} لعبت الانقسامات السياسية في الاندلس دورها الحاسم في اضعاف شوكة المسلمين وانتهى الامر الى قيام "دويلات طوائف" اخذت تتنازع مع بعضها مستخدمة مختلف اساليب الخداع وصولاً الى الاستنجاد بالفرنجة نكاية بالجار او انتقاماً عشائرياً من الاخ او ابن العم. واستغل الفرنجة تلك الانقسامات ففرضوا الجزية على "ممالك الطوائف" واستنزفوا ثرواتهم وأملاكهم وأرزاقهم ولعبوا على تناقضاتهم وعداواتهم حتى وصلت الدويلات الى حافة الافلاس وشفير الهاوية. وعند هذا الحد علت اصوات القضاة والعلماء والفقهاء تطالب بتوحيد "الممالك" في دولة مركزية واحدة والاستنجاد بقوات يوسف بن تاشفين دولة المرابطين لصد الهجمة الافرنجية. عاصر ابن الصائغ الطبيب الفيلسوف تلك الانقسامات وشهد لحظات التحول والانتقال من عصر الطوائف الى دولة المرابطين التي نجحت في تسجيل انتصار عسكري في الزلاقة ادى الى تأخير سقوط الاندلس عشرات العقود من السنين. فما هو عصر الطوائف وكيف رأى ابن الصائغ المعروف بابن باجة تلك التحولات؟ كانت الاندلس عشية وفاة ابن حزم في العام 456 هجرية موزعة على عشرات الأسر والإمارات، وبدأ ميزان القوى يميل للفرنجة، وأخذت ممالكهم تستقوي على أمراء الطوائف وتفرض عليهم الجزية وتصادر أملاكهم وأرزاقهم في وقت انصرفت جهود الأمراء على الاقتتال والتآمر ضد بعضهم وادعاء كل فريق انه يمثل الشرعية ويطلق على دولته "إمارة المسلمين" واحياناً كان يسمي صاحب الدولة نفسه بپ"أمير المؤمنين". لم يلحظ صاعد الاندلسي خطورة الوضع بسبب صغر سنه، كما ذكرنا، بينما راقب ابن حزم هذه التطورات كثيراً ودفع مقابل مواقفه الفقهية واحتجاجه السياسي الثمن الباهظ فاعتقل وطرد وشرد وحرقت كتبه. ولم يتوقف عن السخرية من هؤلاء الأمراء ودولهم، معتبراً ظاهرة التفكك والتشتت وتعدد "مراكز الخلافة" فضيحة سياسية ودلالة من دلالات إدبار أمر المسلمين في تلك الديار. فكتب في سنة 448 هجرية يهزأ من كثرة أدعاء أصحاب الدول بأنهم "أمراء المؤمنين"، فصاحب اشبيلية المعتضد بن عباد أدعى انه يدعم إمارة هشام المؤيد بعد 22 سنة من موت المؤيد، وصدّقه الناس وبايعوا "الخليفة" المجهول الذي لا يظهر للناس. وادعى صاحب الجزيرة محمد بن القاسم الحسني انه "أمير المؤمنين"، كذلك ادعى صاحب مالقة محمد بن ادريس، ومثله فعل صاحب سبتة ادريس بن يحيى. المراكشي، الجزء 3، ص 244. استمر عهد أمراء الطوائف 70 سنة. وبين عام 422 هجرية انهيار الدولة الأموية على الاندلس وعام 492 هجرية سيطرة دولة المرابطين على الاندلس ظهرت عشرات الدويلات برئاسة أسر استغلت تفكك الدولة المركزية وانشطارها فاستولت على مقاطعاتها وأعلنت استقلالها. فانتزعت الأسرة العامرية حلفاء المروانيين دانية والجزائر الشرقية بزعامة مجاهد العامري، واستولت الأسرة نفسها على بلنسية وشاطبة بزعامة مبارك ومظفر العامريين. واستولى خيران الفتى على المرية، ومنذر بن يحيى على سرقسطة، وابن جهور على قرطبة، وابن عباد على اشبيلية، وابن حمود على سبتة، وابن الافطس بنو مسلمة على غرب الاندلس، وابن هود الجذامي على لاردة، وابن حبوس الصنهاجي على