«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة في القرن الخامس من العهد الاندلسي . مطاردة ابن حزم الظاهري في عصر امراء الطوائف 1 من 2
نشر في الحياة يوم 06 - 06 - 1998

أدى اضمحلال الامارة الاموية في الاندلس في مطلع القرن الخامس للهجرة الى تبعثر العصبية المركزية وقيام عصبيات محلية متنافرة توزعت على مراكز قوى متنافسة سياسياً. وساهمت اللامركزية في نهوض توازنات زئبقية تتمايل باتجاهات متضاربة من دون ثبات او استقرار. ولعبت التداعيات العصبية دورها في نشوء دويلات يقودها امراء محليون لا طاقة لهم على مواجهة الفرنجة ولا قدرة عندهم على حسم توازنات الداخل الاندلسي وإعادة ترتيب التحالفات وفق صيغة ائتلافية ترأسها شوكة كبرى تتجمع حولها او تلتحق بها عصبيات صغرى.
لم يقتصر الانهيار على المستوى السياسي بل ألقى بظلاله على مختلف القطاعات الاقتصادية والثقافية فانهارت منظومات معرفية كانت ملتحقة بالتراتبية الاجتماعية، ونهضت مكانها انظمة فكرية مغايرة حاولت احياناً التآلف مع التحولات وكانت احياناً اخرى تعكس الامزجة المتناقضة في ساحة الاندلس. ويشكل ابن حزم في الاطار التاريخي المذكور ظاهرة مركبة تعرضت لتحولات تاريخية شكلت في آلياتها الداخلية سياقات متضاربة على ثلاث محطات زمنية. الأولى: مرحلة الطفولة وهي فترة الأب الاديب والوزير في ظل الدولة الاموية - العامرية. الثانية: مرحلة الشباب وهي فترة الأب والابن في ظل تنافس الامراء الامويين تحت سقف الفتنة الاندلسية. الثالثة: مرحلة الرجل الشاب وهي فترة موت الأب ونزوع الابن نحو احتلال موقع في ظل تقاتل تناحري لا يرحم انتهى بسقوط الدولة الاموية وتبخر حلم المستقبل.
انتهت المراحل الثلاث بفشل محاولات اعادة الزمن الى التآلف والانسجام في لحظة انتقل فيها الرجل الشاب الى درجة ارقى من النضج. وتصادفت اللحظة مع فترة خروجه من سباق التنافس وانتقاله الى مقاعد المتفرجين في عهد "امراء الطوائف". وكان عليه ان يختار بين الخروج من دائرة الصراع او متابعة المشهد الى نهايته المأسوية. واختار الخروج من ساحة العمل السياسي، التي لاقى فيها الاهوال وتعرض للمطاردة واعتقل اكثر من ثلاث مرات، الى ساحة النضال الفكري. فشخصية ابن حزم المتشعبة لم تنكسر مع انكسارها السياسي بل تواصل منطقها التصادمي لتتميز وتستقل عقائدياً في حقلي الفقه والفلسفة. فأسس مدرسة تقوم على منظومة خاصة من المعارف سيكون لها تأثيرها اللاحق في مختلف الاتجاهات المعرفية في الاندلس من أدبية وفلسفية وفقهية. كذلك سنجد بصماته على الكثير من رموز الاعلام الاندلسية والمغربية ابتداء من ابن باجه وابن طفيل وابن رشد وانتهاء بابن خلدون.
كان لتعدد معارف ابن حزم وتنوع انشطته وتميزه على اكثر من صعيد الدور الحاسم في تكوين وعي مركب مزج بين الفقه والفلسفة والتاريخ. وبسبب شخصيته التصادمية التي انتقلت معه من السياسة الى الفكر تميزت كتاباته بالوضوح والصرامة والتضاد مع المختلف معه. الى الوضوح في قول ما يريد، والسيطرة على نصه، والقدرة على ادارة النقاش في أضيق الحلقات، كان قاطع الكلام في جداله وسجالاته مع الاتجاهات المضادة. فهو بحق مؤسس الاستقلال الفلسفي الاسلامي في الاندلس كنظيره الغزالي في المشرق.
