كانت الدعوة الى افتتاح "فيلا سرسق للترفيه" غريبة بعض الشيء، فقصور هذه العائلة البيروتية الارستقراطية العثمانية الطراز والمزروعة خلف عشرات الأشجار الفارعة في الأشرفية ما اعتادت ان تكشف عن كنوزها لپ"العامة". الوصول الى الفيلا لم يكن صعباً، فحي السراسقة لا يحتاج الى دليل، وشارع سرسق الذي يتسلق تلة الأشرفية لا يزال يحافظ على نكهته الخاصة على رغم الأبنية الحديثة الشاهقة التي تشرئب من حوله وتحاصره وتكاد تحجب عنه الشمس والهواء وتخلع عنه مسحته التراثية. على مساحة الف متر مربع تبدو فيلا سرسق بسقفها القرميد محاطة بحديقة خضراء هي امتداد لحديقة قصر سرسق الأعرق والأفخم. والفيلا عبارة عن بناء من طبقة واحدة لا تزيد مساحته على 250 متراً تلفّه القناطر والأعمدة الرخامية وشيّدت غرفه بناء على نظام العقد الهندسي الذي انقرض مع مرور الزمن. يعود تاريخ تشييد الفيلا في شكل غير مؤكد الى العام 1850، وربما الى تاريخ اقدم لانعدام الوثائق. ويقول رودريك سرسق ان جده موسى سرسق قد يكون صاحب البيت، وجلّ ما يعرفه انه كان بيت العائلة وهو مؤلف من 13 غرفة، تتوسطه دار واسعة يتفرع منها باقي الغرف. وقد روعي في هندستها اسلوب حياة العائلات البيروتية في ذلك الحين. وكانت بيروت شهدت في العام 1831 فتحاً على يد ابراهيم باشا المصري الذي احدث في المدينة تغييرات كثيرة، اذ جلب معه مستشارين ومهندسين اجانب، ومنح الشركات والوكالات الرخص للعمل في بيروت، وسمح للارساليات الاجنبية بفتح مدارس في المدينة. وأدّت هذه الخطوة الى مرحلة انتعاش دامت تسع سنوات. وعندما عاد الأتراك الى المدينة العام 1840 وجدوها مختلفة تماماً عما تركوها، فقرروا جعل بيروت عاصمة لما كان يسمى ولاية بيروت التي كانت تمتد من اللاذقية الى عكا وتعرف باسم سورية الساحلية. وشكلت السنوات اللاحقة ولادة بيروت الحديثة حيث بني في تلك المرحلة المرفأ، وجرّت المياه الى المنازل وتم تأمين الكهرباء واستحدث "الترامواي". وبرزت في بيروت مجموعة من العائلات التي عرفت بعلاقاتها التجارية المميزة وأبرزها: سرسق والتويني وبسترس وفرنيني وطراد والعم. وشهدت المدينة في نهاية القرن التاسع عشر نهضة عمرانية تركزت في رأس بيروت والأشرفية اي في المناطق المشرفة على ما عرف لاحقاً بالوسط التجاري لبيروت. واختار السراسقة الاشرفية مكاناً للسكن لقربها من المركز التجاري للعاصمة. وتعتبر عائلة سرسق من العائلات الأولى التي بنت القصور في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. واستحضرت لذلك بنّائين ومهندسين ايطاليين، خصوصاً ان للعائلة علاقات تجارية واسعة في منطقة البحر الابيض المتوسط، ويعتقد البعض بأن لها جذوراً يونانية. وسمحت العلاقات العائلية بالانفتاح على حضارات غربية غرفت منها عائلة سرسق الى حد مصاهرة النبلاء الأوروبيين، وأبرز هؤلاء دونا ماريا التي تزوجت واحداً من آل سرسق، ولاحقاً الليدي كوكرن وهي من آل سرسق وقد تزوجت ديبلوماسياً ايرلندياً. انفتاح العائلة على العالم الخارجي كوّن لها شبكة علاقات سياسية لا حصر لها، ففي العهد العثماني كانت قصور السراسقة مفتوحة امام الولاة والباشاوات، وكذلك في عهدي الانتداب الفرنسي والاستقلال، لم يقطعوا مع حاكم وبقيت مكانتهم محفوظة حتى في ظل أشد الظروف صعوبة، خصوصاً خلال الحرب الاهلية اذ استطاع حي السراسقة تجاوز المحنة بأقل أضرار ممكنة. ويعود سر علاقات هذه العائلة الى مجموعة عوامل ابرزها اجادتها فن الصالون وتمكن افرادها من اللغات الاجنبية المتعددة، يضاف الى ذلك جمال القصور التي بنوها. ويقول رودريك، السرسقي الأم، انه تعلم من والدته الليدي كوكرن الاحتفاظ بكل شيء. وكنوز