جمعية أسر التوحد تطلق أعمال الملتقى الأول للخدمات المقدمة لذوي التوحد على مستوى الحدود الشمالية    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة في القرن الخامس من العهد الاندلسي . مطاردة ابن حزم الظاهري في عصر امراء الطوائف 1 من 2
نشر في الحياة يوم 06 - 06 - 1998

أدى اضمحلال الامارة الاموية في الاندلس في مطلع القرن الخامس للهجرة الى تبعثر العصبية المركزية وقيام عصبيات محلية متنافرة توزعت على مراكز قوى متنافسة سياسياً. وساهمت اللامركزية في نهوض توازنات زئبقية تتمايل باتجاهات متضاربة من دون ثبات او استقرار. ولعبت التداعيات العصبية دورها في نشوء دويلات يقودها امراء محليون لا طاقة لهم على مواجهة الفرنجة ولا قدرة عندهم على حسم توازنات الداخل الاندلسي وإعادة ترتيب التحالفات وفق صيغة ائتلافية ترأسها شوكة كبرى تتجمع حولها او تلتحق بها عصبيات صغرى.
لم يقتصر الانهيار على المستوى السياسي بل ألقى بظلاله على مختلف القطاعات الاقتصادية والثقافية فانهارت منظومات معرفية كانت ملتحقة بالتراتبية الاجتماعية، ونهضت مكانها انظمة فكرية مغايرة حاولت احياناً التآلف مع التحولات وكانت احياناً اخرى تعكس الامزجة المتناقضة في ساحة الاندلس. ويشكل ابن حزم في الاطار التاريخي المذكور ظاهرة مركبة تعرضت لتحولات تاريخية شكلت في آلياتها الداخلية سياقات متضاربة على ثلاث محطات زمنية. الأولى: مرحلة الطفولة وهي فترة الأب الاديب والوزير في ظل الدولة الاموية - العامرية. الثانية: مرحلة الشباب وهي فترة الأب والابن في ظل تنافس الامراء الامويين تحت سقف الفتنة الاندلسية. الثالثة: مرحلة الرجل الشاب وهي فترة موت الأب ونزوع الابن نحو احتلال موقع في ظل تقاتل تناحري لا يرحم انتهى بسقوط الدولة الاموية وتبخر حلم المستقبل.
انتهت المراحل الثلاث بفشل محاولات اعادة الزمن الى التآلف والانسجام في لحظة انتقل فيها الرجل الشاب الى درجة ارقى من النضج. وتصادفت اللحظة مع فترة خروجه من سباق التنافس وانتقاله الى مقاعد المتفرجين في عهد "امراء الطوائف". وكان عليه ان يختار بين الخروج من دائرة الصراع او متابعة المشهد الى نهايته المأسوية. واختار الخروج من ساحة العمل السياسي، التي لاقى فيها الاهوال وتعرض للمطاردة واعتقل اكثر من ثلاث مرات، الى ساحة النضال الفكري. فشخصية ابن حزم المتشعبة لم تنكسر مع انكسارها السياسي بل تواصل منطقها التصادمي لتتميز وتستقل عقائدياً في حقلي الفقه والفلسفة. فأسس مدرسة تقوم على منظومة خاصة من المعارف سيكون لها تأثيرها اللاحق في مختلف الاتجاهات المعرفية في الاندلس من أدبية وفلسفية وفقهية. كذلك سنجد بصماته على الكثير من رموز الاعلام الاندلسية والمغربية ابتداء من ابن باجه وابن طفيل وابن رشد وانتهاء بابن خلدون.
كان لتعدد معارف ابن حزم وتنوع انشطته وتميزه على اكثر من صعيد الدور الحاسم في تكوين وعي مركب مزج بين الفقه والفلسفة والتاريخ. وبسبب شخصيته التصادمية التي انتقلت معه من السياسة الى الفكر تميزت كتاباته بالوضوح والصرامة والتضاد مع المختلف معه. الى الوضوح في قول ما يريد، والسيطرة على نصه، والقدرة على ادارة النقاش في أضيق الحلقات، كان قاطع الكلام في جداله وسجالاته مع الاتجاهات المضادة. فهو بحق مؤسس الاستقلال الفلسفي الاسلامي في الاندلس كنظيره الغزالي في المشرق.
