس أي كونها قضية رمز ومقدسات، لم يرد اصحاب البيان إجهاد انفسهم فيه، على رغم كل هذه التنازلات، وارجاء الحديث في شأنه الى المفاوضات. وهي كما نرى مفاوضات، متوقفة وربما لن تستأنف ابداً! واكتفوا - أصحاب كوبنهاغن - بأسهل المطالب، المطالب السياسية الخاصة بالادارة والعاصمة وغيرها من التفاصيل غير ذات القيمة بالنسبة الى هذه القضية تحديداً، قضية القدس. 5- ويأتي البيان الى مشكلة اللاجئين ليفجر في وجوهنا قنابل دخان سرعان ما تنقشع ويظهر من تحتها الوجه البائس والخطير في آن لهذا الفكر الذي يكمن خلف "حركات السلام الرسمية تلك". يقول البيان التأسيسي: "تتضمن التسوية الدائمة حلاً شاملاً لمشكلة اللاجئين من 1948 والسكان الذين اجتثوا من جذورهم 1967". إلى هنا والكلام جميل، ولكن ما هو الحل: هل يعودون الى ارضهم وفقاً لأبسط وأعدل قواعد المنطق؟ البيان يصدمنا فيقول: "يكون للدولة الفلسطينية أي تلك التي ستشكل من 8،0 في المئة من مساحة فلسطين" الحق في استيعاب اللاجئين داخل حدودها وفق الاعتبارات التي تراها". أي استيعاب هذا، لعدد يصل الى خمسة ملايين فلسطيني خارج فلسطين؟ وهل تتحمل جغرافية ال 8،0 في المئة أو حتى 50 في المئة من مساحة فلسطين هذا العدد؟ وهل من العدل ذلك؟ الخطير ان البيان لم يكتف بذلك بل قدم تعهداً مجانياً للاسرائيليين بعدم احقية الفلسطينيين مستقبلاً في "أي ادعاءات لاحقة حول اللاجئين او استعادة حقوق الملكية". هل هناك عطية مجانية لاسرائيل تجاه هذا الملف الملغوم ملف اللاجئين أجمل من ذلك؟ 6- ويختتم البيان البائس نفسه بعبارات مموهة، غير محددة، فيقول: "ان كل القوى في الشرق الاوسط هل تدخل اثيوبيا واريتريا هنا عليها ان تتكاتف من أجل اعادة بناء المنطقة لكي تكون متحررة من التهديد بالحرب وسباق التسلح والتوتر والفقر... ان السلام الشامل يجب ان يهدف الى بناء اقليم متحرر من اسلحة الدمار الشامل... ان الحركتين تتوجهان بالنداء الى كل القوى المحبة للسلام لكي تضغط بقوة على الحكومات المعنية !! لكي تصل الى اتفاق على أساسها. فبعد خمسين عاماً من الحروب والمعاناة، فإن شعوب الشرق الاوسط تستحق ان تعيش في سلام. وهذا وحده سوف يضمن لهم ولأجيالهم المقبلة مستقبلاً أفضل". ان البيان، في ختامه، لم يذكر ولو بالتلميح - كما نرى آنفاً - ان أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الاوسط غير موجودة الا في دولة واحدة هي "اسرائيل". فلماذا عجز عن ذكرها صراحة في بيان تاريخي يؤسس لعلاقة كبرى بين حركات شعبية كبرى "على حد وصف لطفي الخولي"؟ اليست الصراحة واجبة في هذا المقام، ومنذ البداية؟ اذن لماذا الخوف أو الخجل؟ ان الصراحة أيضاً كان ينبغي ان تكون نبراس الداعين الى "السلام" ودافعهم الى تحديد أكثر لمعسكر الاعداء، فهل من اللائق اخلاقياً ان توصف حركات تحرر وطني مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"حزب الله" بأنهم متعصبون ويمارسون العنف ضد الابرياء من المدنيين انظر الفقرة الثالثة من البيان، في حين ان ختام البيان يدعو الى "الضغط على الحكومات المعنية من أجل السلام"؟ كيف يكون سلاماً ذلك الذي يصف عمليات التحرر الوطني وتحرير الارض المحتلة بأنها "ارهاب"؟ وهل اوصلت الضغوط غير العسكرية الى مفاوضات صحيحة وجادة مع "اسرائيل"؟ بل هل يحمل المستقبل اي امل آخر في "سلام" من دون قدر من التضحيات العادلة، لاسترداد حقوق لم يعد يصلح انشاء حركات للسلام او توظيفها سياسياً، لاستعادتها؟ إن المشكلة الاساسية التي نخلص اليها بعد قراءة هذا البيان، وبعد تأمل فكر أصحابه، ومتابعة ما يكتبون ويسلكون خلال السنوات الخمس الماضية بعد مدريد وأوسلو، أنهم يتعاملون مع قضية الصراع العربي- الاسرائيلي بمنطق بعيد عن واقع وجوهر الصراع ذاته، بل بعيد عن المنطق الذي يدركه ويتعامل في شأنه أعتى دعاة السلام في اسرائيل وهو انه صراع قائم على القوة، ومائدة التفاوض والحوار والسلام لا تستقيم وضعاً وبقاء من دون امتلاك لعناصر القوة على الارض. من دون هذه القوة لا قيمة لهذه الحركات أو لغيرها، ومن دون هذه القوة "البازغة نماذج لها في الجنوب اللبناني وفي فلسطين"، لن تعود لا فلسطين ولا الضفة ولا حتى غزة. فهذا صراع قائم على الوجود والهوية وليس على شطر في شارع أو بئر مياه هنا أو ادارة حكم ذاتي هناك. المشكلة أن "أهل كوبنهاغن" وحركات السلام تلك يرون هذا الكلام كلاسيكياً وفات أوانه، في حين ان السيد بنيامين نتانياهو يصفعنا به صباح مساء وهو المولود في الخمسين الأولى للصراع ومن خلفه 90 في المئة من شعبه، والعشرة في المئة الأخيرة اكثر جذرية منه واغلبهم مولود في الربع الاخير من الصراع! فأي فكر بائس هذا، واي دور اكثر بؤساً ذلك الذي لا يرى صاحبه الا ما يريد له هواه ان يراه، على رغم ان الحقائق كثيرة والوقائع اكثر قسوة مما مضى؟ ومن احق بأن يوصف بالكلاسيكية والجمود: من يصر على موقفه وفكره والتوظيف السياسي - البائس - له على رغم تحولات الواقع من حوله، ام من يرفض ذلك ويقرأ الواقع ويطور ادواته في مواجهته مستنداً الى امته وحضارته وحقه؟ * كاتب وصحافي مصري، مدير مركز يافا للدراسات والابحاث - القاهرة.