ينتقل فيلم "ويل هانتينغ الطيب" *** من خمسة فجأة من الحديث في معاناة نفسية لشاب اسمه ويل هانتينغ - ويقوم بدوره مات دامون - إلى الحديث في السياسة. المناسبة أن الشاب الذي يمتلك، على رغم معاناته، قدرة حسابية فائقة يستلم خطاباً من ال "سي اي ايه" لإجراء مقابلة بهدف تعيينه فيها للاستفادة من موهبته الخاصة. تبدأ المقابلة عادية وفي جو لطيف. فالموظفان اللذان يجريانها معه رجلان غير مميزين ولطيفان... إلى أن يرفض الشاب الوظيفة. وفي تبريره للرفض ينطلق متحدثاً بنبرة قوية مهاجماً دور الولاياتالمتحدة في العالم، متسائلاً كيف يمكن له أن يقبل وظيفة في مؤسسة تعمل لخدمة دولة تريد شن حرب في الخليج لكي تؤمن وصول النفط بسعر زهيد حتى يرضى عنها الناخب؟ وكيف له أن يشترك في مؤسسة تعمل على فرض سيطرة السياسة الأميركية على العالم التي تؤدي إلى تجويع الناس العاديين؟ خلال حديثه، الذي يستمر نحو 45 ثانية، تسنى لي الوقت لأن "أحسد" السينما الغربية عموماً، على الحرية المتاحة لها، التي تسمح بما هو أكثر من هذا النقد المباشر. تسمح بتناول الحياة الشخصية لرئيس الجمهورية نفسه. لكن الأهم من ذلك، أنه اتيح لي لكي أقدّر هذا المفهوم الجريء والمختلف عن معظم ما يرد في باقي الأفلام الأميركية الجادة منها والترفيهية. خلال هذه الرسالة المباشرة تركز الكاميرا لا على انفعالات رجلي الوكالة ولو ان هناك لقطة مبكرة لهما، بل على وجه بطل الفيلم دامون في لقطة متوسطة قريبة من الصدر إلى الوجه نكتشف بعدها ان المكان قد تغير عندما تنتقل الكاميرا لكي تشمل طبيبه النفسي روبين ويليامز ذلك ان ويل هانتينغ الآن يعيد ما قاله للموظفين الإداريين على مسمع من طبيبه. في ذلك يستخدم المخرج غس فان سانت اسلوباً قام به قبله المخرج جون سايلز في فيلمه الرائع "النجمة الوحيدة" عندما كان ينتقل بين الأزمنة بإدخال الشخص في فعل يقع في زمن اليوم ثم تتراجع الكاميرا عنه، أو ترتفع عنه، لكي نكتشف ان الحدث قد انتقل إلى سنوات سابقة. في هجومه على سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية يختلف "ويل هانتينغ الطيب" عن هجوم أفلام أخرى من حيث أنه لا يتولى نقدها لأنها لم تطح صدام حسين، بل ينقدها لأن ما تقوم به هو شرير في حد ذاته ومعاد للشعوب. في ذلك الموقف اختلاف كبير، لأن فيلم "هز الكلب" ** من خمسة مثلاً، قرر أن يغير في أحداث رواية لاري باينهارت التي صدرت في العام 1992 مباشرة بعد حرب الخليج، تحت عنوان "بطل أميركي"، وفيها نقد لذات السياسة التي أدت إلى - وحسب الكاتب - افتعال حرب عبر دعوة العراق لاكتساح الكويت ثم مجابهته عسكرياً عبر شن حرب عسكرية استخدمت إعلامياً بمهارة من أجل إعادة انتخاب جورج بوش. الفيلم الذي انبرى إليه باري ليفنسنون يستبدل حرب الخليج بحرب مع البانيا وينقل الأحداث إلى زمن حالي ورئيس غير معلن نراه عابراً، لكن الرسالة ذاتها وهي ان أميركا مستعدة لافتعال حرب أو تزوير واحدة غير موجودة من أجل ضمان إعادة انتخاب رئيس وانتشاله من فضيحة ما جنسية في الفيلم. وحسب بعض الأخبار، فإن العراقيين تمتعوا بمشاهدة الفيلم