عندما أهاجم اسرائيل وأنتقد السياسة الاميركية في الشرق الأوسط لا أفعل شيئاً نادراً، فهذا منتظر من كاتب عربي. ولكن عندما أقف منتصراً لحق كل مدخن في التدخين، من دون أن أكون جربت السجاير في حياتي، فهذا موقف يستحق التقدير... من المدخنين طبعاً. التدخين يسبب السرطان وأمراض القلب والدم، وكل مرض آخر يعجز الطب الحديث عن شفائه فيتهم التدخين به، وأنصح الناس كلهم بأن يقلعوا عن التدخين، كما أرجو الشباب الا يجربوا آفة ثبت ضررها. هذا شيء، ولكن حق كل انسان في ممارسة ما يريد، طالما انه لا يعتدي على حقوق الآخرين، شيء آخر. وأنا أدافع اليوم عن هذا الشيء الآخر. أصبح مشهداً مألوفاً في السنوات الأخيرة ان نرى موظفين وموظفات يدخنون السجاير على قارعة الطريق امام مكاتبهم، بعد ان منع التدخين في مباني العمل. وبدأت أفكر في الكتابة عن الموضوع بعد أن قرأت في جريدة مسائية انكليزية ان مجلس بلدية تاور هاملت، وهي مقاطعة لندنية، قرر منع موظفي البلدية من التدخين حتى في الطريق. وقرأت ان البلدية أخذت القرار حتى لا يصاب بالضرر الموظفون الآخرون والزوار من "التدخين السلبي"، وهي عبارة تطلق على تنشق انسان في الجوار دخان سيجارة احد المدخنين. الغريب في الأمر ان التدخين السلبي لم يثبت ضرره بشكل قاطع، كما ثبت ضرر التدخين المباشر نفسه. أغرب منه انه اذا منع الانسان من التدخين في المكتب والطريق، وكل مكان آخر، فهو سيدخن في بيته، وهنا سيصيب بدخانه اطفاله، فهل هذا ما يحاول المشترعون العباقرة صنعه؟ اذا لم يبق غير البيت مكاناً للتدخين، والستائر مسدلة، فان أول ضحايا التدخين السلبي سيكون الاطفال. على كل حال، بعد المكتب والطريق، أعود الى كل مكان آخر، فالتدخين ممنوع في السينما والمطعم والقطار والطائرة والتاكسي وغيرها وغيرها. وأرفع قبعتي هنا لو وجدت تحية للسيد بيتر بودنغتون، وهو انكليزي خسر الأسبوع الماضي قضية كلفته 25 الف جنيه استرليني بعد أن اخذ مصلحة السكك الحديدية البريطانية الى المحاكم مطالباً بحقه في التدخين في القطار. طبعاً كان السيد بودنغتون سيخسر، لأن الجو العام مشحون ضد التدخين، كما هو مشحون ضد المتهمَيْن الليبيَيْن في حادث سقوط الطائرة الاميركية. وقد قرأت الأسبوع الماضي ايضاً ان شركتي طيران اميركيتين قررتا منع التدخين على جميع رحلاتهما، بما في ذلك الرحلات الطويلة العابرة للقارات التي قد تستغرق من خمس ساعات الى 12 ساعة. هل هذا عدل؟ هو ليس عدلاً بالتأكيد، ويكفي ان المدخنين، يعزلون في اماكن قصيّة من المطعم او الطائرة، فتجد الواحد منهم في مقعد قرب المراحيض، واقفاً جالساً، للسلام على الداخلين والخارجين. مع ذلك فهناك من يريد ان يحرم المدخن متعة تدخين سيجارته على "عبق" التواليت. اليوم يجد الرئيس بيل كلينتون وهو يدخن السيجار على طاولته مشروعاً من مجلس الشيوخ لصوغ "سياسة تبغ متكاملة" هدفها اتخاذ اجراءات قاسية لاقناع الناس بعدم التدخين وتوعية الجيل الناشئ على اضراره. وهذا كلام جميل، الا ان نظرة ثانية اليه تثبت ان ظاهره جميل، اما باطنه ففاسد. ما هي الاجراءات "القاسية" التي يمكن ان تتخذ للحد من التدخين؟ المنع في الاماكن العامة قائم، لذلك فالاجراء الوحيد الباقي هو رفع سعر السجاير بزيادة الضرائب عليها كما يريد المشترعون الاميركيون، وهو اجراء سيؤذي الفقراء قبل غيرهم. اما التوعية فموجودة في الواقع منذ الستينات، ولم تبق زيادة لمستزيد، فيجب ترك كل انسان وشأنه يقرر ان كان يريد ان يدخن أو لا. وأترك القرّاء يفكرون بهذه النقطة الاخيرة فمنذ الستينات ونحن نسمع عن اضرار التدخين، ومع ذلك هناك ناس من الوقاحة الآن ان يطالبوا شركات السجاير بتعويضات ببلايين الدولارات لأنهم اصيبوا بالسرطان من التدخين. ويحق لهم التعويض لو أن شركات السجاير وضعت مسدساً على صدغ كل منهم وأرغمته على التدخين. الا ان الواقع ان المدخن منذ الستينات، وخصوصاً منذ السبعينات والثمانينات، يدخن وهو يعرف اضرار التدخين. وأنا هنا أرجوه ان يمتنع عن التدخين، الا انني ادافع عن حقه ان يدخن او لا يدخن، طالما انه لا يعتدي على حقوق غير المدخنين، لأنه ان كانت من كلمة اخيرة فهي ان المدخنين اخف دماً من غير المدخنين، وان أزعج الناس انسان توقف عن التدخين وأصبح يحاضر عن اضراره، كما تحاضر راقصة متقاعدة عن الفضيلة.