تاريخ الأدب في الأندلس عصر سيادة قرطبة - احسان عباس - دار الشروق، عمان 1997 طبعة جديدة ومنقحة عرفت الأندلس في عهودها الاسلامية الازدهار العمراني الذي ساهم في انتاج مدارس فقهية وفلسفية كان لها الدور البارز في تطوير المنظومة المعرفية الاسلامية التي انتقلت منها ومن صقلية الى أوروبا في وقت بدأت شمس الاسلام تغرب عن القارة. من الصعب دراسة الفكر الأندلسي - الاسلامي في شقيه الفقهي والفلسفي من دون قراءة تاريخ الأندلس والتجاذب الذي تعرضت له على فترات زمنية امتدت قرابة ثمانية قرون. فالأفكار عموماً تتأثر بالبيئات المحلية كذلك لا تنفصل في خصوصياتها عن التأثيرات العامة التي تساهم في تكوين المعرفة وتنظيم الاجتماع وضبط السلوك الانساني في اطر مشتركة. والعمران الأندلسي لا يمكن فصله عن الحضارة الاسلامية كذلك لا يمكن فهمه من دون دراسة خصوصيات البيئة التي كانت تمر دائماً في حالات قلق وتوتر بسبب التشابك المستمر بين أوروبا والاسلام. تمت قراءات كثيرة للحضارة الأندلسية الاسلامية وتناول الباحثون خصوصية التجربة وصلتها العميقة بالاسلام ودور الدين في انتاجها ودفعها نحو التقدم. وتناول المستشرقون الدور الخاص للأندلس في انتاج فكرها المميز في محاولة منهم لعزل العمران المحلي عن السياق التاريخي للحضارة العربية - الاسلامية. إلا أن تلك المحاولات لم تصب النجاح بسبب صعوبة الفصل بين دوائر الاسلام أو عزل المشرق عن المغرب. فالتواصل الحضاري كان دائم الحضور حتى في لحظات التقطع السياسي ونشوء مراكز متعددة للخلافة الاسلامية. فالحواجز السياسية لم تمنع انتقال العلماء والفقهاء والقضاة والمدارس الفقهية والفلسفية من المشرق الى المغرب والعكس. وتاريخ المنطقة يشهد على ذلك حتى في أوقات عصيبة عرفت خلالها الخلافة اضطرابات داخلية أو نهوض دول مستقلة عن المركز كما حصل في مصر الدولة الفاطمية وفي الأندلس الدولة الأموية. فالتقطع السياسي لم يمنع التواصل أو يؤدي الى انقطاع حضاري مستقل بل بقي التأثير المتبادل هو السمة الأبرز في المجرى الزمني. ويمكن ملاحظة الأمر من خلال مصادر الكتب ومراجعها إذ نجد أحياناً ما يشبه التطابق في المعلومات ورصد الحوادث والقراءات، وهذا يدل على وجود اتصالات ووسائل نقل ووسائط انتقال خصوصاً في الحج. ففريضة الحج كانت الصلة بين حلقات الزمن. وفي مكان الحج كان يتم تبادل الآراء ويحصل التواصل النفسي في المشاعر والأفكار، فتنتقل من جهة الى أخرى، خصوصاً عندما كان يقرر بعض الحجاج البقاء في المشرق فترة أطول من الزيارة للاطلاع أو الدراسة أو المتابعة. بحث احسان عباس هذه المسألة في حقل الأدب فذكر في كتابه "تاريخ الأدب الأندلسي" ان تدريس الفقه والحديث والعربية في الأندلس في عصر سيادة قرطبة اعتمد على الكتاب المشرقي لذلك "هاجرت كتب المشارقة الى الأندلس بكثرة، وكثرت رحلات الأندلسيين الى المشرق في طلب العلم، وكان الواحد منهم يشرَّف بين بني قومه حين يروي عن شيوخ مصر وبغداد وغيرهما من بلدان المشرق" ص 34. وسبب اعتماد أهل الأندلس على المشرق والتقليد لأهله يعود الى أنه "كان أرقى حضارة وأوسع ثقافة، وإليه يلتفت الأندلسيون في تجارتهم ويرونه منبع العلم والدين وموطن القداسة والحج. وقد تنمو روح المنافسة مع الزمن بين المشرق والمغرب ولكنها لن تستطيع أن تكفل استقلال الأندلس في شؤون الحضارة والأدب بل انها ساعدت على توسيع دائرة التقليد" ص 35. وعلى رغم هذا التأثر الكامل نشأت