أطول أزمة وزارية في تاريخ روسيا المعاصر انتهت بموافقة البرلمان على تعيين سيرغي كيريينكو رئيساً للحكومة. وحصل المرشح في الجولة الأولى من الاقتراع على 143 صوتاً وانخفض العدد إلى 115 في الثانية. وبدا أن المجلس النيابي الذي تهيمن عليه المعارضة، سيرفض المرشح للمرة الثالثة، ما كان سيعني حل البرلمان. إلا أن كيريينكو حصل في الجولة الثالثة على 251 صوتاً. ماذا جرى بين الجولتين وكيف سيكون شكل العلاقة الجديدة بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية؟ جلال الماشطة يجيب: هل ثمة صلة بين الأزمة الوزارية في موسكو والانتخابات في اقليم كراسنويارسك السيبيري البعيد عن العاصمة؟ قد لا تبدو الرابطة بديهية، إلا أن الفوز الساحق الذي حققه الجنرال الكسندر ليبيد، السكرتير السابق لمجلس الأمن القومي، في الجولة الأولى من انتخابات كراسنويارسك يشكل مؤشراً مهماً على ظهور "قوة ثالثة" تستثمر ضعف وتخبط السلطة والمعارضة وعجزهما عن تقديم حلول مقبولة لمشاكل البلد، وهو ما أثبته شهر من المواجهة بين الرئيس والمجلس النيابي. وحتى هذه اللحظة لم يقدم الكرملين أي تفسيرات معقولة لإقالة تشيرنوميردين، وإن كان هناك ما يشبه الاجماع على أنه أراد تصفية أحد أهم مراكز القوة داخل السلطة وتنصيب حكومة ضعيفة لا ترتبط بأي من المؤسسات المتنفذة في الدولة... باستثناء ديوان الرئاسة الذي يغدو عملياً وزارة ظل تحكم من دون ان تتحمل المسؤولية. ولربما أفلح يلتسن في الظهور أمام الكاميرات بوصفه السيد المطاع وماسك الخيوط، ولو بيد واهية، أي أن العملية كلها كانت في إطار صراعات سلطوية ولا صلة لها البتة بالمعضلات الكبرى الماثلة أمام روسيا التي فقدت ابان سنوات "الاصلاح" نصف ناتجها الوطني الاجمالي وغدت تدفع 30 في المئة من موازنتها السنوية لخدمة الديون الخارجية وحدها. وأراد يلتسن أيضاً أن يتملص من مسؤولية المراوحة في المكان، بل التراجع إلى الخلف بإضافة تشيرنوميردين إلى "أكباش محرقة" آخرين مثل يغور غايدار وأناتولي تشوبايس وايفان سيلاييف وغيرهم ممن وصفهم الرئيس بأنهم "رواد" الاصلاح، ثم وضع على عاتقهم كل الأوزار التي ترتبت على عملية التغيير، وقد يكون كيريينكو المرشح الجديد... للذبح. إلا أن يلتسن اليوم لم يعد كما كان قبل سبع سنوات، فهو على الصعيد الشخصي رجل مريض يتصرف أحياناً وفق نزوات وأهواء تصعب قراءة مضاعفاتها. وإلى ذلك، فإن مراكز القوة التي كانت بايعته عميداً لها أخذت تختلف في تقويمه، بل وتتجرأ أحياناً على البوح بمعارضتها لسياسته. ورغم ان الكرملين حاول تسويق نتائج الاقتراع في الجولة الثالثة على أنها انتصار ليلتسن على البرلمان، إلا أن ثمة شواهد كثيرة على أن الأزمة أحدثت صدعاً في النخب السلطوية وأدت إلى اصطفافات جديدة لا تعزز مواقع الرئيس الحالي. فمن الواضح أن تشيرنوميردين لم يبلع الاهانة بسهولة وكان اعلانه ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة تحدياً ليلتسن الذي قال إنه لم يحدد بعد اسم "الوريث". وفي مناورة تكتيكية سريعة تحالف تشيرنوميردين مع المجموعات التي كانت عملت على زعزعة الكرسي من تحته، إلا أنها لم تتمكن من تعيين مرشحها بدلاً منه. ويشير المراقبون إلى أن ثنائي بوريس بيريزوفسكي - فلاديمير غوسينسكي الذي يسيطر على الجزء الأكبر من الامبراطورية الاعلامية والمالية اراد أن تسند رئاسة الحكومة إلى نائب رئيسها ايفان ريبكين المعروف بارتباطاته الوثيقة معهما. إلا أن يلتسن كان يطمح إلى تشكيل حكومة تكنوقراطية "غير مسيّسة" وليست لها ارتباطات بمراكز القوى كي يكون الكرملين المحرك الأساسي لبرامجها. وأدى هذا التناقض إلى فتور وقتي بين يلتسن و"الثنائي" وكشف بيريزوفسكي أنه موّل انتخابات كراسفويارسك وجاهر برغبته في أن يصبح الجنرال ليبيد الحاكم المقبل لروسيا، متحدياً إرادة الرئيس الحالي الذي يطمح إلى أن تكون له الكلمة الفصل في تحديد اسم خليفة يؤمن ليتلسن وعائلته مستقبلاً مضموناً حينما ينتقل صاحب الكرملين إلى منزله الريفي، بينما لا يشك أحد في أن الجنرال إذا تربع على كرسي الرئاسة لن يتوانى عن الانتقام من يلتسن الذي "خانه". ولكن يلتسن، في