Robert Anciaux Vers un Nouvel Ordre Regional au Moyen - Orient? نحو نظام اقليمي جديد في الشرق الأوسط ؟. L'Harmattan, Paris. 1997. 304 Pages. كان النظام الاقليمي الشرق - أوسطي، على امتداد الأربعين سنة التي دامتها الحرب الباردة، يتسم بثنائية عضال. ومع أن هذه الثنائية كانت تقوم على الاستتباع لأحد الجبارين العالميين، فإنها كانت تترك للمستتبعين هامشاً من حرية الحركة. وحتى في الحالات التي كان الاستتباع يأخذ فيها شكلاً لا مشروطاً، فإنه ما كان يغدو قط مجانياً، بل كان له على الدوام ثمنه إما على شكل حماية عسكرية، وإما على شكل مساعدات اقتصادية وتكنولوجية تكافئ الانحياز السياسي للتابع وتنازله عن استقلالية قراره الجيوبوليتيكي. ولكن منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط حلف وارسو بدأ الحديث منذ نهاية الثمانينات عن نظام عالمي جديد تنفرد بقيادته الولاياتالمتحدة الأميركية نيابة عن الغرب الصناعي برمته. وفي ظل هذا النظام الدولي الجديد، الاحادي القطب، فقدت دول الشرق الأوسط هامشها من حرية الانحياز، ولم يعد أمامها من اختيار آخر غير أن تكون طالبة - لا مطلوبة - للاستتباع، وفي بعض الحالات من دون ثمن مقابل. فالعرض قد فاق الطلب في هذه السوق الجيوبوليتيكية ابتداء من التسعينات. وابتداء من التسعينات أيضاً بدأ الكلام عن الحاجة إلى نظام اقليمي جديد في الشرق الأوسط يكون أكثر انسجاماً مع مقتضيات النظام العالمي الجديد. ولكن بما أن مرجعيات هذا النظام الاقليمي الجديد لم تكن إلى ذاته، بل إلى النظام العالمي الجديد نفسه، فقد كان لا بد من تنفيذ انقلاب في الإحداثيات التي يقوم على أساسها أي نظام اقليمي، وفي مقدمها مفهوم "العدو المشترك" الذي يمكن أن يقوم هذا النظام الاقليمي ضده. فثنائيات الحرب الباردة، ذات المرجعية العالمية، كانت تراكبت مع المعطيات الاقليمية ولم تحل دون تبلور عدو مشترك "محلي". فعداوات التاريخ والجغرافيا، ولا سيما بين الكيانات القومية الثلاثة الرئيسية في المنطقة، تركياوإيران والمشرق العربي، وجدت لها في الحرب الباردة متنفساً مباشراً، لا سيما منذ اندلاع "الثورة الإسلامية" التي أخرجت إيران من المدار الغربي الذي كان يجمعها بصورة "مصطنعة" مع الجار والعدو الوراثي التركي. والأمر نفسه يصدق على "العدو المشترك" الذي كانت تمثله إسرائيل بالنسبة إلى الدول العربية. فههنا أيضاً كان الصراع العربي - الإسرائيلي قد نحا إلى التطابق مع المعطيات الجيوبوليتيكية للصراع السوفياتي - الغربي، لا سيما منذ مسلسل "الثورات" أو الانقلابات العسكرية التي أخرجت كلاً من مصر وسورية والعراق - وهي الدول ذات الثقل في المواجهة مع إسرائيل - من مدارها الغربي وأدخلتها بقدر أو بآخر في المدار السوفياتي. ولكن مع انفراد الولاياتالمتحدة الأميركية بقيادة النظام الدولي الجديد لم تعد الخصومات والعداوات الاقليمية تتطابق مع أية ضرورة جيوبوليتيكية عالمية. وباستثناء الثورة الإسلامية الإيرانية، التي بدت معادية للنظام العالمي الجديد نفسه، فإن مقولة "العدو المشترك" قد فقدت، من منظور هذا النظام على الأقل، كل دلالة لها. ومن هنا كانت مفاجأة 2 آب اغسطس 1990 عندما قامت قوات النظام العراقي بغزو الكويت. فعلى امتداد الثمنانينات