عادت الأزمة بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة، كما كان التوقع، الى الالتهاب بعد فترة هدوء وتعاون اعقبت توقيع اتفاق 23 شباط فبراير بين نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز والامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. وكان قيل في وقتها ان التعاون الناقص الذي تبديه بغداد في شأن الاتفاق، ليس في حقيقته الا مناورة موقتة ترمي الى تهيئة الذريعة في يدها للعودة الى افتعال جولة اخرى من الأزمة تقوم على المطالبة برفع الحظر الاقتصادي فوراً، او تحديد سقف زمني لرفعه بشكل تدريجي قبل استكمال تنفيذ القرارات الدولية. وهذا في الواقع كان السبب الرئيسي في قرار الاميركيين الابقاء على قواتهم العسكرية في المنطقة. ويصح القول ان بغداد تستمرئ العودة الى افتعال الازمة مع واشنطن انطلاقاً من قناعتها بأن ذلك الاسلوب في ظل المزاج السياسي السائد في الشرق الاوسط، يمكن ان يساعدها على قطف "انتصارات" ما، لكن الاصح الذي يمكن التشديد عليه هو ان بغداد اخذت تشعر بعد توقيع الاتفاق باحباط سياسي ونفسي كبير اقنعها بخطل انتصارها المزعوم. فمن جهة كل التوضيحات التي اعقبت الاتفاق، بما فيها توضيحات الفرنسيين وسقوط الاقتراح الروسي الخاص بتعيين نائب روسي لرئيس لجنة "اونسكوم"، اكد لها ان ريتشارد بتلر باق في موقعه كمسؤول اول عن جميع نشاطات التفتيش في العراق. ومن جهة ثانية، تتقلص الرقعة التي تصورتها العاصمة العراقية اختراقاً في المواقف الداخلية والعربية والاقليمية والدولية، واعتقدت ان في امكانها البناء عليها مستقبلاً. وبالنسبة الى النقطة الاخيرة، يمكن الاشارة الى بعض المواقف: فعلى الصعيد العربي كانت بغداد تعتقد انها احدثت اختراقاً سياسياً كبيراً. لكن الاحداث المتلاحقة اكدت بشكل لا يقبل الا القليل من الجدل، ان الامر غير ذلك. إذ حتى الدول والحكومات العربية التي تعاطفت معها إبان الازمة وطالبت غير مرة باشراكها في أي جهد جماعي عربي، لم تعد تخفي موافقتها على استثناء القيادة العراقية من القمة العربية التي يجري الحديث عنها بين فينة وأخرى. وفي السياق ذاته، يمكن ملاحظة مواقف دمشق التي بدت لفترة من الفترات عازمة على التطبيع الاقتصادي والسياسي الكامل مع بغداد. فالحقيقة التي لمستها الاخيرة في ما بعد اكدت لها ان دمشق غير مستعدة لتوسيع رقعة التطبيع او تجاوز الخطوط الحمر بأكثر مما فعلته حتى الآن نظراً لحساباتها وتحالفاتها الخليجية. وعلى الصعيد الاقليمي لم تكن الحال أحسن. فايران التي دأبت بغداد على الرهان على استمرار عزلتها واشتداد عداواتها مع العالمين الاقليمي والدولي طوال السنوات الست الماضية، لم تعد في ظل حكومة خاتمي، تشكل ذلك البعبع المخيف الذي تتطلب مواجهته اعادة تأهيل القيادة العراقية واستخدامها لاقامة التوازن الاقليمي. وهي الى ذلك، لا تبدي استعداداً فعلياً للتطبيع على رغم الاتفاق على حل مشكلة الاسرى بين البلدين. وتركيا التي تصورت بغداد انها في مقدم الداعين الى التطبيع مع العراق ورفع الحظر عنه، تثبت مواقفها خلال العام الماضي بشكل لا يقبل الجدل انها غير معنية حتى بتشجيع اكراد العراق على الاتفاق مع حكومتهم المركزية. وإذا كان هناك شيء من ذلك القبيل، فانه لم يتعد في احسن الاحوال اوساطاً سياسية محددة في أنقره لا تملك القرار. اما العسكر الذين يقبضون على زمام الحكم الفعلي فانهم غير مستعدين لايذاء تحالفاتهم وعلاقاتهم مع اميركا على مذبح العراق. كذلك الحال على الصعيد الدولي. فروسيا التي تتخبط في مشاكلها الداخلية لم تقدم دليلاً مقنعاً على نجاح خططها في لعب دور حيوي على صعيد الشرق الاوسط. اما فرنسا فانها لا تبدو ميّالة للانجرار وراء اهواء القيادة العراقية في التلاعب