قصر سرسق لا تحصى، وما تتضمنه فيلا سرسق التي سيتم افتتاح مشروع استثمارها غداً الأربعاء 4 الشهر الحالي هو بعض ما وجده رودريك في القبو وعلى "العليّة"، نسيته العائلة مع مرور الزمن او عرفت قيمته فقررت توريثه للأبناء والأحفاد مغلّفاً بالنفتلين! عملية ترميم الفيلا استغرقت اشهراً قام بها رودريك كوكورن، وهو الأبن الوحيد بين اربعة، قرر العودة الى بيروت مع زوجته الانكليزية للاشراف على املاك العائلة. وكانت الفيلا مؤجرة لبنك "ناسيونال دو باريس انتركونتيننتال" وقبله للسكرتير الاول في السفارة البريطانية وقبله لسفارة مالطا. وعمدت زوجة رودريك، وهي مهندسة ديكور داخلي، الى وضع تصاميم الفيلا استناداً الى المحتويات التي جمعت من المخابئ... وساعدتها في التنفيذ صديقات وحرفيون بريطانيون ولبنانيون. فغرفة "الزجاج الملوّن" تحتوي لوحين يحملان نقوشاً رسمت باليد في العام 1910 في بلجيكا، وقد وجدهما رودريك سالمين في الصندوق مع اضرار طفيفة تم ترميمها لاحقاً. وكانت عمّته ايزابيل اشترتهما لتزيين قصرها في الاسكندرية، وتم شحنهما الى هناك ولا يعرف ما حدث في حينه اذ أعيد اللوحان الزجاجيان الى بيروت وبقيا في الصندوق الى اليوم. اما غرفة "الصيد" و"النزهة" فقد عرفت بهذين الاسمين نسبة الى جداريتين معلقتين ترويان بالألوان الزاهية رحلة صيد الى البراري ونزهة العائلات الى الغابات بكل التفاصيل، وهما مذيلتان في العام 1891 والعام 1892 بتوقيع الفنان الفرنسي ج. جيلبير. ويقول رودريك انه وجد الجداريتين وهما مرسومتان على قماش ملفوفتين بأوراق من صحيفة "لوفيغارو" صادرة في العام 1903 وقد فوجئت والدته بهما، وهو يعتقد بأن جده ألفرد سرسق، وكان يعمل قنصلاً لتركيا في باريس، اشتراهما من العاصمة الفرنسية وربما لم تعجبا العائلة او لم تصلحا للعرض في حينه فخبأهما الجد ومات... ودخلت اللوحتان عالم النسيان. وزيّن رودريك وزوجته الغرفة "العربية" بصوَر فوتوغرافية من أرشيف العائلة الى جانب صورة لسارة برنار تحمل توقيعها الشخصي، وبعض الصور محت السنون ملامحها. وتكمن اهميتها في انها تعطي فكرة وافية عن ازياء النخب في حقبة القرن الماضي. كما تضمنت الغرفة لوحات مائية وزيتية بعضها غير مكتمل رسمها جد رودريك الذي يقول عنه انه كان فناناً يعشق النساء... والقصد من عرض الصور اعطاء المكان دفء المنازل المسكونة. وتوزعت غرف الفيلا ستائر من الحرير بعضها يعود تاريخ صناعته الى 130 سنة، ومرايا ضمن اطارات خشبية مزخرفة من صنع فرنسي، وكراسٍ خشبية مكسوّة بالجلد من صنع اسباني لا يقل عمرها عن 140 سنة، فيما تدلت من السقوف العالية ثريات معدنية جمعت من القبو قطعة قطعة، لتشكل ثريات ضخمة متلألئة بأنوارها. قاعات الفيلا ظلت، على رغم محتوياتها، شبه خالية من الأثاث والمقصود ابقاء المساحات مفتوحة امام القاصدين لاستئجار المكان لمناسبات خاصة كإقامة الأعراس او الحفلات او المعارض او توقيع الكتب، في مقابل أجر بقيمة 1500 دولار، بعدما فشل مشروع آخر كان يهدف الى تأجير الفيلا قبل اعادة تأهيلها ب150 الف دولار سنوياً، ولم يلقَ العرض حماسة. واذا كانت صيغة تأجير الفيلا لساعات اسلوباً متبعاً في أوروبا نظراً الى ارتفاع قيمة الضرائب التي تفرض على القصور، فيحاول المالكون استثمار المكان لتأمين المبالغ المطلوبة، فان مشروع رودريك الثاني اثار جملة ملاحظات لدى الاصدقاء الذين نصحوه بتحويل الفيلا مطعماً اسوة بالمطاعم المنتشرة هذه الايام في الاشرفية... إلا ان رودريك نصف السرسقي شأنه شأن ابناء العائلات الذين يفضلون الربح المضمون يرى ان خيار المطعم هو شأن الذين لا مخيّلة لديهم ولا ذاكرة، وذاكرة آل سرسق لا تنضب.