لذلك فأي كلام عن تاريخ الفلسفة الاسلامية في الاندلس لا يشير الى التأثير الحاسم لمكانة وموقع ودور ابن حزم الظاهري في احداث التطور الفكري وتثبيت النقلة التاريخية وملاحظة فروقاتها بين مرحلتين الانتقال من الاموية الى امراء الطوائف سيبقى ناقص القيمة لا يربط حلقات المعرفة الاسلامية وتراكم المنظومات الفكرية وتطورها العام في سياق علاقاتها الخاصة بالبيئات المحلية والفترات الزمنية التي احاطت بها. فالصراعات بين "امراء الطوائف" وتنافسهم على الحكم اتاحت لرجال العلم والفقه والقضاء والفلسفة التفرغ للعمل الفكري وانتاج المنظومات المعرفية بسبب حاجات اصحاب الدويلات المدن والمقاطعات الى غطاء شرعي لسياساتهم غير الشرعية. وبرع في زمن ابن حزم الكثير من العلماء وشهدت البلاد حالات تجاذب بين المدارس الفكرية والفقهية والفلسفية في وقت أخذت "البيئة" الاندلسية في لحظات استقلالها عن المراكز السياسية في المغرب ومصر والعراق تؤسس شخصيتها المستقلة. وأسهم التنافس على السلطات المحلية، التي اشتملت على الحروب الداخلية وحروب الفرنجة على المواقع الامامية وقيام ظاهرة الخصومات السياسية القبلية التي تطورت واتجهت نحو التنسيق وأحياناً التحالف مع الفرنجة لتسجيل انتصارات جزئية ضد امير منافس، في انعاش حركة فكرية كبرى كان ابن حزم احد ابرز اعلامها.
ارتبطت منظومة ابن حزم الفلسفية من البداية بمنهجه الفقهي. ففلسفته ملتصقة بالفقه بل هي فلسفة فقهية ربطت الشريعة بالمنهج العقلاني الذي استقاه من الكتاب والسنة. وبمقاييس عصره اعتبر منهجه من اغرب الاتجاهات نظراً الى تمسكه العجيب في الجمع بين القرآن في ظاهره وحرفيته والعقل في ادلته وبراهينه، واستطاع ان يؤلف مدرسة شديدة التعقيد والتركيب اثارت اجواء صدامية ونقدية غير مسبوقة في زمانه ومكانه. فابن حزم سبق الامام الغزالي بنصف قرن في نقد الفلسفة الاسلامية، وسبق القاضي ابن رشد بأكثر من قرن في نقد المتكلمة والطريقة الاشعرية.
الى ذلك كان من ابرز من ساجل في زمانه ضد منهج الجمع بين اهل الحديث وأهل الرأي. وتميز عن سائر المدارس الفقهية عندما وضع الامام ابو الحسن الاشعري وهو على المذهب الشافعي خارج دائرة اهل السنة وصنف الاشاعرة من المرجئة.
والمرجئة بحسب تصنيف الشهرستاني في "الملل والنحل" اربعة: مرجئة الخوارج، والقدرية، والجبرية، والخالصة. وكان غيلان الدمشقي "اول من احدث القول بالقدر والارجاء". وهي تأتي على معنيين: التأخير "لأنهم كانوا يؤخرون العمل على النية والعقد"، او اعطاء الرجاء وهو معنى ظاهري اذ انهم كانوا يقولون "لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة". الجزء الأول، صفحة 139.
أثارت التهمة اصحاب المذهب الشافعي فزادت مقاومة افكار ابن حزم الذي انتقل من الشافعية الى الظاهرية من الفقهاء خصوصاً من انصار المذهب المالكي السائد بقوة في البرين المغربي والاندلسي.