الغالب، لن يقطع الخيوط التي تربطه بالمجموعات المالية التي أمنت فوزه في الانتخابات الرئاسية. ولذا فمن المستبعد حدوث قطيعة كاملة مع بيريزوفسكي الذي يعتبر "كاردينالاً" يعمل في الظل إلى جانب أنه "المحفظة" الرئيسية التي تمول الكثيرين من أقطاب السلطة. بيد أن حسابات "المطبخ العائلي" تقوم أساساً على قاعدة "هنا والآن" ولا يهم ان يكون أو لا يكون الطوفان شبه الحتمي الذي يمكن أن يتخذ أشكالاً بالغة الخطورة كانفجار الاستياء في الشارع أو حتى تفكك الدولة إلى إمارات قائمة بذاتها. وفي هذا السياق تلفت الانتباه الطريقة التي تعامل بها مع الأزمة أعضاء مجلس الفيديرالية الهيئة العليا للبرلمان الذي يضم قادة الجمهوريات والمقاطعات. ففي البداية اصطف غالبية هؤلاء إلى جانب المعارضة في مجلس الدوما النواب وأعربوا عن استيائهم لإقالة تشيرنوميردين واختيار شاب غير محنك بدلاً منه. ولكنهم سرعان ما أدركوا ان تنصيب كيريينكو سوف يضعف المركز الفيديرالي ويفقده أداة مهمة للضغط على الأطراف، وبالتالي فإن المحافظات سوف تحصل على مزيد من الاستقلالية، ويكون لها وزن أكبر في حسم القضايا المتعلقة بالفيديرالية. مثل هذا الموقف البراغماتي كان غائباً عن مجلس الدوما المسيّس الذي لم تجد كتله الأساسية صيغة مقبولة للخروج من الطريق المسدود: فالموافقة على تعيين كيريينكو تعني فقدان الناخبين والتسليم ب "صواب" النهج الرئاسي، في حين أن رفضه هو قرار بالانتحار. ومنذ اللحظة الأولى بدا أن يلتسن يدفع نحو الخيار الثاني، إذ أنه أعلن اسم المرشح دون التشاور مع قادة الكتل البرلمانية. وحينما رفض النواب المصادقة على التعيين في الجولتين الأولى والثانية، قدم اسم كيريينكو اثر قرار البرلمان بساعة واحدة، وأكد أنه "لا يملك مرشحاً آخر"، وحذر في الوقت ذاته من أنه لن يتردد في حل البرلمان إذا أصر على موقفه في الجولة الثالثة. وامعاناً في الاذلال قال الرئيس إنه اوعز إلى مدير أعماله بتقديم "تسهيلات ومكاسب" مادية للنواب مكافأة لهم على الاقتراع لصالح المرشح. وبدا أن الشيوعيين الذين يشكلون أكبر كتلة برلمانية 135 نائباً ولهم زهاء 40 نائباً "معاراً" إلى كتلتين يساريتين، سائرون نحو اتخاذ قرار المواجهة، وعقدت لجنتهم المركزية اجتماعاً دام سبع ساعات أصدرت اثره "توصية" بالتصويت ضد كيريينكو. غير أن الأزمة فرزت جناحاً توفيقياً في الحزب يقوده رئيس البرلمان غينادي سيليزنيوف الذي حذّر من أن حل المجلس النيابي سوف يترتب عليه "الحكم بمراسيم رئاسية" وترك الحبل على الغارب للسلطة التنفيذية، ولذا دعا للرضوخ إلى الأمر الواقع. ورغم ان الاقتراع كان سرياً، فإن حسابات بسيطة تظهر ان عدداً من الشيوعيين يراوح بين 12 و25 صوتوا لكيريينكو. وبفضل هذه الأصوات حسم الموقف لصالح الكرملين ومرشحه. وكما أثارت الأزمة خلافات بين النخب السلطوية، فإنها أدت إلى تصدع في صفوف المعارضة وأظهرت ان الأخيرة لم تكوّن حتى الآن تصوراً واضحاً عن أهدافها وتكتيكها، وبالتالي فإنها يمكن ان تفقد الكثير من ناخبيها. وكان هذا الموقف الرخو المتخبط عاملاً أضاف الكثير من الأصوات "الاحتجاجية" إلى الجنرال ليبيد الذي اعتمد تكتيكاً ذكياً بتركيز حملته الدعائية على الأرياف والبلدات الصغيرة، تاركاً المدن الكبيرة في اقليم كراسنويارسك لمنافسيه. وهذا السيناريو يمكن تكراره في الانتخابات الرئاسية، إذ أن الحواضر الكبرى تضم الشرائح المتضررة أقل من غيرها بسبب الاصلاحات وزهاء 15 في المئة من السكان الذين أمنت لهم المرحلة الانتقالية قفزة سريعة إلى عالم الثراء، في حين ان الأطراف تضم الغالبية الساحقة من المستائين الذين يمكن ان يصوّتوا لأي مرشح يبرهن أو يدعي عداءه للسلطة الحالية. ويجسد ليبيد طموح الكثيرين في روسيا إلى قوة ترفض الواقع الراهن من دون الدعوة إلى إحياء الشيوعية. والأخطر من ذلك أنه يمثل الحنين إلى "اليد القوية" التي يمكن ان تكفل النظام والأمن وتحد من انتشار الرشوة والفساد. وبهذا المعنى، فإن "الديموقراطية" لم تعد لدى غالبية الروس أملاً وطموحاً، بل أنها أصبحت تجسيداً لفوضى مستمرة منذ سبعة أعوام، الأمر الذي أكدته الأزمة الوزارية الأخيرة.