لذلك فأي كلام عن تاريخ الفلسفة الاسلامية في الاندلس لا يشير الى التأثير الحاسم لمكانة وموقع ودور ابن حزم الظاهري في احداث التطور الفكري وتثبيت النقلة التاريخية وملاحظة فروقاتها بين مرحلتين الانتقال من الاموية الى امراء الطوائف سيبقى ناقص القيمة لا يربط حلقات المعرفة الاسلامية وتراكم المنظومات الفكرية وتطورها العام في سياق علاقاتها الخاصة بالبيئات المحلية والفترات الزمنية التي احاطت بها. فالصراعات بين "امراء الطوائف" وتنافسهم على الحكم اتاحت لرجال العلم والفقه والقضاء والفلسفة التفرغ للعمل الفكري وانتاج المنظومات المعرفية بسبب حاجات اصحاب الدويلات المدن والمقاطعات الى غطاء شرعي لسياساتهم غير الشرعية. وبرع في زمن ابن حزم الكثير من العلماء وشهدت البلاد حالات تجاذب بين المدارس الفكرية والفقهية والفلسفية في وقت أخذت "البيئة" الاندلسية في لحظات استقلالها عن المراكز السياسية في المغرب ومصر والعراق تؤسس شخصيتها المستقلة. وأسهم التنافس على السلطات المحلية، التي اشتملت على الحروب الداخلية وحروب الفرنجة على المواقع الامامية وقيام ظاهرة الخصومات السياسية القبلية التي تطورت واتجهت نحو التنسيق وأحياناً التحالف مع الفرنجة لتسجيل انتصارات جزئية ضد امير منافس، في انعاش حركة فكرية كبرى كان ابن حزم احد ابرز اعلامها.
ارتبطت منظومة ابن حزم الفلسفية من البداية بمنهجه الفقهي. ففلسفته ملتصقة بالفقه بل هي فلسفة فقهية ربطت الشريعة بالمنهج العقلاني الذي استقاه من الكتاب والسنة. وبمقاييس عصره اعتبر منهجه من اغرب الاتجاهات نظراً الى تمسكه العجيب في الجمع بين القرآن في ظاهره وحرفيته والعقل في ادلته وبراهينه، واستطاع ان يؤلف مدرسة شديدة التعقيد والتركيب اثارت اجواء صدامية ونقدية غير مسبوقة في زمانه ومكانه. فابن حزم سبق الامام الغزالي بنصف قرن في نقد الفلسفة الاسلامية، وسبق القاضي ابن رشد بأكثر من قرن في نقد المتكلمة والطريقة الاشعرية.
الى ذلك كان من ابرز من ساجل في زمانه ضد منهج الجمع بين اهل الحديث وأهل الرأي. وتميز عن سائر المدارس الفقهية عندما وضع الامام ابو الحسن الاشعري وهو على المذهب الشافعي خارج دائرة اهل السنة وصنف الاشاعرة من المرجئة.
والمرجئة بحسب تصنيف الشهرستاني في "الملل والنحل" اربعة: مرجئة الخوارج، والقدرية، والجبرية، والخالصة. وكان غيلان الدمشقي "اول من احدث القول بالقدر والارجاء". وهي تأتي على معنيين: التأخير "لأنهم كانوا يؤخرون العمل على النية والعقد"، او اعطاء الرجاء وهو معنى ظاهري اذ انهم كانوا يقولون "لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة". الجزء الأول، صفحة 139.
أثارت التهمة اصحاب المذهب الشافعي فزادت مقاومة افكار ابن حزم الذي انتقل من الشافعية الى الظاهرية من الفقهاء خصوصاً من انصار المذهب المالكي السائد بقوة في البرين المغربي والاندلسي.