كانت إيران، الساعية إلى تصدير الثورة الإسلامية إلى العالم العربي، تبدو هي المرشحة للاضطلاع بدور العدو المشترك المجمع عليه. ولكن الخسائر المادية والبشرية الجسيمة التي تكبدتها في حربها مع العراق 300 ألف قتيل و700 ألف جريح، بالاضافة إلى تردي وضعها الاقتصادي من جراء سوء التسيير انخفاض الناتج القومي بمعدل 15 في المئة، والاستهلاك الخاص بمعدل 40 في المئة، والتوظيف بمعدل 65 في المئة في الفترة ما بين 1979 و1990، كل ذلك قد ثلّم حدة هجوميتها وأملى عليها، لا سيما في عهد الرئيس رفسنجاني، اتخاذ موقف أكثر ذرائعية. ومن ثم فإن الضربة التي كانت متوقعة من الشرق جاءت فعلاً، في 2 آب 1990، من الغرب. ومما زاد في وقع المفاجأة أنها جاءت من قبل الطرف الذي كان معقد الرهان عليه في حرب الخليج الأولى لدرء الخطر الإيراني. وهكذا، وبين عشية وضحاها، تلبّس النظام العراقي الدور الجاهز ل "العدو المشترك" الذي في مواجهته يمكن ان يقوم نظام اقليمي جديد. ومهما أمكن أن يقال عن "توريط" أميركي لقيادة النظام العراقي، فلا بد من الإقرار لإدارة الرئيس بوش بأنها دللت على براعة فائقة في التعبئة، على مستوى عالمي واقليمي معاً، ضد من سمته أجهزة إعلامها ب "هتلر الجديد". وبالفعل، وللمرة الأولى في التاريخ، خيضت الحرب باجماع دولي وبمشاركة عربية معممة ومباشرة. ولكن ما كادت حرب الخليج الثانية تضع أوزارها، كاشفة في آن معاً عن مدى جبروت القوة الأميركية وعن مدى ضعف أية قوة اقليمية قد تسير وراء إغراء الدخول في مواجهة معها، حتى عادت اشكالية نظام اقليمي جديد لمنطقة الشرق الأوسط تطرح نفسها بإلحاح. وبالفعل، كان الرئيس بوش قد صرح، غداة انجاز عملية "عاصفة الصحراء" ب "نجاح تام"، بضرورة ان تنعم المنطقة بأسرها بسلام شامل على أساس من قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 ومن مبدأ مقايضة الأراضي بالسلام. والواقع أن الجبروت الذي تبدت عليه القوة الأميركية اثناء حرب الخليج الثانية كان لا بد أن يجد معادلة في التزام أميركي بتعميم السلام العادل والشامل على المنطقة بأسرها، وإلا لتجردت هذه القوة من مصداقيتها الاخلاقية ولتبدّت عملية "عاصفة الصحراء" نفسها في نظر شعوب المنطقة وكأنها مجرد حملة صليبية جديدة لا تستهدف الدفاع عن الحق الدولي، بل حماية المصالح الأميركية وحماية "الربيبة الأميركية" التي هي إسرائيل. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن إدارة الرئيس بوش التي أغلظت في استعمال العصا باتت تعي أكثر من أية إدارة أميركية سابقة ضرورة التلويح بالجزرة. وعلى هذا النحو، اندفعت الإدارة البوشية تمارس أقصى ضغوطها، عقب طي ملف "عاصفة الصحراء"، لكي يجتمع الأطراف المعنيون بالصراع العربي - الإسرائيلي في مدريد ولكي يتوصلوا إلى اتفاق يقر السلام العادل والشامل في المنطقة. وقد كان كل مسعى الإدارة الأميركية ينصبّ على نزع صفة "العدو المشترك" التي تحضر إسرائيل بها في الوجدان العربي، وبالتالي محورة النظام الاقليمي الجديد حول فكرة "المصلحة المشتركة" التي يمكن ان تجمع مستقبلاً بين أعداء الأمس. ولكن هذه المرة أيضاً جاءت المفاجأة من غير الجهة المتوقع أن تجيء منها. فعلى حين أن التخلي عن صفة "العدو المشترك" كان يتطلب انقلاباً