اتهم ابن كثير الحنبلي توفي 774 هجرية ابن حزم بأنه كان كثير الوقيعة بين العلماء بسبب قسوة لسانه وقلمه فأورثه ذلك "حقداً في قلوب اهل زمانه، وما زالوا به حتى بغضوه الى ملوكهم، فطردوه عن بلاده". وينتقد منهجه الظاهري ويرى انه كان حائراً في الفروع "لا يقول بشيء من القياس، لا الجلي ولا غيره" الامر الذي اوقع بينه وبين العلماء و"ادخل عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرفه". لكنه كان مع الاجتهاد والتأويل وكان من اكثر الفقهاء تأويلاً "في باب الاصول، وآيات الصفات، وأحاديث الصفات". والسبب برأي ابن كثير تضلعه في علم المنطق الذي اخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، وهو ما ادى لاحقاً الى فساد حاله "في باب الصفات" الجزء 12، ص100. واعتبره ابن بشكوال من اجمع اهل الاندلس قاطبة بعلوم اهل الاسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان الى البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والاخبار ص8، مقدمة كتاب الفصل.
الى كتابه في "الامامة والخلافة"، له "الايصال" وهو "شرح كبير اورد فيه اقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الائمة في مسائل الفقه ودلائله" وقدم فيه الحجة لكل طائفة وملاحظاته عليها. ورأى الامام ابو محمد بن العربي الكتاب وقال انه يقع في 24 مجلداً في خط يده. ويعتبر كتابه "جمهرة النسب" الذي وضعه في آخر سنوات حياته 450 هجرية من اهم المصادر التي اعتمد عليها ابن خلدون في تاريخه. فابن حزم ذكر في كتابه الاحاديث الدالة على فضل النسب، ثم ذكر اولاد عدنان من ولد اسماعيل، وأولاد كنانة، وأولاد النضر، وأولاد فهر، وأولاد عبدالمطلب، وأولاد ابي طالب، ثم ذكر قبائل العرب وانسابهم وبطونهم وأفخاذهم وما تفرع منهم.
ويقع كتابه "المحلى" في 11 مجلداً وهو يعكس منهجه الفكري في الفقه الظاهري، بينما يعتبر كتابه "الفصل" عن الفرق والنحل وسجاله لأهل الديانات السماوية من ابرز مؤلفاته لأنه يعكس التعدد الديني في الاندلس والتنوع المذهبي السائد في زمانه.
يذكر ابن كثير انه صنف 400 مجلد ورسالة في قريب من 80 الف ورقة وكان "أديباً، طبيباً، شاعراً، فصيحاً، له في الطب والمنطق كتب". ويطغى على معظم كتبه السجال ضد المدارس المنافسة والنقاش الحاد ضد خصومه، فهو كان من اصحاب الشيخ ابي عمر بن عبدالبر النمري ومن خصوم المذهب المالكي اذ جرت مناظرات كبرى بينه وبينهم ابرزها تلك الواقعة التي حصلت مع الشيخ ابي الوليد سليمان بن خلف الباجي المالكي المذهب وأدت الى طرده من جزيرة ميورقة. فأفكار ابن حزم الفقهية مرتبطة بزمنه وبيئته. ونزعته التصادمية الكلامية والفلسفية لها صلة بحالات التصادم العامة بين مراكز القوى وتجاذب "امراء الطوائف" وصراعهم السياسي والعسكري. فالبيئة الاندلسية في عصر انهيار الدولة المركزية شكلت القاعدة السياسية - الاجتماعية لمنهجيته وساهمت في تشكيل شخصيته الفكرية التي تقاذفتها رياح التنافس بين امراء الدولة الاموية في لحظة اضمحلالها التاريخي.
آنذاك انتهت "الفتنة الاندلسية" سنة 422 هجرية بخلع اهل قرطبة آخر امير من امراء بني أمية واجتمع الناس على تقديم الوزير ابي الحزم بن جهور فأمسك بأوضاع المدينة وضبط امنها واقتصادها الى وفاته سنة 435 هجرية.
انتهت "الفتنة الاندلسية" لكن الفتنة لم تنته في الاندلس حين استقل كل صاحب مقاطعة او مدينة بامارته وقامت على انقاض الفتنة دويلات الطوائف.
طرد ابن حزم من المدينة وتشرد طالباً الرزق والراحة بين امارة وإمارة وولاية وولاية في فترة عرفت الاندلس أقسى حالات التفكك والتفلت وشهدت تقلبات وانقلابات من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها. وأحدثت نزاعات الاستقلال بالمدن والمقاطعات الاموية فراغات في السلطة وفجوات في الجبهات الأمامية في مواجهة الفرنجة، الامر الذي كان له الدور الحاسم في تعديل موازين القوى لمصلحة الممالك الافرنجية.