خصوصية محلية بسبب الاختلاط بين "العرب الفاتحين والسكان الأصليين" وظهر الأمر في "لهجة عرب الأندلس" اذ كان أكثرهم ابتعادً عن العربية الصحيحة "أقربهم الى المناطق التي تغلب فيها غير العربية" وأصبحت مع الزمن لغة التخاطب "تمثل هذه التأثيرات المتباينة قوة وضعفاً" وأخذت الفصحى تنكمش "فلا تمثل الا الجانب الرسمي للدولة، وغدت لغة أدبية لا يتذوقها الا الطبقات المثقفة، الا في جزائر صغيرة وسط هذا البحر من الاتجاه الى اللغة الدارجة" ص 77. يقتصر بحث عباس على الجانب الأدبي في محاولة منه لربط الأدب الاندلسي باصوله من دون اغفال اثر البيئات المحلية خصوصاً الحياة السياسية التي اثرت على الصورة الشعرية والوانها المختلفة "فهي صراع خارجي في صورة غزوات مستمرة ومرابطة وجهاد في الثغور" و"هي صراع داخلي يتمثل في الفتن والثورات التي يحاول اصحابها بها الانشقاق عن طاعة قرطبة" وهي "ايضاً معارك بين العناصر المختلفة على اساس العصبية" وهي الى ذلك كله "معارضة او نقد للحكم القائم او محاولة للتآمر في سبيل غايات فردية" ص82. لم تمنع هذه الخصوصية واختلاف البيئات من تقليد الاندلس للمشرق. وبرأي احسان عباس هناك مجموعة عوامل ضغطت في هذا الاتجاه منها ان الاندلس كانت في سياستها ونظمها "بنت المشرق" اذ لم "تنقطع صلتها الثقافية به في يوم من الايام" فالاندلس كانت بحاجة الى المشرق "لانه ارقى حضارة واحفل باسباب التقدم العمراني" ص116. وخنق الاسراف في التقليد قابلية التحول "عن طريق الابتكار" وأدى الى تقليل الاصالة خصوصاً في مجال الادب. واستمر هذا الوضع الى ان حصلت الفتنة في الاندلس، التي تعرف في كتب التاريخ بالفتنة البربرية. وأدى الصراع الاهلي الى تأسيس عصر جديد جاء على انقاض "الدولة الاموية" التي تفككت الى "ملوك طوائف" وضربت وحدة الدولة المركزية وانهت احتكار قرطبة كعاصمة مشتركة. فالفتنة شكلت نقطة تحول في تاريخ الاندلس ونقلت البلاد من مركزية الدولة الى تعددية الدول امراء الطوائف على رغم انها قضت على العمران وادخلت الفرنجة كطرف ثالث يتحالف مع هذا الجانب لضرب الآخر ثم يتحالف مع طرف لضرب ذاك الجانب. ويرى احسان عباس ان الفتنة ازالت مجد قرطبة وكانت مسؤولة عن نمو ظاهرتين ادبيتين الاولى "الميل الى التراجم الذاتية" والثانية "استقواء النزعة النقدية بُعيد الفتنة، لتخلخل المقاييس واضطرابها في الحياة الاجتماعية والادبية معاً" ص128. وعلى أساس هذه القاعدة النظرية للتاريخ الاندلسي يعود عباس لدراسة تطور الادب خصوصاً في مجالات النقد والشعر والقصة ويرى ان الفقيه والفيلسوف ابن حزم هو المؤسس الحقيقي للاستقلال الفكري في الاندلس فهو "كان قوة جديدة في تحقيق الشخصية الاندلسية مرتين: مرة بتسجيله لنواحي التمييز الادبي فيها، ومرة باعطائها مذهباً المذهب الظاهري يجعلها مستقلة تماماً عن المشرق" ص 135. فما هو خبر هذه الفتنة 399 - 418 هجرية التي احدثت انقلاباً في تاريخ الاندلس واشعلت نار الصراع بين فئتين من المسلمين وعصفت الحرب الاهلية بدولة الامويين وأسست لمرحلة جديدة في الحياتين الادبية والسياسية؟ يورد احسان عباس خبرها في كتابه صفحات 121 - 135 كالآتي: أراد محمد بن هشام بن عبدالجبار الأموي الملقب بالمهدي ان يتخلص من الدولة العامرية. وكان العامريون تسلموا السلطة الفعلية أيام أميرها هشام المؤيد المستضعف. نجح المهدي موقتاً وقتل عبدالرحمن بن أبي عامر وتسلم السلطة. وقام أموي آخر هو سليمان المستعين بمنافسته وتزعم البربر وقصد انتزاع السلطة من المهدي، فحاصر قرطبة سنة 400 هجرية واقتحمها بالتحالف مع الفرنجة وابادوا كثيراً من أهلها وتسمى وقعة قنتيش. وهرب المهدي الى طليطلة مستعيناً بدوره بالافرنج وقام باقتحام قرطبة وانهزم سليمان. ودخل المهدي المدينة لكن جيشه غدر به وقتله ونصبوا هشام المؤيد. وعاد سليمان فملك قرطبة وكانت من أسوأ أيام المدينة وتوفي المؤيد واستمر سليمان في حكمها حوالى سبع سنوات. أخذ العامريون يجددون محاولات استعادة دولتهم وعملوا على تقويض ملك سليمان المستعين فتحرك صاحب سبتة علي بن حمود واجتاز سنة 404 هجرية الى الأندلس وانضم اليه خيران العامري وحبوس الصنهاجي والتقت جيوشهم بالمستعين مطلع 407 هجرية فهزم سليمان وقبض عليه وقتل وصارت الدولة في قرطبة لابن حمود "فقهر البربر وأمضى الأحكام وأقام العدل" الا ان خدمه الصقالبة قتلوه سنة 408 هجرية وخلفه أخوه. وطمع الموالي العامريون في استعادة الدولة الأموية من بني حمود فنصبوا المرتضى عبدالرحمن بن محمد اميرهم ونزلوا الى غرناطة فهزمهم صاحبها وقتل المرتضى سنة 409 هجرية. بعد تلك الوقعة تشتت عصب الأمويين المروانيين. فحاول الأمويون بقيادة الظافر بالله سنة 414 هجرية اعادة الحكم ففشل وتكررت المحاولة بقيادة المستكفي ففشل في رد الحكم الأموي واخرج من قرطبة وانتظم الامر فيها لبني حمود. ولم يبق من العامريين بعد انقضاء امر الدولة الأموية وزوال العامريين في مطلع القرن الخامس سوى خيران العامري زعيم الصقالبة في بلاط هشام المؤيد، فاستولى على مرسيه والمرية، وخلفه أخوه زهير العامري سنة 419 هجرية. واستولى مجاهد العامري على دانية والجزائر الشرقية ومال للعلم وأكرم العلماء. واستقر مبارك ومظفر العامريان في بلنسية. ويعتبر عباس الفتنة "نقطة تحول في التاريخ والأدب الأندلسي" لأنه بسببها اضمحلت سيادة قرطبة، وتفككت الدولة المركزية، وانتقلت الحياة الثقافية من العاصمة قرطبة وتوزعت على المدن الأخرى. ويذهب الى القول ان الفترة التي تلت الفتنة كانت "تمهيداً لقيام امراء الطوائف" ونهوض حركة أدبية جديدة استفادت من توازن القوى وصراعات أصحاب المدن وتنافسهم على كسب ود العلماء. وكان من آثار الفتنة حصول تطورات متناقضة منها، تخريب العمران في قرطبة وهدم القصور وموت الكثير من العلماء والأدباء جوعاً وتشريداً أو الهجرة الى المغرب ومصر. وانهيار قواعد النهضة العلمية الأدبية التي ازدهرت على عهد المستنصر أو في أيام المنصور بن أبي عامر والمظفر بن المنصور. الا ان النهضة عادت مجدداً بعد تحول الدولة المركزية وانتقالها الى سلطات محلية. فزوال مجد قرطبة أدى الى انتشار علومها في البلاد ونهوض تعددية شجعت على استقلال الشخصية الأدبية الأندلسية. يتناول احسان عباس عشرات الأسماء في بحثه عن سمات الحركة الأدبية الأندلسية في عصر سيادة قرطبة الامارة الأموية، ويركز على ثلاثة أسماء كانت الأكثر تأثراً بالفتنة الأندلسية وهي ابن دراج وابن شهيد وابن حزم. ويعتبر تأثر ابن حزم بالفتنة كان كبيراً و"أعمقهم احساساً بالتغير الذي احدثته" ص275. فهي فاجأته وهو شاب في ظل النعيم وحياة القصور وغيرت مجرى حياته، لما اصاب خط حياته من انكسار. يقال عن ابن حزم انه من عجم لبلة وجده الأدنى حديث عهد بالاسلام. ويذكر تلميذه الحميدي ان أصله من فارس وجده الأقصى في الاسلام اسمه يزيد مولى ليزيد بن أبي سفيان. واعترف ابن حزم بأصله الفارسي، أما ولائه