اتهم ابن كثير الحنبلي توفي 774 هجرية ابن حزم بأنه كان كثير الوقيعة بين العلماء بسبب قسوة لسانه وقلمه فأورثه ذلك "حقداً في قلوب اهل زمانه، وما زالوا به حتى بغضوه الى ملوكهم، فطردوه عن بلاده". وينتقد منهجه الظاهري ويرى انه كان حائراً في الفروع "لا يقول بشيء من القياس، لا الجلي ولا غيره" الامر الذي اوقع بينه وبين العلماء و"ادخل عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرفه". لكنه كان مع الاجتهاد والتأويل وكان من اكثر الفقهاء تأويلاً "في باب الاصول، وآيات الصفات، وأحاديث الصفات". والسبب برأي ابن كثير تضلعه في علم المنطق الذي اخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، وهو ما ادى لاحقاً الى فساد حاله "في باب الصفات" الجزء 12، ص100. واعتبره ابن بشكوال من اجمع اهل الاندلس قاطبة بعلوم اهل الاسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان الى البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والاخبار ص8، مقدمة كتاب الفصل.
الى كتابه في "الامامة والخلافة"، له "الايصال" وهو "شرح كبير اورد فيه اقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الائمة في مسائل الفقه ودلائله" وقدم فيه الحجة لكل طائفة وملاحظاته عليها. ورأى الامام ابو محمد بن العربي الكتاب وقال انه يقع في 24 مجلداً في خط يده. ويعتبر كتابه "جمهرة النسب" الذي وضعه في آخر سنوات حياته 450 هجرية من اهم المصادر التي اعتمد عليها ابن خلدون في تاريخه. فابن حزم ذكر في كتابه الاحاديث الدالة على فضل النسب، ثم ذكر اولاد عدنان من ولد اسماعيل، وأولاد كنانة، وأولاد النضر، وأولاد فهر، وأولاد عبدالمطلب، وأولاد ابي طالب، ثم ذكر قبائل العرب وانسابهم وبطونهم وأفخاذهم وما تفرع منهم.
ويقع كتابه "المحلى" في 11 مجلداً وهو يعكس منهجه الفكري في الفقه الظاهري، بينما يعتبر كتابه "الفصل" عن الفرق والنحل وسجاله لأهل الديانات السماوية من ابرز مؤلفاته لأنه يعكس التعدد الديني في الاندلس والتنوع المذهبي السائد في زمانه.
يذكر ابن كثير انه صنف 400 مجلد ورسالة في قريب من 80 الف ورقة وكان "أديباً، طبيباً، شاعراً، فصيحاً، له في الطب والمنطق كتب". ويطغى على معظم كتبه السجال ضد المدارس المنافسة والنقاش الحاد ضد خصومه، فهو كان من اصحاب الشيخ ابي عمر بن عبدالبر النمري ومن خصوم المذهب المالكي اذ جرت مناظرات كبرى بينه وبينهم ابرزها تلك الواقعة التي حصلت مع الشيخ ابي الوليد سليمان بن خلف الباجي المالكي المذهب وأدت الى طرده من جزيرة ميورقة. فأفكار ابن حزم الفقهية مرتبطة بزمنه وبيئته. ونزعته التصادمية الكلامية والفلسفية لها صلة بحالات التصادم العامة بين مراكز القوى وتجاذب "امراء الطوائف" وصراعهم السياسي والعسكري. فالبيئة الاندلسية في عصر انهيار الدولة المركزية شكلت القاعدة السياسية - الاجتماعية لمنهجيته وساهمت في تشكيل شخصيته الفكرية التي تقاذفتها رياح التنافس بين امراء الدولة الاموية في لحظة اضمحلالها التاريخي.
آنذاك انتهت "الفتنة الاندلسية" سنة 422 هجرية بخلع اهل قرطبة آخر امير من امراء بني أمية واجتمع الناس على تقديم الوزير ابي الحزم بن جهور فأمسك بأوضاع المدينة وضبط امنها واقتصادها الى وفاته سنة 435 هجرية.
انتهت "الفتنة الاندلسية" لكن الفتنة لم تنته في الاندلس حين استقل كل صاحب مقاطعة او مدينة بامارته وقامت على انقاض الفتنة دويلات الطوائف.
