تشعر وأنت تقرأ رواية "خافية قمر" لمحمد ناجي بأجواء اسطورية غريبة تتأسس على واقع أغرب. فالأشخاص منزوعة من أمكنتها ومن أزمنتها، حتى لا تعرف على وجه التحديد أن تدرج وقائع الرواية في جمل مفيدة. لكنك تلتقي بأناس تشعر برابطة قربى تشدّك إليهم، وتصادف حوادث تحيلك الى جزء من واقعك. ورغم الإحالات الكثيرة الاخرى إلى عالم الاسطورة يمكن لك أن تتعرف إلى نفسك بينهم، وعلى واقعك، وأن تكشف من خلال الهروب الى الاسطورة واقعا مستلبا ومتشيّئا. فمع رؤية محمد ناجي كراوٍ متخفٍ في إهاب "عبد الحارس" بطل راوية الحدوتة، تتأسس الرواية على مجموعة من الحوادث الخرافية التي حدثت لبطلنا عبد الحارس والتي يأتي الينا - عبر ما يشبه آله الزمن - بها ليسرد اساطير الزمن الماضي وليبحث في عيون رفقاء الزمن الحاضر عن أصله ونسبه فلا يصل الى شيء سوى الاتهام بالجنون. إنها إدانة للزمن الحاضر ودلالة على أن هذا الزمن يحمل من الاساطير والخرافات ما يفوق اساطير الماضي وخرافاته. وفي الرواية تختلط الازمنة لتنتج عبر اختلاطها زمناً خاصاً يجمع هوامش حكايته من قصاصات الأزمنة الغابرة والقديمة والحديثة فيلتقي الملك ادريس البكاء بقمر ويتزوجها، ثم تتماهى قمر في سلمى فلا يعرف "عبد الحارس" من هي امه على وجه التحديد، ومن هو ابوه كذلك. هل هو زوج سلمى عبد القهار المجروح والذي نصبه الوجدان الجمعي شيخا له كرامات ام زوج قمر الملك ادريس البكاء؟ ومن خلال العرض المسرحي الذي استلهم حوادث الرواية وعالجها مسرحياً واخراجياً بطريقة التكنيك السينمائي يعتمد تتابع المشاهد وحيويتها، قام سامح مهران بطرح رؤيته الفسلفية والفكرية تجاه الواقع المعاصر. اللحظة الدرامية - قراءة ثانية: الخيال الروائي محدود بمدى قدرة المتلقي على اطلاق العنان لخياله. أما الخيال المسرحي فمحدود بثلاثة أبعاد هي أبعاد خشبة المسرح. لذا فالإعداد المسرحي للرواية يلجأ الى مجموعة من الخيارات والحلول الدرامية، وهو ما نتج عنه تخلّي المعد/ المخرج/ سامح مهران عن كثير من التفصيلات. فلم يركز على جزئيات كثيرة منها البنية الشكلية للرواية والتي تعتمد على حكي عبد الحارس لأصدقائه وخصوصاً صديقه "بن الزباء"، ولم يركز ايضا، وهذا الاهم، على مفردة "العتمة" التي تترجرج في انحاء الرواية وتتأسس عليها بنيتها. ولكنه التقط من حوادث الرواية ما يقيم اود الدراما ويسبر غور جوهرها من احالة كل الحوادث الدرامية الى بنية ميتافيزيقية أسس عليها كل مشاهده. بنية المشهد المسرحي: وبهذا اصبحت معظم المشاهد المسرحية تحتوي على منحيين: ادانة لشيء واقعي واحالة لشيء اسطوري. فالمشهد الاول مثلا يقدم ادانة للفن السلبي وللمجتمع المغيّب غير القادر على التغيير. وتحيل رؤية المشهد عبر هذا الشخص القادم من الزمن البعيد "عبد الحارس" وما يحكيه من خرافات الى خرافة لا يملك معها رواد الحانة الا السخرية منه، وهكذا في بقية المشاهد الاخرى كمشهد عبد الحارس مع الطبيب المعالج الذي يجن في اخره عندما يطلب اليه عبد الحارس تغيير الادوار ولو لفترة قصيرة. وكذلك هو الأمر في مشهد زوجات المجروح المتهدلات الاجسام كنتيجة منطقية لتهدّل وتهرّؤ البنية الاجتماعية المنتسبات اليها، وما الى ذلك مما يطعّم الواقع بالاسطورة ويشرخ حقيقة هذا الواقع من خلال إزاحته الى عالم الاساطير، مؤكدا على ما اكدت عليه الرواية من تحميل هذا