لبني أمية يؤكد ان اسلام عائلته قديم العهد. وكان والده ميالاً لبني أمية في عهد الدولة العامرية. ولد أبوه أحمد بن سعيد في قرية من عمل لبلة تسمى "منت لشم" ثم هاجر منها الى قرطبة للدراسة. وكان زميلاً لابن ابي عامر وبينهما منافسة، وبسبب ثقافته الواسعة استعان به صاحب الدولة العامرية واتخذه وزيراً له في سنة 381 هجرية. ثم أقدم الحاجب المنصور على عزله عن الوزارة وأقصاه عن الخدمة من دون ان يغير حياته المعيشية فأبقاه على النعمة. ثم عاد وتردد فأخرجه من العزلة وأعاده الى حسن رأيه به. ولد علي في سنة 384 هجرية وتأثر بوالده. واستفاد من مجالس والده فتعرف على رجال السياسة والعلم كأبي عمر أحمد بن حبرون، وأبي عبدالله محمد بن اسحق الزاهد. وكان والده أحد مصادره في روايات التاريخ خصوصاً الأحداث التي وقعت خلال وزارته للمنصور بن أبي عامر فاطلع على كثير من الأمور التي جرت في بلاط المنصور ومعاركه. كانت أولى تجاربه حضوره في مجلس المظفر عبدالملك بن المنصور سنة 396 هجرية وكان في عمر لا يتجاوز 12 سنة. وكان يعيش مع والده واسرته في الجانب الشرقي من قرطبة وعندما حاول المهدي أخذ الدولة اضطرت العائلة الى الانتقال الى الجانب الغربي من قرطبة في سنة 399 هجرية وكان ابن حزم في 15 من عمره. آنذاك مال والد ابن حزم الى الأمويين وأخذ يدعم عودتهم الى الحكم وأخذ يبتعد عن الولاء للدولة العامرية وأميرها هشام المؤيد. واتهم بتأييد المهدي والتآمر على الدولة فاعتقلهما الوالد والابن في سنة 400 هجرية واصيبت العائلة بنكبة كبيرة في فترة الفتنة. وما لبث ان توفي والده سنة 402 هجرية فطردت العائلة ونهبت منازلها فاضطر الشاب ابن حزم الى مغادرة قرطبة سنة 404 هجرية الى المرية. ومنذ تلك الفترة بدأت مرحلة جديدة في حياته ايد فيها الأمراء الأمويين ودعم حقهم في ولاية الامارة. كان حاكم المرية خيران العامري فنقل له الوشاه تأييد ابن حزم الدعوة الأموية فاعتقله أشهراً مع محمد بن اسحق ثم نفاهما عن المرية ونزلا على عبدالله بن هذيل التجيبي لعدة شهور ثم قصدا بلنسيه عندما سمعا بظهور المرتضى عبدالرحمن بن محمد الأموي. وسارا معه في محاصرة غرناطة. وفشل المرتضى في حملته. فاضطر للعودة الى قرطبة سنة 408 هجرية وكان حاكمها القاسم بن حمود. وهناك قرر متابعة علومه بعدما فشل في السياسة. بقي ابن حزم في قرطبة 6 سنوات يتابع الدراسة. فوقع حادث جدد آماله السياسية اذ فر القاسم بن حمود وبويع المستظهر الأموي للولاية فاتصل بابن حزم وضمه الى بلاطه برتبة وزير سنة 414 هجرية. وعايش هناك ابن شهيد الا انه نكب مجدداً بعد ان أقدم المستكفي على سجنه بعد أسابيع بتهم سياسية. بعد اطلاق سراحه قرر ابن حزم التفرغ للميدان العلمي فأخذ يتنقل في بلاد الأندلس، فسكن شاطبة، ثم مالقة. وذهب في سنة 452 هجرية الى ميورقة وكان يدرس فيها الفقيه محمد بن سعيد الميورقي الفقه والأصول فاستنجد الأخير بأبي الوليد الياجي وتضافرا على ابن حزم واخرجاه. نجح ابن حزم في تأسيس منهجية جديدة في النقد الأدبي وساهم في بلورة المذهب الظاهري وتطويره فهو "أقوى من تمم الاتجاه الذي بدأه الحكم المستنصر" ص 135. وكان الحكم المستنصر حكم بين 350 و366 هجرية 961 - 976 ميلادية ثم اعقبه هشام المؤيد 366 - 406 هجرية وتولى منصب الحجابة المنصور بن ابي عامر الى عام 392 هجرية ثم المظفر بن المنصور 392 - 399 هجرية ثم عبدالرحمن شنجول. وفي وقته عهد هشام المؤيد وقعت الفتنة