طرد ابن حزم من المدينة وتشرد طالباً الرزق والراحة بين امارة وإمارة وولاية وولاية في فترة عرفت الاندلس أقسى حالات التفكك والتفلت وشهدت تقلبات وانقلابات من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها. وأحدثت نزاعات الاستقلال بالمدن والمقاطعات الاموية فراغات في السلطة وفجوات في الجبهات الأمامية في مواجهة الفرنجة، الامر الذي كان له الدور الحاسم في تعديل موازين القوى لمصلحة الممالك الافرنجية.
اضطر ابن حزم في تلك الحالات للتنقل والانتقال وهو امر شحن شخصيته وشحذها بسلاح النقد فزادت كراهية الفقهاء له واجتمعت ضده المتناقضات. وعلى رغم تعدد الولاءات والنزاعات، لم تكن خيارات ابن حزم كثيرة، بسبب ميوله الاموية، اذ انقسم امراء الاندلس في سنة 435 هجرية الى فريقين كبيرين من العرب وبينهما فريق كبير من القبائل البربرية. قاد الفريق العربي الأول صاحب الثغر الاعلى برئاسة سليمان بن هود الجذامي ومعه صاحب طرطوشة مقاتل الصقلبي، وصاحب بلنسية عبدالعزيز بن أبي عامر الذي شملت امارته اصحاب المرية وشقورة الى مدينة قرطبة بامرة الوزير ابي الحزم محمد بن جهور. وقاد الفريق العربي الثاني صاحب اشبيلية المعتضد بن عباد والد المعتمد بن عباد ومعه صاحب دانية مجاهد العامري، وصاحب بطليوس ابن الافطس، وصاحب طليطلة يحيى بن ذي النون، وصاحب قرمونة اسحق بن محمد البرزالي. وبين امراء الاندلس العرب والى جانبهم انتشرت القبائل البربرية وعلى رأسها صاحب غرناطة باديس بن حبوس الصنهاجي. المراكشي، الجزء الثالث، صفحة 219 - 220.
عاش ابن حزم بين المرية وشاطبة ودانية ومالقة وميورقة فشهد كل حالات الاقتتال والمؤامرات والطرد والملاحقة وصولاً الى حرق كتبه في اشبيلية. ففي المرية عاش في ظل صراعات داخلية ومعارك مع غرناطة. وعرفت المرية حالات فوضى في عهود خيران الصقلبي العامري الى سنة 419 هجرية، ثم صاحبه زهير العامري. الى ان آل الأمر من بعده الى معن بن صمادح التبجي سنة 443 هجرية ثم ابنه ابو يحيى بن معن الذي احسن للشعراء والادباء وبرز في عهده ابن حداد وابن عبادة وابن الشهيد وبقي في الحكم 41 سنة الى ان اسقطه عساكر لمتونة. وشهدت المرية في تلك الفترة معارك ضارية مع غرناطة تحت حكم صنهاجة في عهد باديس بن حبوس فتغلب امير غرناطة وقتل عشرات من عشيرة الصقلب وبعض الادباء واعتقل ابن حزم والفقيه الباجي ثم اطلق سراحهما وطردا من المدينة.
وفي شاطبة وبلنسية قامت ثورة بعد مقتل امير بلنسية مبارك العامري واتفق الناس على تولية لبيب الصقلبي الا ان الاخير وبسبب ضعف عشيرته اتصل بالفرنجة لمعاونته على حسم الامر فخاف منه اهل المدينة وطلبوا مساعدة ابن هود فدعمهم فآلت الناحية لولاية عبدالعزيز ابي عامر الذي باتت بلنسية ومرسية وشاطبة وجزيرة شُقر تحت امرته فشهدت لحظات مضيئة بسبب سيرته الحسنة وخدمته للأدباء والكتّاب وطالت ولايته الى سنة 452 هجرية وانهارت امارته وتوزعت بعد وفاته.