بعدما تم تهريب نسخة على الأغلب مقرصنة بثت على التلفزيون. لكن تصور لو أن صانعي الفيلم شركتا "بالتيمور" لداستين هوفمان و"ترايبيكا" لروبرت دي نيرو، وكاتب السيناريو ديفيد ماميت والمخرج ليفنسون التزموا بالرواية الأصلية. بتحويل الأنظار من العراق إلى البانيا تم نقل الفيلم من عمل نقدي إلى عمل نقدي - بصفة مراوغ. وبذلك حافظ على موقعه في السياسة الأميركية الحالية حيث حرب الخليج معفاة من النقد. إلى ذلك، فإن النهاية تجيّر المسألة كلها إلى شخصية المنتج اليهودي موس داستين هوفمان الذي كان اشترك في تنفيذ عملية الايحاء بوجود حرب قائمة بين أميركا والبانيا. فجأة يريد موس أن يفرح بقدرته المتمثلة على خداع الرأي العام وإسهامه غير المحدود في انقاذ ولاية الرئيس الثانية، لكن برين دي نيرو الذي جلب المنتج إلى المشروع يحذره من مغبة ذلك، إلا أن إصرار المنتج على ذكر الحقيقة يؤدي، كما يوحي الفيلم بقوة، إلى اغتياله. رشيد الحلبي في الفيلم الجديد "صعود مركوري" **، أو سمه إذا شئت "هبوط مركوري"، إذ أنه انطلق ضعيفاً في عروضه التجارية ثم ضعف باستطراد بعد ذلك، هناك وجه آخر للموضوع نفسه حيث ينطلق الفيلم من مبدأ نقد أجهزة الحكومة، لكنه يؤيد السياسة الأميركية طالما أنها موجهة ضد دولة عربية هي العراق. في الظاهر كتب لورنس كونر ومارك روزنثال فيلماً من النوع التشويقي يقوم على قصة صبي يعاني من عضال في المخ يمنعه من الحياة الطبيعية، لكنه يكشف عن ملكة غير طبيعية، إذ يستطيع أن يحل أي لغز حسابي ولديه ذاكرة كبيرة في هذا العالم شيء مثل داستين هوفمان في "رجل المطر". هذا الصبي يتوصل إلى فك شيفرة سرية لم يكن من المفترض أن يطلع عليها أحد. اليك بولدوين، رئيس جهاز استخبارات عسكري خارجي، يقرر أن قتل الصبي وعائلته هو الحل الوحيد لمنع انتشار السر. ويدخل قاتل محترف بيت العائلة ويقتل الأب والأم، لكن الصبي يختبئ في خزانة ملابسه. يقفز إلى الصورة بروس ويليس كمحقق يحاول معرفة سر الجريمة المروعة، فيكتشف مكان الصبي الذي من يستحيل التواصل معه. القاتل المحترف لا يزال يواصل محاولات اغتيال الصبي، وبروس يحميه، فينفعل اليك بولدوين. ويمضي الفيلم بين كر وفر ساذجين حتى النهاية. لكن السر الذي يكمن في تلك الشيفرة ليس ساذجاً: إنها شيفرة لسر مخابراتي مفاده ان هناك عراقياً اسمه رشيد الحلبي طبعاً لا يهم كثيراً لدى صانعي الفيلم ان عائلة الحلبي ليست عراقية تم زرعه في الحرس الخاص للرئيس صدام حسين على أساس أن يكون رأس الحربة في اغتيال الرئيس العراقي. بما أن الرأس المدبر للخطة بولدوين شرير لا يتورع عن قتل الأبرياء، فإن القضية التي يتولى الفيلم شرحها هي أنه لولا العراقيون لما وقعت مثل هذه الجرائم، وأنه بسبب العراقيين ومصلحة أميركا - الخاطئة - معهم يتم التضحية بالأميركيين الأبرياء يقع خمسة قتلى رئيسيون في أحداث الفيلم ويتعرض عشرات آخرون للموت! البطل المتدرج هوليوود اليوم ليبيرالية تماماً، لكنها ليبيرالية غير متحررة من اليمين الأميركي، تماماً كما هو حال العهد الرئاسي الحالي. إنها تنتج أفلاماً دفاعاً عن الشاذين جنسياً