تداخل الشخصي بالفني عند ملحم بركات فاختل التوازن الى حدّ ان ثمة من راقبَ واعتبر ان هذا المطرب الصادح الصوت كاد ينتهي! لا حفلات، لا أغنيات، لا أشرطة غنائية، لا حضور في الجسم الفني تسجيلاً وأداء، وتالياً كان غياب شبه تام عن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. وإذا أخذنا في الاعتبار ان ملحم يرفض "الفيديو كليب" حتى الآن!، فالنتيجة هي الشلل الحقيقي الذي قصرت فيه أعمال ملحم بركات على متابعة قيل وقال كثيف حول زواجٍ ثانٍ له أثمر انقطاعاً مريباً عن الغناء، وبلبلة أكيدة في الصورة الشعبية التي تميّز بها سابقاً كرب عائلة ملتزم، فإذا بست سنوات متتالية يعيش فيها ملحم على رصيد مادي كبير راح يُهدر، ورصيد معنوي أكبر راح يتدهور، وعلى عائلة "قديمة" منتفضة من سلوكه الذي احرجها اجتماعياً، وعائلة "جديدة" تريد الاحتفاظ به بأي ثمن: معركة عنيفة وجد نفسه فيها، ملحم بركات، أعجز من أن يختار. والقرار في حالات كهذه، حين يتأخّر، يلتهم صاحبه بالخسائر. وخسارة ملحم كانت قاتلة... فحصل انحدار دراماتيكي سريع. واختفى ملحم. كان ملحم بركات، قبل هذه المعركة قاصمةِ الظهر، أكثر المطربين اللبنانيين اقبالاً على الحياة. الحياة بمصاريعها كلّها. وكان مجرد ذكر اسمه كافياً لتلتفت شركات الإنتاج فوراً عارضة خدماتها، ومجرد الاعلان عن حفلة له كافياً لتنهمر الحجوزات، ومجرد انزال اغنية جديدة الى التداول كافياً لتطرب بها الإذاعات آذان الناس على مدار الوقت. وليس خيالاً هذا الوصف. كان ملحم بركات، بالفعل، اسماً من نار. ولم تكن الشهرة أكبر من موهبته كما هي الحال مع بعض الآخرين، بل كانت الشهرة نتاجاً منطقياً لموهبة غنائية نابضة بالتجدّد، وموهبة تلحينية فوارة بالجمال. يضاف الى ذلك عنصر مهم هو جاذبية ملحم بركات على المسرح، حضوره، الكاريزما الساطعة، وكان أبرع من عرف كيف يتعامل مع أسماع الجمهور وعيونهم أيضاً، في كيفية التصرّف خلال الغناء ان من حيث الانسجام الكامل مع أحاسيسه أو من حيث إقناع الآذان في أنها أمام فارس صعب من فرسان الغناء المتمرّس الطيّع الخبير المحترف... الآن، يريد ملحم بركات أن يسترجع تلك الصورة العالية في العلاقة مع الجمهور. ذلك ان صوته لم يتأثّر في خامته ونبرته، في غبار المعركة الشخصية - العائلية التي انعكست سلباً على نفسيته في الدرجة الأولى، سيّما بعدما كان قرار الطلاق من الزوجة الثانية، والاعلان انه سيعود الى ساحته "منذراً" الكثير من المطربين الآخرين انه سوف "يقعدهم في البيوت". والعودة تمثلت في هجمة تلفزيونية وإذاعية وصحافية أدرك خلالها الجمهور ان ملحم ركب مجدداً سفينته ويريد خوض البحر، هو القبطان المجرّب، وتمثلت أيضاً في أغنية جديدة هي "الفرق ما بينك وبيني" التي فَعَلَت ما قدّر لها ملحم أن تفعل من الانتشار والرواج، وهي اليوم واحدة من أكثر الأغنيات التي تذاع، مرات عدة، يومياً، ويردّدها الجمهور. وحرص ملحم على أن تكون هذه الأغنية من النوع نفسه الذي ركّز فيه شخصيته الفنية على المستوى التقني: المزاوجة بين الشعبي الإيقاعي السهل، والطربي المتطلّب، مع الإصرار على التغريد في "الليالي" حيث الغناء المرسل الذي لا يستطيع إلاّ أهله معرفة شعابه ودروبه ومسالكه الوعرة. وملحم من أهله... وكما أن السنونو لا يمكن ان تختصر الربيع، والموجة لا تجرؤ على اختصار الماء، فإن أغنية واحدة هي "الفرق ما بينك وبيني" غير قادرة على أن تردم الهوّة التي نشأت بين ملحم بركات وجمهوره، سيما في زمنٍ يأكلُ رجاله استهلاكاً. أغنية واحدة قد تفتح الباب، لكنها لا تدعي المكانة التي تخوّلها الانتصار على ست سنوات كان فيها ليل ملحم بركات طويلاً، وكان فيها نشاطه مقتصراً على تلقي ضربات الجزاء من زوجتين مستعدتين لاجتراح كل أساليب التملّك. وكانت قامته الغنائية تتعرّض لنقر مسمار متواصل، نجح ملحم في الافلات منه، ربما، قبل وقت قليل من بلوغ المسمار الهدف. وبغض النظر عن نظرية ملحم بركات الاعتراضية على "الفيديو كليب"، فإنه مجبر على أن ينصاع في النهاية، ولسبب بسيط هو أن هذا المخلوق السحري الذي اسمه "الفيديو كليب" هو الآن سلاح الأغنية في مبارزة الانتشار وفرض "الصورة". وإذا أراد ملحم أن يعتمده، ويجرّبه، فالضرورة تقضي بأن يسلّم خبزه لخبّاز تلفزيوني متمكن ينجز له "فيديو كليب" مختلف السمات، ذكي السيناريو واللقطة والمشهد ل "الفرق ما بينك وبيني" فيتمكن من العراك بالسلاح التلفزيوني الفضي الذي صار أعتى وأشد فتكاً من سلاح الاذاعات... الأبيض! ومع أن الصفة الغالبة على ملحم بركات هي إهمال تسجيل الأغنيات وتوضيبها في كاسيت عبر استديو وتوزيع موسيقي وهندسة صوت دقيقة لا عبر حفلات حرّة، فإن الصفة التي يجب ان يكون اكتسبها ملحم، في تجربة عصيبة مرّت، هي اعتماد الطرق الأجدى في تعويض الجمهور، ودفع الأغنيات الجديدة إليه من أجل ترميم الجسر الذي كاد ينهدم، لا الاكتفاء بمحاولة يتيمة، تبقى يتيمة مهما اشتد ساعدها. يتناقض المحلّلون حول قدرة ملحم بركات على أن ينتزع ماضيه الطيب الى حاضره المتردد وصولاً الى مستقبل عتيد، إلاّ انهم لا يتناقضون مطلقاً حول أهمية ملحم في الأغنية اللبنانية، تلحيناً وغناءً، في العشرين سنة الأخيرة.