التقليب في خزائن الأجداد بحثاً عن قديم يلوّن جديدنا لم يعد يعني في بيروت أن تقصد سوق "العتق" في محلة البسطة، فقد صار ل "الانتيكا" في لبنان تجارتها المزدهرة ومعارضها الموسمية. "سوق البرغوث" واحد من هذه المعارض يجمع تجار "الانتيكا" من مختلف المناطق ليحتل في مثل هذا الشهر من كل عام حيّزاً من قلب العاصمة حيث عمليات الترميم لما سلم من أبنية القرن الماضي وبدايات هذا القرن تتواصل على مدار الساعة، مشكّلة ديكوراً طبيعياً لمعروضات شاخت وأخرى أعيد تجديد شبابها، ومعظمها من عمر هذه الأبنية أو أقدم بقليل، منها الشرقي والفرنسي والانكليزي، فيصبح الماضي حاضراً أمامك بكل ذكرياته القريبة. وإذا كانت "الهنغارات" التي بنتها شركة "سوليدير" في بداية انطلاقة عملها في منطقة الأسواق شكّلت لسنوات مَضافة لسوق البرغوث وغيره من المعارض في خطوة ناجحة لجذب اللبنانيين مرة جديدة الى وسط العاصمة بعدما طردتهم منها الحرب، فإن السوق تمردت هذا العام على الجدران الحديدية ونثرت بضائع تجارها على الأرصفة وفي المحال المرممة في شارع "فوش" في ما يشبه افتتاحاً رمزياً لمنطقة "اللنبي - فوش" التاريخية التي استكمل فيها أعمال الترميم المالكون الجدد للعقارات وفق شروط فنية صعبة وينتظر افتتاحها رسمياً الخريف المقبل. لكن سوق البرغوث واللقب هنا نسبة الى العملة القديمة النصف قرش وكان يطلق عليه اسم البرغوث لتدني قيمته الشرائية ليست لزبائن الحد الأدنى للأجور كما يشي الاسم. فالكل يرطن بالفرنسية أو الانكليزية على رغم لبنانيتهم كحال المعروضات المستوردة من بلدي اللغتين. والأسعار هنا ليست بالعملة اللبنانية ولا بالفرنك الفرنسي أو الجنيه الاسترليني انما بالدولار الأميركي. ويقول عضو لجنة تجار "الأنتيكا" فيليب الضاهر ان رواد السوق من مختلف الطبقات والثقافات، ولكن يمكن تصنيف الزبائن ثلاثة أنواع: فهناك حديثو النعمة أو "النوفوريش" الذين يقصدون السوق للاستطلاع فقط، لأنهم لا يقتنون في منازلهم سوى ما تنتجه الكاليريات التجارية، ويدّعي بعضهم معرفته بقيمة المعروضات لكنه لا يعرف على نقيض المثقفين والمتمسكين بحضارتهم وهؤلاء زبائننا الذين لا تغشهم الموضة البراقة بل يعرفون ماذا يشترون، وقد يضيفون الى معلوماتك معلومات جديدة عن قيمة القطعة التي يودون شراءها أو يطلبون منك تزويدهم معلومات اضافية يجهلونها. وهناك نوع ثالث هو الشباب الذي لا قدرة له على شراء القطع الباهظة الثمن فيغني النفس بما هو بالعشرين دولاراً أو ثلاثين. تتوسط شارع فوش دكاكين خشبية شُيدت للمناسبة. وقد فاضت محتوياتها الى أرض الشارع نفسه المرصوفة بحجارة "بازالت"، لا بالزفت. بعضها شهد على الحرب والبعض الآخر استقدم من الخارج لاستكمال الصورة القديمة للشارع الذي يعود فن عمارة أبنيته الى حقبة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هنا تجد السجاد والكريستال والفضيات واللوحات والكراسي الخشبية والطاولات والأسرّة والثريات وكل أنواع الأثاث الذي تنبعث منه رائحة بيوت ارستقراطية هوى اصحابها فصارت مقتنياتهم الشخصية مشاعاً يشتريها من يدفع أكثر. لكم تستوقفك في السوق معروضات