الكتاب: لوحات - صفحات من الإيمان والتجربة والوجدان المؤلف: محمود عكام الناشر: فصلت للدراسات والترجمة - 1998 في زمن المشروعات الفكرية المتميزة التي تنزع إلى التحويل، وتطرح الأسئلة الكبرى، وتخوض غمار الاجابات المتعددة المشروعة، تتنوع التجارب، وتتوسع دائرة الحوار، وتتكاثر أشكال الخطاب. والدخول في عالم الخطاب الشامل، خطاب الكليات، أمر تقود إليه وسائل عدة ربما كان على رأسها البدء بمهمة أساسية تبحث في الأركان وفي التأسيس، تجزئ الخطاب من أجل الوصول إلى الكلية والشمول. هذا ما سعت إليه "لوحات" المفكر الإسلامي الدكتور محمود عكام، فهي صفحات من الايمان والتجربة والوجدان، إذ تنطلق من الذات لتصل إلى ذوات الآخرين. فالذات نموذج بقدر ما فيه من خصوصية بقدر ما هو صالح للتعميم، ان ذات الكاتب تبدو في اللوحات جميعها الناظم المحوري، منها ينطلق وإليها يعود، لكن من خلال مرجعيات فكرية عقيدية ثابتة راسخة مفتوحة الآفاق. إن اعتماد شكل اللوحة لمجمل الموضوعات التي عرضها الكاتب يتواءم مع طبيعة التوجه الفكري للكاتب. فالقضايا والهموم متعددة اشكالية، والنفثات الحرى التي بثتها العناوين وقفت على جانب من الإثارة، الإثارة الحارة اللاذعة المريرة الصادقة، الإثارة الفاعلة المتركزة على التجربة الوجدانية، المنطلقة من الايمان والحكمة، ايمان العارف الصابر وحكمة العاقل المتدبر. في كل ما عرضته لوحات الكتاب ينهض المضمون الإنساني عبر ثنائية الواقع والتمني، ما هو كائن وما يجب ان يكون، وصولاً إلى المرتجى والمؤمل. وتحمل صفحة الإهداء الاشارة والدلالة: "إلى الإنسان، اللوحة الأسمى في معرض الكون، دعوة إلى حمل الأمانة والامان، والسلام والإسلام". هذه الأنسنة الرحيمة الشفيفة تضم إليها مختلف القضايا والمشكلات المتناولة، تلك التي تتوزع على عدد من المحاور الأساسية، فمن لوحات في الفكر والعقيدة والايمان، إلى لوحات في السياسة والوطنية والانتماء، إلى أخرى في السفر والتجارب والاخلاق والتربية الإسلامية، إلى نفحات وجدانية ونجاوى وابتهالات... تتنوع الموضوعات وتتشكل في أطر كثيرة، ما يعطي لوحات الكتاب جواً من الحيوية والتشويق، يشد القارئ إلى واحة من التجارب الإنسانية الحميمة والصميمة. وفي ذلك يظهر الإنسان في انسانيته، وفي شرط وجوده أو في وجوده المشروط: "إنسان في حياة، وحياة لا تنفك ولا تنفصل عن إيمان، قد يخطئ، وهذا قدره الجميل، وقد يصيب، فذاك سعيه النبيل، وبين القدر والسعي صلة ما بين الخلق والأمر، والايجاد والتكليف". يستفيد بعض اللوحات من تجارب السفر إلى عواصم وحواضر عالمية مختلفة مثل باريس وأميركا والمانيا وأبو ظبي وفرانكفورت، وفيها يتم اظهار المفارقات الكبرى، الحادة والمؤلمة، في مشكلات العروبة القائمة في الحدود والسدود، والبناء والتنظيم، والانتماء والانسلاخ، والارسال والاستقبال. ومن ذلك يظهر الصراع في أوجهه، ولكن دونما تكافؤ بين الإسلام في راهنه والاتجاه المعادي الماثل في الاقتلاع وصراع الطغيان، انه واقع مؤلم يتلمسه الكاتب بكثير من الحساسية والغيرية وربما الحسرات. في لوحات الفكر والعقيدة خطاب إسلامي منفتح مترامي الأبعاد، لا يضيق بالمذاهب والديانات، يناهض التكفير والنظرة الضيقة إلى الآخر، والحكم على الظاهر. وفي معرض الموضوع السياسي دعوة لإقتران السياسة بجوهر الدين الإسلامي، لينعدم الفاصل بينهما، فلا دين بلا سياسة، ولا سياسة بلا دين، فالسياسة حركة شاملة للمبدأ، ومنهج متكامل جاء به الإسلام ليقدمه للبشرية قاطبة. بل السياسة بحسب المفهوم الإسلامي كما يراه الكاتب عمل وجهد لا تعرف الشعارات والكلام فحسب: "السياسة إدارة، والإدارة علم، والعلم شامل، والشمول يغطي الأرض والعالم والوطن والبلد والأسرة والفرد"، وهو يرفض حسب هذا المفهوم السياسة القائمة على التواكل والضعف وشهوة الاعتلاء وتبريرات الظلم ونزوات السيطرة. وعلى هذا الأساس تنهض الدعوة إلى إسلام يوحد شمل الأمة وينبذ الاختلاف والخلاف والتفرقة، لمواجهة العدو المشترك، انها دعوة الانفتاح والرؤية الشاملة والارتفاع فوق الخلاف القاتل، وليس خلاف الرحمة المشروع. وعليه فالكاتب يميز جيداً ما بين الإسلام الحق والإسلام المفرق وفق معايير سياسية، وفي رأيه يرتكز العمل الإسلامي الصحيح على أمور أربعة: المعرفة الشاملة، وتقويم الاعوجاج، وممارسة الدعوة، وواجب الوضوح في الأمور كلها. والايمان وما يستدعيه من سلوك يغطي مساحة كبيرة من لوحات الكتاب، فالعمل الإسلامي واجب، والدعوة إلى المبدأ جزء من الايمان به، وما لم تكن الدعوة قائمة على بصيرة هادفة إلى إرضاء الله عز وجل، فإنها ستبقى بمنأى عن الإسلام والاصطباغ بصبغته. وفي العمق الفكري يتجلى الصفاء الروحي، ينسجمان معاً ويتواشجان في لوحات النجوى الملونة بالسحر والعذوبة، لوحات يتنوع فيها التوجه وتتعدد الأغراض، فمن النجاوى الالهية إلى مناجاة الزهراء، القدوة الأمثل، إلى مناجاة الذات، إلى مناجاة الوطن، إلى مناجاة الأمة، إلى مناجاة القدس السليبة، إلى مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وروضته والقبة الخضراء، وعرفات، وصولاً إلى مناجاة الحرية. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه اللوحات تشكل وثائق تاريخية تحكي سيرة عصر، وهي وثائق متعددة عن حالة وطن وحالة أمة وحالة إسلام وحالة مسلم. وثائق عن السياسة والسياسيين، عن الشريعة والمتشرعين، عن الحقيقة والوهم. وثائق تدمغ وتدين، تعرض وتحتج، ترفض وتواجه، بل تعمل على رسم الطريق، وتحديد الهدف، وإقامة الصوى من خلال مرجعيات شديدة الثبات والوضوح، وفكر وقاد لماح، وواقعية في النظرة لا تتجاهل العاطفة والوجدان والفطرة وبوح الروح.