الواقع الآني أساطير وخرافات انقرضت وباد عصرها، أو مؤكداً بطريقة اخرى ان اساطير الواقع الآني هي اساطير الخراب والدمار والانتهاكات السياسية والاقتصادية. التحوّلات ومما يؤكد هذه الردة عملية تبادل الادوار بين الطبيب - وهو ما يفترض فيه العقل الخالص - وبين عبد الحارس - وهو ما يفترض فيه الجنون -والتي يتكشّف فيها خلل مكانة كل منهما وكون الوضعية الصحيحة لكل منهما هي ما تحولا اليه، وهو ما من شأنه ان يفضح زيف التركيبة الاجتماعية السائدة ويهدم تسلطها ويحيله الى تسلط نابع من الخواء لا من أحقية فعلية مستحقة له ومستخدمة اياه استخداماً صحيحاً. ومن خلال هذا الكشف الذي تحوّل بفعله الطبيب الى مجنون ليقتسم مع عبد الحارس جنونه تطفر رغبة دفينة من اعماق الطبيب لأن يشارك عبد الحارس مصيره المسوق اليه، وهو ما يقدم عليه المعدّ كإضافة مفسرة - لها مردودها في اجواء الرواية - لكي يمسخ الوضع الاجتماعي من خلال مسخ شخصية الطبيب وشخصية عبد الحارس بأن يحوّلهما الى دودة لها رأسان هما رأساهما وجسد واحد هو جسدهما معاً- او لنقل هو جسد المجتمع الممسوخ والمتهرىء والذي لا ينتج الا مسوخاً مشابهة له، تتحسس طريقاً لا تعرفه لأنها محاطة بكل انواع الحصارات المادية والمعنويّة. اللحظة المسرحية - قراءة ثالثة: صاغ سامح مهران عرضه من قراءة بعض اللحظات الدرامية وتهجئتها . وقد أكد على حيوية اللحظة المختارة من خلال تثبيتها والتعرف إلى تفصيلاتها، وأبعاد شخصياتها. فعبد الحارس مازال في رحلة بحثه عن نفسه مستمعاً لكل الآراء لذلك جعله مهران ذا أذن كبيرة جدا، كما جعله يستمع حتى للحكايات الاسطورية تلك التي تحكيها له فانولا صاحبة البار عن اساطير اليونان والتي تتلامس مع حكايته هو من انه ولد من جرح عبد القهار كما ولد ديونيزيوس من جرح زيوس الأسطوري. واللحظات المختارة تتفق في عموميتها بحيوية الاضافة وحيوية المعنى الاسطوري والواقعي، وكذا حيوية الانتقال والتتابع في كثير منها لولا هذه الاظلامات الكثيرة بين فواصل المشاهد المسرحية والتي كان من الممكن الاستعاضة عنها ببدائل إخراجية اخرى وبعمل تلخيصات ديكورية للعديد من الاماكن - تلخيصية واقعية - تتنقّل بينها المشاهد وتفصل بينها الاضاءة والموسيقى والملابس وما الى ذلك. بذلك كان يمكن اختصار الكثير من الوقت والجهد وتثبيت اكثر من لحظة وتسريع إيقاعات المشاهد. ترميزية الانساق السينوغرافية: اما اذا ثبتنا كادراً مسرحياً، وحاولنا قراءة انساقه كأحد الكادرات في مشهد حانة فانولا مثلا، فسنجد ان الاضاءة تتنوع ما بين الانارة- على فانولا تحكي وعبد الحارس يستمع في يسار المسرح- وما بين التكوينات اللونية الجمالية في يمين المسرح في مشهد زيوس وسيمليه. والمشهدان يتجاوران ويتوازيان ويتزامنان في احداثهما ثم تتغير وضعية الاضاءة على كل منهما ما بين لحظة واخرى. كذلك الموتيفات الديكورية المختارة التي لخصت الاماكن في واقعية، سواء كانت هذه الاماكن واقعية بالفعل "كالخمارة" او اسطورية كمعبد زيوس. وايضا تنوعات الملابس ما بين عصرية لعبد الحارس وقديمة لعبد الغفار وفانولا ومغرقة في القدم لزيوس وسيميليه واخواتها. هذا التلاقي ما بين القديم والمعاصر، الاساطير والوقائع، النوم واليقظة، يملأ اللحظة المسرحية بالخصوبة ويسقط الحدث على عموم الحالة الانسانية غير المرهونة بزمان ولا بمكان والتي تكتنفها الاساطير، وتعشش فيها رواسب الاحلام المجهضة.