وتطلق أبطالاً هم أنصاف رجال إذا ما قورنوا بأبطال السينما الكلاسيكيين وشخصياتهم، وتتعامل مع قضايا المجتمع بتحرر مثالي، لدرجة أن المسائل الأساسية في اخلاقيات العائلة الأميركية باتت مهمشة، مسائل مثل التربية والنشأة الدينية وحب الوطن كعائلة واحدة، وهي مسائل غير محببة من شأنها أن تؤدي - كما في حال فيلم "ساعي البريد" لكيفن كوستنر - إلى رسالة وطنية خالصة ذات لون واحد. لكن ابتعاد هوليوود عن المعسكر اليميني، كما في هذه الأفلام المذكورة وفي العديد غيرها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة على الأقل، ابتعاد منتقى: طالما ان الغاية لا علاقة لها بالقضية العربية - الأميركية، فإنها مبررة. موقف مجتزأ مثل موقف جين فوندا اليساري خلال الحرب الفيتنامية الذي لم يمنعها من تأييد إسرائيل في حربها ضد العرب. لكن أفلام اليوم، في مجملها، ليست أفلام اليسار ضد اليمين، بل ليس فيها ما هو يساري أساساً. إنها أفلام تتدرج في اليمين نفسه، مع عدد أكبر من الأفلام يصب في خانة الليبيرالية من تلك التي تصب في خانة اليمينيين المتشددين. لكن أينما كان موقع ذلك اليمين، فإن المسألة العربية - باستثناء فيلم "ويل هانتينغ" - مبتوت بها على أساس أن العرب معادون للولايات المتحدة. صحيح اننا لم نعد نراهم كذلك كثيراً، لكن الملاحظ أن أشرار الأفلام يتعاملون عادة مع منظمات أو شخصيات عربية معادية لأميركا وإسرائيل، وإذا لم تكن عربية، فهي إسلامية مثل إيران التي تنوي الحصول على صواريخ نووية من ضابط روسي ينفذ جرائم قتل في سبيل الحصول على عشرة منها وبيعها إلى إيران. يتعامل الفيلم مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة ضمن النظام الجديد. يحاول أن يواجه عدداً من العمليات الارهابية الناتجة عن التحول الحاصل، والتي لم تكن لتقع لو بقي العالم على حاله: من ناحية، هناك عملية بيع تسعة صواريخ لإيران، فتتدخل الولاياتالمتحدة من دون أن تنتظر الاذن من السلطات الروسية، لقصف الشاحنة التي تنقل الأسلحة، فتواجه تدخلاً روسياً مشروعاً بقوة لإسكاته. ومن ناحية أخرى، نرى ذلك الصربي في البوسنة الذي يلوم الأممالمتحدة على موقفها الذي أدى إلى قتل عائلته! وعلينا أن نسأل هنا: لماذا كان على هذا الرجل أن يكون صربياً وليس مسلماً، خصوصاً أن المسلمين كانوا الضحايا الحقيقيين للموقف المتخاذل للأمم المتحدة كما للغرب بأسره؟ يتحاشى كاتب السيناريو مايكل شيفر إثارة القضية على هذا النحو، لأنه يعلم أنه لن يستطيع تقديم شرير مسلم للرأي العام الذي شعر بتعاطف شديد مع الوضع البوسني، لكنه في المقابل يحيد الموقف الأميركي تجاه تلك الحرب ويلقي بالتبعية على الأممالمتحدة وحدها، وبذلك ينقذ الفيلم من أي نقد ذاتي. اشكاليات سياسية "سلاح الجو واحد" يقع في اشكالية مماثلة، انه النظام الروسي الجديد الذي تؤيده السياسة الأميركية هو الذي يسبب لها المتاعب. تلكؤ الرئيس الروسي في معالجة وضع متفاقم يهدد حياة الرئيس الأميركي هاريسون فورد الذي يتحول إلى مدافع مثالي عن النفس عندما يتعرض للخطر، كما لا يحسن أي رئيس أميركي أن يفعل، وذلك