ولم تكن احوال ابن حزم افضل في دانية والجزائر الشرقية ميورقة، منورقة، ويابسة من بقية الاندلس فهي كانت بأمرة مجاهد العامري في عهد المنصور بن أبي عامر واستمر في موقعه في فترة الفتنة، ثم استولى على الناحية في عهد "امراء الطوائف" فعرفت الازدهار العلمي وتوسع خراجها بعد غزوه جزيرة سرذانية سردينيا فقصده العلماء والفقهاء من المشرق والمغرب وكتبوا في سائر العلوم ومنهم ابن حزم الذي عاش فيها قرابة عشر سنوات. وحكم مجاهد العامري دانية والجزائر الشرقية 36 سنة متواصلة حصلت خلالها معارك مع صاحب بلنسية عبدالعزيز بن عامر واتهم ابن حزم بدعم الحكم الاموي فاعتقل وطرد منها. ثم حكمها ابنه علي بن مجاهد فاختلف مع شقيقه الذي حظي بدعم من امير اشبيلية المعتضد بن عباد الذي امر بحرق كتب ابن حزم فأقدم علي على قتل شقيقه حسن وبقي في الحكم الى ان اخرجه منها ابن هود.
لم يعش ابن حزم كثيراً بعد طرده من ميورقه الا انه ترك بعد رحيله ثروة فكرية ستكون لها مكانتها العلمية على رغم حرق بعضها وإتلاف بعضها الآخر وضياع الكثير من مصنفاته.
عاش ابن حزم وسط اصحاب المدن وأمراء الطوائف وشهد اقتتالهم الأهلي وتنافسهم على قضم مواقع بعضهم بعضاً، فرأى انهيار الدولة وتداعي مؤسساتها وتخاصم ابناء البيت الواحد على وراثة حكومات محلية هزيلة. وأقسى ما عاشه كان تلك اللحظات التي اخذ امراء الطوائف يشجعون ممالك الفرنجة على التدخل في شؤونهم الداخلية وفض خلافاتهم مقابل اغراءات سياسية او اقتطاع اراض ودفع جزية مقابل دعم عسكري للتغلب على خصم محلي. ويصف المراكشي في تاريخه تلك المأساة بقوله: "ولم يزل ثغر الاندلس يضعف والعدو يقوى والفتنة بين امراء الاندلس قبّحهم الله تستعر الى ان كلب العدو على جميعهم وملّ من اخذ الجزية ولم يقنع الا بأخذ البلاد وانتزاعها من ايدي المسلمين" الجزء الثالث، صفحة 239.
جرت كل تلك الامور في فترة استقرت في الاندلس مراكز قوى تجمعت من هنا وهناك وتوزعت الى قطاعات جغرافية حكمتها ثلاث دويلات تشرف على امارات صغيرة وهي دولة بني عباد، ودولة بني هود، ودولة صنهاجة في غرناطة وضواحيها، الى دولة بني حمود في سبتة، ودولة بني الافطس بنو مسلمة في غرب الاندلس. فاستغل ملوك الفرنجة التفكك فعاثوا في البلاد فساداً وأخذوا بتوسيع نطاق ممالكهم فاضطر ابن الافطس مثلاً الى دفع جزية سنوية على اثر استيلاء الفرنج على قلمرية وحصارهم مدينة شنترين في 456 هجرية وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم.
اسهم تشتت الاندلس السياسي في تشتت ابن حزم العقائدي، كذلك ادى اضطراب القوى وتضعضع مراكزها الى اضطراب افكاره وتضعضع منهجه الفقهي والفلسفي. فالبيئة الاجتماعية لعبت دورها في تكوين شخصيته ونمط تفكيره الذي اتسم برفض القواعد الفقهية الصارمة القياس وفروعه التي اتفق عليها العلماء لضبط الاحكام وتخريجها من الكتاب والسنة. فانعدام النظام وحالات الفوضى دفعت ابن حزم الى التمرد على المنطق وقواعده، والقياس وأصوله، ومناهج الفقه وضوابطه، ومختلف الانظمة الفكرية والفلسفية.
انتقد صاعد الاندلسي كتاب ابن حزم في المنطق واتهمه بتبسيط القول على تبيّن المعارف حين خالف فيه ارسطو "في بعض اصوله مخالفة من لم يفهم غرضه". كذلك انتقده ابن حيّان على كتبه في المنطق والفلسفة اذ "انه لم يخل فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسوّر على تلك الفنون". راجع مقدمة كتاب الفصل، صفحة 10 - 11. فما هي فلسفة ابن حزم وكيف اتصلت عنده بمدرسة الفقه الظاهري؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.