غرناطة، وابن برزال الزناتي على قرمونة، وابن يفرن الزناتي على تاكرنا، وابن ذي النون على طليطلة، وابن رزين على شنتمريه. وتداخلت مناطق الامارات ببعضها وضاقت بأصحابها فدخلوا في صراعات دموية وصلت الى حد ارتكاب مجازر بلغت احياناً درجة الإبادة الجماعية. ولم تقتصر حروب الأمراء في حدود التنازع على المناطق وخراجها، بل تطورت مع الأيام بشن هجمات على المدن وتبادل السيطرة عليها لأسابيع أو أشهر ثم الانسحاب بعد تخريب العمران ومصادر الرزق، ثم تأتي قوة مضادة فتنتزع من السابقة مواقعها وتكرر الأفعال نفسها. وشملت الصراعات كل حالات الاقتتال الموروث من العهود السابقة، وانعكست تلك الموروثات على التحالفات. فقبيلة صنهاجة البربرية كانت تميل تقليدياً الى تأييد الدولة الفاطمية في مصر بينما ناصرت قبيلة زناته البربرية الدولة الأموية المروانية قبل اضمحلالها في الاندلس. وبسبب اختلاف الولاءات السياسية التقليدية بين صنهاجة وزناته كان من الصعب اتفاقهما على موقف موحد في ظل تفكك الدولة المركزية وانهيارها الى دويلات معزولة عن بعضها بعضاً. فاشتد الصراع القبلي بين صنهاجة وزناته مرتكزاً على توجهات عقائدية مختلفة فحصلت بين القبيلتين معارك تبادل فيها الطرفان هجمات أدت الى دمار قوتهما. وتكرر الأمر بين أمراء الأسر العربية فتقاتل اصحاب الدول تحت شعارات متضاربة زادت من تصادمهم العسكري واستنزاف قواهم السياسية. وفي ظل الصراع الداخلي المدمر كان لا بد من قوة خارجية تأخذ زمام المبادرة وتوحد الدويلات وتعيد انتاج دولة مركزية تحد من نفوذ الفرنجة وتقدمهم باتجاه الممالك المسلمة في الاندلس. آنذاك، وقبل وفاة ابن حزم، بدأ أمر الملثمين وقويت شوكتهم. ولم يتوقع امراء الطوائف ان نهايتهم السريعة ستكون على يد تلك القوة المجهولة التي صعدت من الصحاري المغاربية. قبل ان تتغلب قبائل لمتونة المرابطة على "أمراء الطوائف"، حاولت قوتان محليتان السيطرة على الموقف الاندلسي وانتزاع امارات أصحاب الدول وضمها الى بعضها لمواجهة تصاعد قوة الفرنجة ضد المسلمين، وهما دولة ابن هود الجذامي ودولة بني عباد اللخمي. ابتدأ أمر ابن هود في سنة 431 هجرية عندما تغلب أول ملوكهم المستعين سليمان بن هود الجذامي على مدينة لاردة وتنازع مع صاحب سرقسطة عبدالله بن حكيم فتغلب عليه وضم مدينته الى ملكه وسيطر على شرق الاندلس من سنة 436 هجرية. وبعد موته سنة 438 هجرية تنازع أولاده الحكم ونهض ابنه المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود للقيادة في مواجهة شقيقه يوسف. فاتصل أحمد بالفرنجة لمعاونته ضد شقيقه فتم الأمر واستقل بالإمارة في الثغر الأعلى من الاندلس بعد ان ضم طرطوشة الى ملكه. اتسعت دولة ابن هود وقويت شوكتها فخاف الفرنجة من طموحات أميرها فانقلبت التحالفات ودخل أحمد بن سليمان بن هود في صراعات عنيفة مع الفرنجة انتهت بسقوط مدينة بريشتر وحصول مجزرة بأهلها في سنة 456 هجرية. وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم. كشفت المذبحة عن بدايات التحول في الميزان العسكري بين الفرنجة والمسلمين. آنذاك أقدم النورمانديون على