بسبب خلفيته في الحرب الفيتنامية. وفي حين ان هذه الخلفية التي كانت محط انتقاد في أفلام السبعينات تنتج بطلاً مغواراً، إلا أنها تأخذ على عاتقها مساعدة الفيلم على تجاوز معضلة المسائل المطروحة في الخلفية مثل مطالبة البعض بعودة النظام السوفياتي لسابق عهده. هؤلاء هم أشرار الفيلم، ورسالتهم تبقى في نطاق خلفي، كاستخدام وظيفي لما يدور في المشهد الأمامي. الفيلم الجديد "مارشالات الولاياتالمتحدة" لا يتعامل مع السياسة الخارجية مطلقاً، لكنه على رغم ذلك، يقع في تناقض طريف، في سعيه لتقديم ممثله تومي لي جونز بصورة تخوله بطولة تقليدية، يصوره على أساس أنه مارشال أميركي جريء يعمل لصالح ال "اف. بي. آي" مكتب التحقيقات الأميركية الفيديرالي، ويجسد العناد والدقة في مطاردة المشبوهين. هذا أمر جيد، إلى أن ندرك أن المشبوه بريء من التهمة الموجهة إليه قتل موظفين من المخابرات الأميركية ويقوم بدوره ويزلي سنايبس. إنه الجزء الثاني من "اللاجئ" الذي شاهدنا فيه المارشال نفسه يلاحق متهماً بريئاً آخر هاريسون فورد. لكن هناك كان فورد النجم الأول ما جعل المحور أكثر أهمية: كيف سيبرهن فورد عن براءته وهو مطارد على هذا النحو والأدلة مجتمعة ضده؟ هنا المطارِد هو النجم الأول، والمأزق ليس فقط في أنه على خطأ مرة أخرى في مطاردته متهماً بريئاً، بل في أن الفيلم عليه في ذات الوقت تمجيد بطله الأول وتلميع صورته، ولو أنه على خطأ. طبيب في الأرياف الفيلم الحديث الوحيد الذي يخرج من هذه الدائرة تماماً ويجسد حالة وعي سياسي راشد وثمين الهدف هو الفيلم الجديد لجون سايلس وعنوانه "رجال مسلحون" ***** من خمسة. المسألة المثارة في هذا الفيلم التالي ل "نجمة وحيدة"، هي الوضع السياسي/ العسكري والاجتماعي لدول أميركا اللاتينية، حرب العسكر ضد الثوار وبقاء تلك الحرب بعيدة عن تصدر العناوين الأولى والاهتمامات الأساسية حول العالم. وهو فيلم خالٍ تماماً من تقديم الحجة لموقف أميركي ايجابي عن طريق بطل صنديد يكتشف الحقيقة ويعارض القمع وما إلى ذلك. فالأحداث لاتينية من دون تحديد بلد معين، والبطولة لاتينية ولا وجود لشخصيات شريرة، إلا بقدر ما يميز صاحب قضية عن منفذ لسياسي يعيش في المدينة الكبيرة تاركاً الريف ينأى تحت عبء الفقر والحاجة. هناك عالمان أميركيان رجل وزوجته يسيحان في تلك المناطق الخطرة، يطلان من حين لآخر، لأن المقصود بهما هو تشخيص التجوال الأميركي الرسمي في هذه الشؤون. انهما ملمان جداً بعملهما في الآثار ولا يكترثان لما يحدث من حولهما، وليس لديهما موقف معين باستثناء اللاموقف ذاته. سايلس ينتقد بهما الغياب الأميركي الرسمي الذي يبدو بدوره موقفاً ساذجاً ومائعاً. قلب الفيلم مع الثوار وهو ينبض في صدر طبيب من المدينة ينطلق في مهمة للتعرف على ما حدث لبعض طلابه الذين كانوا قرروا العمل في الريف. قبل المهمة كان محافظاً كغيره. الرحلة التي يجتازها بحثاً عن طلابه الذين ماتوا هي ذاتها الرحلة التي كان بحاجة إليها للوقوف على الحقيقة. الرحلة التي تنتهي به أيضاً للموت. الشارات:* ضعيف. ** وسط. *** جيد. **** جيد جداً. ***** تحفة