اضطر ابن حزم في تلك الحالات للتنقل والانتقال وهو امر شحن شخصيته وشحذها بسلاح النقد فزادت كراهية الفقهاء له واجتمعت ضده المتناقضات. وعلى رغم تعدد الولاءات والنزاعات، لم تكن خيارات ابن حزم كثيرة، بسبب ميوله الاموية، اذ انقسم امراء الاندلس في سنة 435 هجرية الى فريقين كبيرين من العرب وبينهما فريق كبير من القبائل البربرية. قاد الفريق العربي الأول صاحب الثغر الاعلى برئاسة سليمان بن هود الجذامي ومعه صاحب طرطوشة مقاتل الصقلبي، وصاحب بلنسية عبدالعزيز بن أبي عامر الذي شملت امارته اصحاب المرية وشقورة الى مدينة قرطبة بامرة الوزير ابي الحزم محمد بن جهور. وقاد الفريق العربي الثاني صاحب اشبيلية المعتضد بن عباد والد المعتمد بن عباد ومعه صاحب دانية مجاهد العامري، وصاحب بطليوس ابن الافطس، وصاحب طليطلة يحيى بن ذي النون، وصاحب قرمونة اسحق بن محمد البرزالي. وبين امراء الاندلس العرب والى جانبهم انتشرت القبائل البربرية وعلى رأسها صاحب غرناطة باديس بن حبوس الصنهاجي. المراكشي، الجزء الثالث، صفحة 219 - 220.
عاش ابن حزم بين المرية وشاطبة ودانية ومالقة وميورقة فشهد كل حالات الاقتتال والمؤامرات والطرد والملاحقة وصولاً الى حرق كتبه في اشبيلية. ففي المرية عاش في ظل صراعات داخلية ومعارك مع غرناطة. وعرفت المرية حالات فوضى في عهود خيران الصقلبي العامري الى سنة 419 هجرية، ثم صاحبه زهير العامري. الى ان آل الأمر من بعده الى معن بن صمادح التبجي سنة 443 هجرية ثم ابنه ابو يحيى بن معن الذي احسن للشعراء والادباء وبرز في عهده ابن حداد وابن عبادة وابن الشهيد وبقي في الحكم 41 سنة الى ان اسقطه عساكر لمتونة. وشهدت المرية في تلك الفترة معارك ضارية مع غرناطة تحت حكم صنهاجة في عهد باديس بن حبوس فتغلب امير غرناطة وقتل عشرات من عشيرة الصقلب وبعض الادباء واعتقل ابن حزم والفقيه الباجي ثم اطلق سراحهما وطردا من المدينة.
وفي شاطبة وبلنسية قامت ثورة بعد مقتل امير بلنسية مبارك العامري واتفق الناس على تولية لبيب الصقلبي الا ان الاخير وبسبب ضعف عشيرته اتصل بالفرنجة لمعاونته على حسم الامر فخاف منه اهل المدينة وطلبوا مساعدة ابن هود فدعمهم فآلت الناحية لولاية عبدالعزيز ابي عامر الذي باتت بلنسية ومرسية وشاطبة وجزيرة شُقر تحت امرته فشهدت لحظات مضيئة بسبب سيرته الحسنة وخدمته للأدباء والكتّاب وطالت ولايته الى سنة 452 هجرية وانهارت امارته وتوزعت بعد وفاته.