دخول المدينة وقتلوا 50 ألفاً وحرقوا المساجد والمتاجر والمكاتب. وسبب حصول المذبحة هو تنافس الشقيقين على ولاية المدينة. بعدها دب الحماس، فأعلن ابن هود الجهاد واسترد المدينة. وهو أمر رفع من شأنه بين المسلمين فقام بعدها بضم دانية الى إمارته واخرج منها صاحبها ابن مجاهد العامري في سنة 468 هجرية. وما كاد ابن هود يفرح بانتصاره حتى فتح الفرنجة جبهة عسكرية ضده اضطر في نهايتها الى قبول شروطهم والموافقة على دفع الجزية لملوك الافرنج. استمرت ولاية المقتدر بالله أحمد 36 سنة وتوفي سنة 474 هجرية فتولى ابنه المؤتمن، وكانت ولايته أربع سنوات وتوفي سنة 478 هجرية وتولى بعده المستعين بالله ابن هود وبقي الى حين ظهور دولة المرابطين. على موازاة دولة ابن هود نهضت دولة ابن عباد وكانت الأقوى بين ممالك الأندلس. وتنتمي اسرة ابن عباد الى رهط من لخم من أهل حمص في الشام تفرق في اقطار الاندلس بعد فتحها فنزل في غربها نعيم وعطاف الى ان تولى اسماعيل بن عباد من أولاد نعيم وعطاف قضاء اشبيلية في عهد حجابة ابن أبي عامر في قرطبة وبقي في مركزه الى وفاته سنة 414 هجرية. وتولى ابنه أبو القاسم القضاء بعده ثم استقل بها ابنه بعد اندلاع الفتنة وانهيار الدولة الأموية. وسرعان ما اندلعت الحرب بين اشبيلية وصاحب غرناطة ادريس بن حبوس فانهزم ابن عباد فتحالف مع صاحب قرمونة ابن عبدالله البرزالي ضد صاحب باجه ابن الافطس فاشتد عود اشبيلية وقوي نفوذها. وتولى الإمارة المعتضد بن عباد بعد وفاة والده القاضي سنة 433 هجرية فقام بالاستيلاء على غرب الاندلس وضم شلب الى إمارته، ثم برية ولبلة وشلطيش، وجبل العيون في سنة 443 هجرية. ودخل المعتضد في صراع مع المظفر بن الأفطس، ثم حارب أمراء غرب الاندلس ابن يحيى، ابن هارون، ابن مزين، والبكري وقام بالاستيلاء على قرطبة وضمها الى ملكه في سنة 457 هجرية. بعدها حارب صاحب الجزيرة القاسم بن حمود، واستولى سنة 458 هجرية على قلعة اركش وسائر بلاد شذونة. برزت دولة المعتضد كقوة مركزية بين أمراء الطوائف واستمر والياً عليها الى وفاته سنة 461 هجرية فورثه ابنه المعتمد بن عباد في السنة نفسها وحاول اعادة توحيد إمارات الاندلس في دولة واحدة على غرار ما كانت عليه في العهد الأموي فضم خراج سبته في الاندلس الى إمارته في سنة 465 هجرية، لكنه فشل في مشروعه التوحيدي بسبب الانقسامات المحلية وبروز الفرنجة كقوة عليا في الاندلس في وقت ظهرت دولة المرابطين في المغرب. آنذاك امتدت شوكة الملثمين من جنوب المغرب وصولاً الى الحدود المتاخمة لبلاد السودان صعوداً الى تلمسان وامتداداً الى ساحل البحر المحيط الاطلسي، بعيداً عن تنافس أمراء الطوائف ورقابتهم. ولاقت حركة المرابطين الدعم من مركز الخلافة العباسية في بغداد وقام العلماء والفقهاء بتشجيعها كقوة توحيدية في منطقة تعرضت الى انقسامات خرجت منها دويلات استفادت من النزاع العباسي - الفاطمي على بلاد الشام والنزاع العباسي - الاندلسي على المغرب، فأثارت الاضطرابات واضعفت هيبة المركز وقطعت صلته بالأطراف. فمن هي تلك القوة التوحيدية الصاعدة؟ * كاتب من أسرة "الحياة".