كم مرة ينبغي ان تتفوق امرأة على الرجال حتى يُعترف بأنها أقدر منهم؟ وكم مباراة ينبغي ان تفوز فيها مهندسة عربية على مهندسي العالم قبل ان تُمنح الحق بأن تبني بنايتها؟ وكم من براهين على الموهبة الفذة ينبغي ان تقدم فتاة عراقية قبل ان يشعر العالم بخسارة موت أطفال بلادها؟ أسئلة تطرح نفسها بمناسبة الاعلان قبل أيام عن فوز المهندسة العراقية زهاء حديد على 97 مهندساً عالمياً بمسابقة لتصميم بناية متحف الفنون الحديثة في ولاية سنسناتي الأميركية. الأجوبة عن هذه الأسئلة هل تذهب مع الريح كما ذهبت قبلها جوائز فوزها المتتالية على أشهر المعماريين في العالم؟ بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، اعتبر فوز زهاء بتصميم البناية التي تكلف 25 مليون دولار اختراقاً لحاجز الجنس. فهذه أول مرة، وفق صحيفة "انترناشنال هيرالد تربيون"، تبني امرأة متحفاً في أميركا. بالنسبة الى المهندسة العراقية، التي أكدت امس لپ"الحياة" فوزها بالجائزة، هذه ليست المرة الأولى التي تخترق فيها حواجز الجنس والجغرافيا والثقافة. ففي عام 1982 فازت، وهي ما تزال معيدة في الكلية على 538 مهندساً بتصميم عمارة "القمة" التي كان ينبغي ان تقام على ذرى الجبال المحيطة بمدينة هونغ كونغ في الصين. وفي عام 1994 فازت على 270 مهندساً بتصميم دار الأوبرا في مدينة كارديف في مقاطعة ويلز البريطانية. وفي عام 1996 فازت على 296 مهندساً بتصميم "جسر سكني" في قلب مدينة لندن يحتوي على دور لمسرح وسينما وفنادق ومطاعم. في كل تلك المسابقات كان منافسوها من أبرز المعماريين في العالم، مثل البريطاني السر نورمان فوستر، الذي بنى عمارة مصرف هونغ كونغ وشنغهاي، والايطالي مانفريد نيكوليتي، مصمم بناية متحف الأكروبوليس في اثينا، والاسباني رافاييل مونيو مصمم متحف ثايسن في مدريد. مع ذلك لم تنفذ مشاريع المهندسة العربية بحجج مختلفة، كالتشكيك في امكان تنفيذ بناياتها التي تبدو عائمة في الهواء. وهذه شكوك سخيفة بالنسبة الى المهندسة من بلاد شيّدت "الجنائن المعلقة" قبل أكثر من أربعة آلاف عام! وأحدث اعلان الأميركيين عن فوز زهاء صدمة للأوساط المعمارية البريطانية التي اعترفت أمس بمرارة "ان ما تخسره كارديف تربحه سنسناتي". جاء ذلك في تقرير احتل صفحتين في صحيفة "غارديان" هاجمت فيه بعنف أوساط الأعمال والمسؤولين على حد سواء. وذكر كاتب التقرير الناقد البريطاني جوناثان غلانسي ان "تصميم زهاء حديد لدار الأوبرا في كارديف أثار حماسة المعماريين والفنانين وعاشقي الأوبرا والنقاد حول العالم". وقال ان أكمال المشروع كان سيجذب موجة من المواهب العالمية والاستثمارات التي تحتاجها مقاطة ويلز. وزاد بأسى "لقد ضيّعنا وقت زهاء حديد ودمرنا ايمان العديدين بأن كارديف قادرة على التطلع الى المستقبل… والآن نعرف ان سنسناتي ستحصل على متحف رائع للفنون المعاصرة صممته زهاء، في حين سيكون مصير كارديف النسيان في أعوام 2000 وستضع سنسناتي نفسها على الخريطة العالمية". والسؤال الآن: هل سيكون حظ سنسناتي الأميركية أفضل من حظ كارديف البريطانية؟ الجواب عن هذا السؤال قد يقدمه طلبة زهاء في جامعة كولومبيا في نيويورك الذين فرضوا على ادارة جامعتهم خلال حرب الخليج استدعاء المهندسة العراقية لتدريسهم فن العمارة، حيث تواصل تدريسها لهم لحد الآن. ويقدم جمهور نيويورك الذي سيحتشد اليوم لسماع محاضرتها العامة فكرة عن شعبية زهاء التي تتجاوز الوسط المعماري التقليدي وتعتبر ظاهرة حيّرت النقاد الغربيين. وكانت صحيفة "غارديان" قدمت الوصف الآتي للاحتفاء بزهاء اثناء المؤتمر العالمي السابق للعمارة الذي استضافته مدينة برشلونة في اسبانيا: "تخيل هذا المنظر: امرأة ضخمة تخطو بفستانها العريض المطرز بأشكال متعانقة وترتقي المنصة في ملعب برشلونة الأولمبي الذي يتسع لپ14 ألف مقعد وتتحدث بتواضع عن مهنتها غير المنظورة. وعندما تغادر الملعب ينتشلها الحرس من حشود المصورين والمعجبين الذين يطلبون توقيعها ويسرعون بها خارج المكان". وتساءلت الصحيفة البريطانية: "من هي هذه المرأة؟ أهي أميرة؟ او نجمة موسيقى الروك؟ … لا انها مهندسة معمارية عراقية تتحدث في احتفال المؤتمر الدولي الذي يبلغ سعر البطاقة لدخوله 500 دولار". وقد حققت زهاء حديد لنفسها موقعاً متميزاً في العمارة العالمية برؤيتها التقدمية لعلاقة العمارة بالناس. وتحمست لها الأجيال الجديدة من المعماريين حول العالم لأنها بقيت، رغم انهيار مدارس الحداثة المعمارية ونكسة الأفكار الانسانية للقرن العشرين تطور قيماً معمارية تجمع بين الايمان المتحمس بالتكنولوجيا والتغيير الاجتماعي. ورفعت المهندسة العربية راية الأمل في مواجهة التصورات السائدة حول موت فن العمارة، وعارضت الأفكار المتطيرة من تكنولوجيا القرن العشرين، وانتقدت الخوف من سرعة الحياة العصرية وخشية التغير الدائم في أساليب العيش. وعلى العكس من ذلك، اعتبرت كل هذه فرصاً لتحقيق ما تسميه "البهجة التي اوجدتها التكنولوجيا الحديثة". وهي تقول: "عند التطلع الى أي مدينة فالمسألة ليست كيف نصنع مشاريع معمارية مغامرة، بل كيف يمكن تصميم شيء متميز وبهيج". ومن بين أكثر مشاريعها خيالاً انشاء حدائق معلقة متنقلة. تقدم هذه الحدائق، التي اقترحت اقامتها في مساحات خالية داخل المدن، امكانات لا حد لها لتغيير المناظر تبعاً لفصول السنة. وتحتل أعمال زهاء أغلفة المجلات المعمارية الدولية وتحولت بنايات شيدتها، مثل دائرة مكافحة الحريق في مصنع على ضفاف الراين في المانيا ومطعم "منسون" في اليابان ومجمعات سكنية في دوسلدورف وبرلين وفيينا الى معالم سياحية معمارية. وأصبحت زهاء، وفق اعتراف صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية "أحد أكثر الأشخاص نفوذاً في العالم المنيع للعمارة العالمية". وقالت الصحيفة "هذه المهندسة العراقية ذات المزاج البركاني تمزج الثلج والنار". وذكر كتاب صدر عن زهاء في طوكيو باللغتين اليابانية والانكليزية انها لم تكن تتوقع عند تخرجها الحصول على مهنة تقليدية في العمارة، وأدركت ان عليها الاختيار بين القبول بلعبة آمنة او المغامرة، وعرفت حسب قولها ان "هذا هو الشيء الرئيسي فعلاً، وإذا استطعت المغامرة لن أتردد". هذا المزيج العراقي من الثلج والنار ورثته زهاء عن والدها السيد محمد حديد، الذي جمع بين الثقافة الأكاديمية الرفيعة والمواقف السياسية الشعبية الى جانب الثراء وريادة المشاريع الصناعية الحديثة. وهو، مثل كثير من وزراء المال العرب والانكليز تخرج في "كلية لندن للاقتصاد"، لكنه انضم الى الحركة الوطنية في بلاده المعارضة للنفوذ الغربي، وأصبح وزيراً للمال في حكومة ثورة 14 تموز يوليو في العراق. والسؤال الذي ستظل تواجهه الأوساط المعمارية البريطانية هو: لماذا حرمت بريطانيا من موهبة ساهمت مدرسة العمارة البريطانية نفسها في تنميتها؟ هل يعود السبب، كما يدّعي بعض المهندسين الى ان الحق في اقامة بناية "كبرى" في أماكن عدة من العالم محصور بأعضاء جماعات ضغط دولية سرية؟ أياً يكن السبب فإن حرمان المهندسة العربية من حق تنفيذ تصاميمها جرى دائماً بأساليب "معيبة وشائنة"، وفق تعبير فرانسيس دوفي رئيس اتحاد المعماريين البريطانيين، وحتى اللورد كريكهاول رئيس لجنة تحكيم مسابقة دار الأوبرا، وكان من أشد معارضي تصميم زهاء، اعترف بأن مناورات حرمانها من التنفيذ شكلت "أكثر العمليات الاستشارية كلفة في تاريخ بريطانيا". وذكر الناقد المعماري لصحيفة "صنداي تايمز" ان فوز تصميم زهاء حديد يعتبر صفعة للأمير تشارلز وهو في عقر داره"، في اشارة الى ان ولي العهد البريطاني يحمل لقب "أمير ويلز". ورجّحت الصحيفة ان هذا هو سبب التراجع عن تنفيذ تصميم زهاء لدار الأوبرا. ومعروف ان الأمير تشارلز يعتبر نفسه راعي تقاليد العمارة الانكليزية ويطلق اسم "منزل فرانكشتاين" على كلية الهندسة المعمارية "أي أي" AA التي تخرجت فيها زهاء ودرّست فيها، وتعتبر من أبرز المدارس المعمارية في العالم.