ولم تكن احوال ابن حزم افضل في دانية والجزائر الشرقية ميورقة، منورقة، ويابسة من بقية الاندلس فهي كانت بأمرة مجاهد العامري في عهد المنصور بن أبي عامر واستمر في موقعه في فترة الفتنة، ثم استولى على الناحية في عهد "امراء الطوائف" فعرفت الازدهار العلمي وتوسع خراجها بعد غزوه جزيرة سرذانية سردينيا فقصده العلماء والفقهاء من المشرق والمغرب وكتبوا في سائر العلوم ومنهم ابن حزم الذي عاش فيها قرابة عشر سنوات. وحكم مجاهد العامري دانية والجزائر الشرقية 36 سنة متواصلة حصلت خلالها معارك مع صاحب بلنسية عبدالعزيز بن عامر واتهم ابن حزم بدعم الحكم الاموي فاعتقل وطرد منها. ثم حكمها ابنه علي بن مجاهد فاختلف مع شقيقه الذي حظي بدعم من امير اشبيلية المعتضد بن عباد الذي امر بحرق كتب ابن حزم فأقدم علي على قتل شقيقه حسن وبقي في الحكم الى ان اخرجه منها ابن هود.
لم يعش ابن حزم كثيراً بعد طرده من ميورقه الا انه ترك بعد رحيله ثروة فكرية ستكون لها مكانتها العلمية على رغم حرق بعضها وإتلاف بعضها الآخر وضياع الكثير من مصنفاته.
عاش ابن حزم وسط اصحاب المدن وأمراء الطوائف وشهد اقتتالهم الأهلي وتنافسهم على قضم مواقع بعضهم بعضاً، فرأى انهيار الدولة وتداعي مؤسساتها وتخاصم ابناء البيت الواحد على وراثة حكومات محلية هزيلة. وأقسى ما عاشه كان تلك اللحظات التي اخذ امراء الطوائف يشجعون ممالك الفرنجة على التدخل في شؤونهم الداخلية وفض خلافاتهم مقابل اغراءات سياسية او اقتطاع اراض ودفع جزية مقابل دعم عسكري للتغلب على خصم محلي. ويصف المراكشي في تاريخه تلك المأساة بقوله: "ولم يزل ثغر الاندلس يضعف والعدو يقوى والفتنة بين امراء الاندلس قبّحهم الله تستعر الى ان كلب العدو على جميعهم وملّ من اخذ الجزية ولم يقنع الا بأخذ البلاد وانتزاعها من ايدي المسلمين" الجزء الثالث، صفحة 239.
جرت كل تلك الامور في فترة استقرت في الاندلس مراكز قوى تجمعت من هنا وهناك وتوزعت الى قطاعات جغرافية حكمتها ثلاث دويلات تشرف على امارات صغيرة وهي دولة بني عباد، ودولة بني هود، ودولة صنهاجة في غرناطة وضواحيها، الى دولة بني حمود في سبتة، ودولة بني الافطس بنو مسلمة في غرب الاندلس. فاستغل ملوك الفرنجة التفكك فعاثوا في البلاد فساداً وأخذوا بتوسيع نطاق ممالكهم فاضطر ابن الافطس مثلاً الى دفع جزية سنوية على اثر استيلاء الفرنج على قلمرية وحصارهم مدينة شنترين في 456 هجرية وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم.
اسهم تشتت الاندلس السياسي في تشتت ابن حزم العقائدي، كذلك ادى اضطراب القوى وتضعضع مراكزها الى اضطراب افكاره وتضعضع منهجه الفقهي والفلسفي. فالبيئة الاجتماعية لعبت دورها في تكوين شخصيته ونمط تفكيره الذي اتسم برفض القواعد الفقهية الصارمة القياس وفروعه التي اتفق عليها العلماء لضبط الاحكام وتخريجها من الكتاب والسنة. فانعدام النظام وحالات الفوضى دفعت ابن حزم الى التمرد على المنطق وقواعده، والقياس وأصوله، ومناهج الفقه وضوابطه، ومختلف الانظمة الفكرية والفلسفية.
انتقد صاعد الاندلسي كتاب ابن حزم في المنطق واتهمه بتبسيط القول على تبيّن المعارف حين خالف فيه ارسطو "في بعض اصوله مخالفة من لم يفهم غرضه". كذلك انتقده ابن حيّان على كتبه في المنطق والفلسفة اذ "انه لم يخل فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسوّر على تلك الفنون". راجع مقدمة كتاب الفصل، صفحة 10 - 11. فما هي فلسفة ابن حزم وكيف اتصلت عنده بمدرسة الفقه الظاهري؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.