باتفاقيتها مع الامين العام للأمم المتحدة الذي اختار باريس محطة اولى للتشاور مع قادتها قبل سفره الى العاصمة العراقية في شباط فبراير الماضي. وآخر الأدلة في ذلك الخصوص تصريح وزير الخارجية الفرنسي ومطالبته العراق بإزالة الغموض عن الملفين الكيماوي والجرثومي. وأما العملية السلمية في الشرق الاوسط، والتي ساعدت تعقيداتها على تخفيف التركيز الدولي والاقليمي والعربي على مسألة العراق، كما كتّفت ايادي الادارة الاميركية عن التعامل الحاسم مع تلك المسألة، فإن الاشارات المتوفرة توحي، ولو كمجرد احتمال، باقتراب انفراج بعض عقدها المستعصية. وآخر تلك الاشارات قبول الاسرائيليين تطبيق القرار 425 الخاص بالانسحاب من جنوبلبنان، وزيارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الى الشرق الاوسط. اضافة الى الاجتماع المنوي عقده في لندن بين وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت مع ياسر عرفات وبنيامين نتانياهو في لندن في الرابع من أيار مايو المقبل. كذلك الحال على الصعيد الداخلي في العراق. فالمحاولات الحكومية مع الزعيمين الكرديين مسعود بارزاني وجلال طالباني لجرهما الى اتفاق سياسي يفضي الى انتفاء الحاجة الى الحماية الاميركية الخاصة بكردستان العراق، لا تني تواجه مشكلات، وآخرها فشل السفير الروسي لدى بغداد، قبل اكثر من اسبوع، في اقناعهما بمعاودة المفاوضات مع الحكومة العراقية. ويصح القول ذاته بالنسبة الى محاولات بغداد اجبار المجتمع الدولي على اعادة صياغة مذكرة التفاهم المتعلقة بتطبيق القرار 9861 وإصرار المجتمع الدولي على مضاعفة المبيعات النفطية العراقية وتنظيم توزيعها وصرفها بعيداً عن تدخلات الحكومة، وذلك ما تجسد في الرفض القاطع الذي اعلنته بغداد لتوصيات مؤتمر لندن الخاص بالبحث في برنامج الاحتياجات الانسانية للعراقيين، والذي جرى عقده بمشاركة واسعة يومي 20 و21 من الشهر الجاري. وفي المعنى ذاته، تمكن الاشارة الى الاحباط الذي احدثه التقرير الذي قدّمه المقرر الدولي لحقوق الانسان فان دير شتويل الى مجلس الامن، وأعاد الى الاذهان ضرورة الالتفات الدولي لإلزام القيادة العراقية تطبيق القرار 688 الخاص بحماية حقوق الانسان في العراق، ونبّه المسؤولين العراقيين الى ان مسألة تفتيش القصور الرئاسية ليس نهاية المطاف في مسلسل التزاماتهم المنصوص عليها في القرارات الدولية. كل ذلك اصبح يشكل ضغطاً هائلاً على بغداد. وما زاده اخيراً زيارة وزير الدفاع الاميركي ويليام كوهين الى منطقة الخليج، قبل أيام، التي جاءت لتذكير القيادة العراقية بالخيارات العسكرية. اختصاراً، يمكن القول ان الجولة الراهنة من الأزمة لا تشبه السابقة. فاذا كانت السابقة تعبيراً عن رغبة بغداد في شق وحدة مجلس الامن وتحشيد رأي عربي ودولي متعاطف مع مواقفها في مواجهة الموقف الاميركي، فإن الراهنة ترتبط في تفصيلاتها بحال الاحباط والاخفاق التي اصبحت تعيشها القيادة العراقية بعد اتضاح ان ما اعتقدته انتصاراً على اميركا و"أذنابها" لم يكن في حقيقته سوى خسارة اخرى، وان موافقتها على فتح القصور الرئاسية لا يبدو انها تعني تأهيلها للحصول على رفع العقوبات عنها. من هنا يجوز التكهن بصعوبة السيطرة على التوتر الجديد الذي تشهده الأزمة بين العراق والامم المتحدة، والحؤول دون تطوره الى ضربة عسكرية اميركية مباغتة. فالمسؤولون العراقيون يعيشون اوج احباطهم. وبعض اعضاء مجلس الامن لا تبدو عليهم علائم الاستعداد للعودة الى الوقوف الجدي مع العراق ضد اتفاق يحمل توقيع الامين العام للأمم المتحدة ويحظى بتأييدهم. اما الادارة الاميركية التي قاومت، خلال الجولة الاولى من الأزمة، ضغوط الكونغرس لانتهاج الحل العسكري، فالارجح ان تشعر بصعوبة مقاومة تلك الضغوط في الجولة الراهنة.