في سنة 399 هجرية وجرت محاولات لاعادة الحكم الاموي انتهت بالفشل سنة 418 هجرية، ليبدأ عصر امراء الطوائف. بنهاية الحكم الأموي أنهى ابن حزم الفترة الأولى من حياته الفكرية بكتابة "طوق الحمامة" الذي يعتبره بعض النقاد من أقدم المؤلفات التي شرحت نظرية "الحب الانساني". فالكتاب يتضمن اعترافات بتجربته وتجارب غيره في الشؤون العاطفية ويحتوي على نظرة في الحب "جعل بعض المستشرقين يعقد الصلة بين هذه النظرة الاندلسية وما طرأ من تغير على شعر الحب في أوروبا في القرن الثاني عشر" الميلادي. ويرجح عباس انه كتبه بعد خروجه من قرطبة بوقت غير طويل فهو يتحدث عن نكبة أسرته وحياته ومشاهداته في مدن الأندلس المختلفة و"هذا لم يتم قبل سنة 419 هجرية" عندما كان يسكن في شاطبة. بعد "طوق الحمامة" حصلت انعطافة في حياة ابن حزم وبدأ مرحلة مختلفة في كتاباته بعد استقالته من السياسة وتفرغه للعلم والبحث، فوضع كتاب "الفصل" وفيه عرض لمختلف الفرق الاسلامية ومقارنة للديانتين اليهودية والمسيحية. فهو كما يقول عباس "متعمق للفقه والحديث، عارف باراء أهل المذاهب الأخرى، مطلع على كتب أهل الأديان يناقش مادة التوراة والانجيل مناقشة تفصيلية" ص 285. وكان الى ذلك يمتلك "قدرة فائقة في التجريح والتعديل ومعرفة الانساب" ص 286. وبسبب حدة ابن حزم في المجادلة جمع ضده العديد من الخصوم الذين كانوا يكيدون له عند أمراء الطوائف فأقدم المعتضد بن عباد على جمع كتبه واحراقها بعد حصول المناظرة بينه وبين الفقيه المالكي الياجي. ويذكر ان ابن حزم بدأ شبابه على المذهب الشافعي ثم تحول الى الظاهرية وشاركها في مواقفها النقدية ضد الاشعرية والصوفية، ودان بشدة تقديس الأولياء وحارب بقوة مختلف الخرافات. بعد ترحيله عن ميورقه قضى ابن حزم سنوات حياته الأخيرة مع أسرته وأكثر من التأليف والتصنيف. وحسب رواية المؤرخ ابن كثير بلغت كتبه حوالى 400 مجلد ورسالة في قريب من 80 ألف ورقة. ترك ابن حزم تأثيره الكبير على مختلف المدارس الفكرية والفقهية والفلسفية والتاريخية في المشرق والمغرب. واعتمد عليه ابن باجه وابن طفيل وابن رشد في مسألة التوفيق بين الشريعة والحكمة، وأعجب الامام الغزالي بكتابه عن "أسماء الله الحسنى" فمدحه وقال انه وجد فيه ما "يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه". ويعتبر كتابه "جمهرة النسب" ويرجح انه وضعه في سنة 450 هجرية من أهم المصادر التي اعتمد عليها ابن خلدون في تاريخه وفي تنظيم معلوماته عن العصبية الاجتماعية. تعتبر ظاهرة ابن حزم من اللحظات المضيئة في تاريخ الفكر الاسلامي إذ جمعت الى السياسة والشعر والأدب تجربة غنية على المستويين الشخصي والفكري وقام بانتاج موسوعات اشتملت على الفقه والتفاسير، والسجال ضد "الملل والنحل"، ونقض المنطق اليوناني وتأسيس مشروعه الفلسفي. كذلك برع في العلم المقارن بين الديانات السماوية الثلاث اضافة الى تطويره لمنهج المدرسة الظاهرية فهو المؤسس الثاني لذلك المذهب معتمداً في ذلك على معرفة ضخمة للتاريخ والاحاديث النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهم ما في ظاهرة ابن حزم الاندلسي انها سبقت زمنياً ظاهرة الامام ابو حامد الغزالي في المشرق التي سيكون لها تأثيرها الانقلابي على مسار التطور الفكري الاسلامي. فالامام ابن حزم انهى مشروعه الفقهي - الفلسفي قبل ان يولد الغزالي. وعند وفاة ابن حزم في العام 456 هجرية كان الغزالي في السادسة من عمره.