تدفعك الى شهقة ندم، لأنك تتذكر ان ثمة ما يشبهها كان ملكاً لك الى زمن غير بعيد حين قررت التخلص منه بأبخس الأثمان لأنه لم يعد يجاري طبيعة حياتك اللاهثة وراء الحداثة أو لأن عينيك ألفتا رؤيته فلم تجد له مكاناً الا في عليّة المنزل. ولكن ليس كل ما يعرضه تجار الأنتيكا هو قديم حتماً، يقول السيد الضاهر ان تسعين في المئة من اللوحات المعروضة للبيع على اعتبار انها أصلية وقديمة هي مزورة بامتياز، "والفضل" يعود الى "اللايزر" الذي يمكنه نسخ أشهر اللوحات بدقة متناهية. ويضيف ان في سوق الانتيكا في لبنان "الكثير من البضاعة المنسوخة عن القديم ويتم تعتيقها وبيعها على أساس انها انتيكا. وهذه البضائع تجلب من مصر وأندونيسيا". أما اللوحات المزوّرة فتأتي من الصين بعدما كانت تأتي من أوروبا الشرقية، وقريباً قد يتم استيراد مثل هذه البضائع من فيتنام. ولا يستغرب الضاهر عمليات التزوير الجارية. فالرومان كانوا يقلدون اليونانيين، والتزوير هو ثاني اقدم مهنة في التاريخ! في لبنان يناهز عدد تجار الأنتيكا ال600. واللافت منافسة السيدات للتجار الذكور على هذه المهنة، ونشطت خلال السنوات الأخيرة تجارة الشنطة والبيع في المنازل التي تحوّل بعضها الى صالات عرض، ما يدفع التجار الى التخوف من اتجاه هذه التجارة نحو الخسارة بعد تكاثر مزاوليها وغياب الحماية المطلوبة لهم. فقد كان تجار "الأنتيكا" منضوين في نقابة تجار الاثار التي كانت تحمي مهنتهم. لكن الدولة اللبنانية منعت تجارة الآثار منذ حوالى عشر سنوات، فأصبح تجار الأنتيكا يعملون من دون غطاء وتُعتبر تجارتهم تجارة تحف ومفروشات. وهي تخضع لرسوم جمركية تقديرية بعدما كانت قبل ثماني سنوات ضريبة مقطوعة. ويقول تاجر "الأنتيكا" علي حسن ان الضريبة قد تصل الى 75 في المئة من القيمة التقديرية للقطعة التي يضعها خبير الجمارك في حين ان الضريبة على الأنتيكا في أوروبا لا تتجاوز الاثنين في المئة. ويعتبر الضاهر ان ما يربحه لبنان من تجارة الانتيكا يخسره على المدى الطويل، "فوضع عوائق امام الاستيراد لا يشجع السائح الأجنبي على شراء الأنتيكا من عندنا لأنها أغلى ثمناً مما هي عليه في الخارج". وتقتصر تجارة الأنتيكا على الزبائن اللبنانيين، وهي تقوم - بحسب التاجر حسن - على بيع ما قيمته مئتا دولار أو ثلاثمئة لا أكثر، وذلك كمعدل وسطي. في سوق البرغوث ثمة دكان لا يخلو من الزبائن يُعرف ب"دكان أبو وليد" وهو من هواة جمع الخردة القديمة، لا محل لديه لكنه ينتهز فرصة المعارض لعرض بضاعته التي لا تكسد، فهي من مخلّفات البيوت التي تأبى الاحتفاظ بها كالمفاتيح القديمة الصدئة أو فراشي الأحذية التي تعود الى مئة عام، أو قناديل كاز أكل الدهر عليها وشرب، وصحون وشوك وملاعق وقطع من ثريا قديمة أو قبضة خزانة وبقايا أقداح وحجارة وقطع فلين. "أبو وليد" لا وقت لديه للتحدث. فالكل يناديه بالإسم سائلاً عن ثمن "غنيمة" التقطها قبل غيره، يثير دهشة المارة والتجار من حوله، لكنه بالتأكيد الدكان الأكثر شعبية في سوق البرغوث، في شارع فوش الذي... ربما لن يعود بعد اعادة افتتاحه، شارعاً لتجار الأغذية يقصده زبائن مثل زبائن "أبو وليد"