كوبرنيكياً في الموقف العربي، فإن إسرائيل - ممثلة بحكومة شامير الليكودية - هي التي أبت تقديم أي تنازل جدي من شأنه أن يبرر للعرب الانقلاب في موقفهم منها، وذلك برفضها مبدأ مقايضة الأراضي بالسلام. ولم يعد سراً أن إدارة الرئيس بوش لم تكتف بممارسة الضغط على حكومة شامير من خلال الامتناع عن تقديم ضمانتها لقرض من 10 مليارات دولار كانت تطلبها إسرائيل من البنك العالمي لتيسير استيطان مليون يهودي سوفياتي، بل ساندت أيضاً علناً وبقوة العماليين الإسرائيليين في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 1992 نظراً إلى أن زعيمهم اسحق رابين أبدى استعداده العلني لإطلاق عملية المفاوضات من جديد على أساس مبدأ مقايضة الأرض بالسلام. وقد كانت اتفاقيات أوسلو هي النتيجة المباشرة لفوز العماليين الانتخابي. ولكن انتخابات أيار مايو 1996 عادت تقلب الموقف الإسرائيلي من جديد. فنتانياهو، الذي فرزته هذه الانتخابات، تجاوز في تصلبه سلفه شامير وقيّد نفسه، سواء في برنامجه الانتخابي أم في تصريحاته عقب فوزه، بالامتناع عن تقديم أية تنازلات بخصوص الأراضي التي هي "هبة الله للشعب اليهودي"، حسب تصريحه أمام الكنيست الإسرائيلي في 18 حزيران يونيو 1996، واقترح صيغة بديلة عن صيغة "السلام مقابل الأراضي" هي "السلام مقابل السلام"، أي عملياً السلام مع الاحتفاظ بالأراضي. ومنذ منتصف 1996 لا يفتأ نتانياهو يقوم بدور البطولة الرئيسي في معارضة ولادة نظام اقليمي جديد في المنطقة. فهو ليس من أنصار "إسرائيل موسعة"، بل "كبرى" فحسب، بل أنه أيضاً ممن يعتقدون ان العداء العربي هو نسغ مغذٍ لإسرائيل، وأن قدر إسرائيل أن تعيش محاصرة بهذا العداء وإلا كفت عن أن تكون هي إسرائيل. وإذا أخذنا في الاعتبار أن فكرة "نظام اقليمي جديد" هي أساساً فكرة أميركية وأمنية أميركية، فلا مفر من الاستنتاج بأن أقوى معارضة لهذه الفكرة ولهذه الأمنية تأتي اليوم - وستظل تأتي في السنوات المقبلة - من جانب حليفة الأميركيين الأولى في المنطقة: إسرائيل. ولكن بما أن إسرائيل تتجه أكثر فأكثر إلى أن تنقسم إلى إسرائيل عمالية معتدلة وإسرائيل ليكودية متطرفة، فإن فرص النظام الاقليمي في أن يرى النور تتوقف على تغلب إسرائيل الأولى على إسرائيل الثانية. إلا أن فرص هذا التغلب ليست داخلية صرفة. ففي زمن يتجه فيه الرأي العام الإسرائيلي إلى مزيد من التصلب، فإن عودة العماليين إلى الحكم ترتهن أكثر من أي وقت مضى بالموقف الأميركي. فالأميركيون، بما لهم من دالة على إسرائيل، هم وحدهم الذين يستطيعون أن يمارسوا ضغطاً مجدياً عليها بحيث يحدثون تحولاً حتى في موقف الرأي العام الداخلي فيها. والحال أن الرئيس الأميركي كلينتون كان، ولا يزال، متردداً في أن يمارس مثل هذا الضغط. ولئن تكن الاعتبارات الانتخابية هي التي حالت حتى الآن بينه وبين ممارسة مثل ذلك بالضغط، فإن ولايته الثانية قد حررته من الهاجس الانتخابي. ومن ثم، وكما يرى روبير آنسيو، فإن كل الأمل معقود اليوم على رغبته في أن يدخل التاريخ بوصفه صانع السلام والنظام الاقليمي الجديد في المنطقة. ولكن مؤلف "نحو نظام اقليمي جديد في الشرق الأوسط" هو من يؤكد، في السطر الأخير من كتابه، ان هذا احتمال لا يفرج باب التفاؤل إلا من أضيق زواياه.