وما يؤكد هذا المنحى تواجد عبد الحارس صغيراً وكبيراً داخل المشهد نفسه، ومحاولة عبد الغفار لأن يبعد شبح هذا التسلط الاسطوري عن عبد الحارس صغيراً بصفعه لعبد الحارس كبيراً، وكأنه يقتل فيه محاولات الاسطورة والخرافة للامتداد والتوغل في داخله. وبذا تكون اضاءة شريف البرعي ، وديكورات وملابس ناصر عبد الحافظ قد اتمت مع استعراضات عماد سعيد القليلة والتي كان أهمها درامياً استعراض الدفوف والذي ربط فيه الراقصين بالحبال بعضهم الى بعض - دلالة القهر والكبت وفقدان الحرية حتى في الحركة، قد اتمت معاً الحال الشعورية، وتأطرت هذه الحالة بأشعار كوثر مصطفى الرقيقة وموسيقى فتحي الخميسي التي اعطت لدراما العرض خلفية شاعرية حالمة ومؤثرة والتي كان من الممكن توظيفها اخراجياً بقدر اكبر، خصوصاً في فواصل الانتقالات المشهدية وتغييرات الديكور لتستمر حالة التلقي معها متوهجة دون قطع لها. الممثل - الدور - الشخصية: داخل منظومة الرؤية الإخراجية رأى سامح مهران ان يقوم الممثل بأكثر من دور. في ذلك استمرار لحالة الحيوية داخل النص الدرامي وتأكيد على امتدادات الحالات الشعوية العامة التي يبثها العرض في متفرجيه. كما إنه يدلّ على موهبة ممثليه ومقدرتهم على تشخيص اكثر من دور في عرض واحد وتفرقتهم بين الحالات الشعورية المختلفة خصوصاً في سياق منهج الصدق الفني الذي اختاره المخرج للاداء. ظهر ذلك مع عبدالقادر منلا في ادوار العواد، الطبيب، الوزير برهان واستطاع تأدية كل منهما بطريقة محتلفة تماماً حركة وصوتاً واشارة وايماءة. لعب شخصية الطبيب بهدوء اعصاب وتماسك وصوت جهوري قوي بينما لعب دور الوزير برهان كما لو كان دمية عرائسية تحافظ على انحناءة صغيرة اثناء حركتها. وظهر أمجد عابد في دوري الملك ادريس والعم عبد الغفار وحقق نجاحاً كبيراً في اداء كل منهما حيث تلبس حالة الملك بهذره واحباطاته وبساقه الخشبية وذراعه الحديدية وما تقتضيه هذه اللوازم من نوعية خاصة في الاداء، وهو ظهر بشخصية مختلفة تماماً عند ادائه الواقعي لدور عبد العفار. وظهر خالد الخربوطلي في ادوار عبدالفتاح، المجروح، الشيخ شاهين ولعل أهمّ هذه الادوار دور الشيخ شاهين الذي اداه بمقدرة عالية وحمّله بطاقة كوميدية لاقت قبولاً كبيراً. وكذلك تميزت كل من نورا أمين في دور سلمى الذي ادته بتلقائية شديدة ومن دون تكلف، وكذلك لقاء الخميسي في دوريها قمر وفانولا، وخصوصاً دور فانولا والتي حافظت فيه على كل ملابسات الشخصية اشارات، ايماءات، وخصوصاً الاداء الصوتي. وكذلك نهاد ابو العينين في دور "ام اليسر" وهادي محمد "عبد الحارس صغيرا" محمد فوزي "عبد الحارس كبيرا" ووائل خليل "مشاعلي" وايضا رجب سيد، وهشام عبدالسميع، واشرف حسن في ادوار برعي، حسنين، فاضل. مقاربة لاقتناص مَخْرَج: بهذا تتأسس الرؤية الكلية لدراما - عرض خافية قمر والتي ظهر كل مشهد منها كصورة شعرية تتجادل فيها عوالم الواقع مع عوالم الاسطورة، تشتبك، تفترق، تتماهى، تنسحق، ثم لا تلبث ان تعود من جديد، فتنجلي من خلال ذلك واقعية الاسطورة، وتظهر اكثر انجلاء اساطير الواقع - وخصوصاً الآني منها، ثم تترى الصور متدافعة لتكوّن فيما بينها رؤية كلية للوحة شعرية مليئة بالتفصيلات الكثيرة، تلك التي تأخذ على عاتقها جمع اشلاء صورة الواقع المتناثرة والمشوشة