سأطلق على هذا المنحى اسم غريزة الاتساع، وكأن الانسان محكوم بها الى آخر انفاسه، اذ حال وصوله الى هدف ما يظهر في الأفق هدف آخر. وبرصف الأهداف المتحققة، بعضها جنب بعض، يمكننا اكتشاف مساحة التمدد التي حققها الفرد منذ لحظة ولادته، ولعلنا لهذا السبب لا نتقبل حقيقة الموت. لم يمض على الفلكي "هايل" طويلاً منذ اكتشافه حال الاتساع المضطرد للكون. المجرات تبتعد، أكثر فأكثر، عن مركز الانفجار الكبير الذي وقع قبل عشرة بلايين سنة، وعن بعضها البعض، في البدء كان معدل الاتساع هائلاً، لكن مع انخفاض درجات الحرارة، بدأ التناقص في سرعة الاتساع، وأصبح ممكناً تكون مجرات النجوم. كما يبدو التماثل غريباً في النزوع الى الاتساع بين الكون الأصغر: الانسان، وبين الكون في كليته. في كتابه "التاريخ المختصر للزمن"، يجري ستيفن هاوكنغ مقارنة بين الزمن السيكولوجي والزمن الكوني، عبر افتراض لا يلبث ان يتراجع عنه: الانسان يتذكر الماضي فقط ولا يعرف شيئاً عن المستقبل، وهذا راجع الى حركة الكون الانبساطية. لكن عند بدء مرحلة الانقباض الذي سيعقب توقف الكون عن الامتداد ستتغير المعادلة تماماً: الانسان يبدأ بتذكر مستقبله فقط، اما ماضيه فلن يعرف عنه شيئاً. حركة الحياة ستسير باتجاه معاكس، ما وقع في الماضي سيعود الى الظهور، مثل فيلم يُعرض باتجاه معاكس. اظن بأنني شاهدت هذا الحلم، بعد انتهائي من قراءة ذلك الكتاب الشيطاني بساعات قليلة: كانت عيناي معصوبتين، وكنت محشوراً في ملجأ تحت الأرض، بين حشد هائل من الناس. ومن الخارج كانت تتسرب الينا بين الفينة والأخرى، أصوات انفجارات مروعة، مختلطة بعويل العواصف التي راحت ترج الملجأ بعنف، لتبعث الرعب في انفاسنا. فجأة ارتفع ازيز عارم، كأنه صرير قطار كوني لحظة كبح جماح عجلاته حتى توقفه كلياً. في تلك اللحظة، أطبق سكون مطلق على الملجأ، حتى الهواء تحول الى جليد لامرئي، وبين خلايا جسدي استقر شلل كامل. كم بدت تلك الثواني لانهائية في استطالاتها، حيث انغرز كل شيء، بلا حراك، داخل احشاء حلزون عملاق. لكن ارتجاجاً مفاجئاً له دفع بالدماء ثانية للجريان في عروق مخلوقاته، هل هو الحلزون ينطلق ثانية في حركة، بطيئة، مترجرجة، تنتظم بشكل تدريجي، حتى يتلاشى الشعور بها. تسقط العصابة عن عينيّ، للمرة الأولى ليواجهني مشهد المدينة التي لم أرها من قبل: ها هي الساعة المعلقة على قمة برجها، ترمي بدقاتها العشر الصاخبة بانتظام. وأمام حشد هائل من المارة، راح العقربان يتحركان باتجاه مقلوب، ليبعثا البهجة والخوف في نفوسهم. يتفرق الناس ببطء، تتابعهم دقات الساعة المتناقصة. وفي الطريق الى بيتي، لمحت الأشجار التي تكسرت بفعل الأعاصير الأخيرة، تنهض من الأرض لترجع الى جذورها، تنافسها الأبنية المهدمة في حركتها صوب ما كانت عليه من بهاء وتناسق. كان العالم حولي في حركة دؤوبة للعودة الى بداياته البكر: الخل المكموخ في الأدنان يتحول الى عصير مترقرق، الجلود المسلوخة تفلت من اكتاف المارة هاربة صوب الغابة، لتعود ثانية في هيئة دببة ونمور حية، وفي بيتي، التقيت، من دون أي اندهاش، بأمي التي عادت من المقبرة، بعد مكوثها هناك زمناً طويلاً، ولم تشِ ملامحها الا بالصحة والابتهاج، وكأنها لا تتذكر المرة الأخيرة التي اجتازت عتبة بيتي غاضبة علي وعلى زوجتي، حالفة بأنها لن تعود أبداً لزيارتي. في هذا العالم المتسارع صوب البدء، تنقلب العلاقة بين الأسباب والنتائج، بدلاً من الاحتراق في حمى الندم، على الاختيارات التي دفعتني صوب أوضاع بعيدة عما كنت أتوق اليه. ها أنذا أغرق في متعة مراقبة الأسباب، مخلفاً ورائي النتائج التي ما انفكت تتساقط واحدة بعد اخرى. في عربة العودة الى المنطقة، ليست هناك خيارات أو قرارات أو اغراءات بل اندماج في تذوق دقائق الماضي الذي أصبح مستقبلاً. وفق قواعد هذا الزمن الخيالي، الأمل الوحيد الذي يحرك المرء هو الذوبان أخيراً في خضم الأبدية. بين الطفل والشيخ متاهة تفصل بينهما، ووفق لعبة الحلم الذي شاهدته كان الشيخ ممسكاً برأس خيط طويل ينتهي عند طرف المتاهة الآخر، حيث يقف الطفل منتظراً اياه بصبر. فاتني ان أذكر استدراك ستيفن هاوكنغ عن لحظة بدء انقباض الكون، آنذاك ستختفي الجاذبية التي تحكم بقاء الأجسام على سطح الأرض، مما يجعلها تندفع كشظايا انفجار بركاني صوب فضاء غارق في فوضاه وهلاميته، ولن تتاح فرصة للانسان حتى بوضع خطوة واحدة في رحلته المقلوبة عبر تيار الزمن الخيالي.