يسترجع فيليب مانسل في «الشرق: بهاء وكوارث على المتوسط» Levant: Splendour and Catastrophe on the Mediterranean ثلاثَ مدنِ مرافئ، ويقول إنه التأريخ الأول بالإنكليزية ل «سميرنا» (إزمير) والإسكندريةوبيروت. مانسل مؤرخ لفرنسا والإمبراطورية العثمانية، وعاش في بيروت وإسطنبول أثناء إعداده للكتاب. قدّمه في أمسية نظمتها جمعية الصداقة البريطانية - اللبنانية في نيسان (أبريل) الماضي، وذكر أن الحلف الفرنسي - العثماني هو الذي صنع الشرق الحديث. بعد الاحتلال العثماني لسورية (بما فيها لبنان) ومصر ومكة والمدينة في 1517، بات السلطان خادم الحرمين الشريفين وخليفة المسلمين. آمن رعايا مسلمون كثر أن الله شاء الإمبراطورية العثمانية آخر الإمبراطوريات، كما كان النبي محمد آخر الأنبياء. تشكّلت من ممالك وسَلطَنات مغلوبة عدة، لكنها لم تقوّض هويات الشعوب المقهورة أو ذكرياتها عن ماض مجيد سبق الاحتلال. تميّزت بالتحالف مع المسيحيين مذ دخلت أوروبا حليفة لجنوى في منتصف القرن الرابع عشر، ومنحت فرنسا حق حماية الكاثوليك في الشرق. مُنع المسيحيون واليهود من ركوب الحصان، ولم تسمح الحكومة الفرنسية للنساء بمرافقة أزواجهن الى الشرق، لكن الرجال لم يشكوا الوحدة بفضل الزواج الموقت. فرضت الحاجة الى التواصل الديبلوماسي والتجاري لغة مشتركة هي اللغة الفرنجية، المحكية غير المكتوبة، التي جمعت الفرنسية والبروفنسية والقشتالية الإسبانية والتركية والعربية، وتعلّمها ثرفانتس أثناء عبوديته في الجزائر. احتمى الأجانب بالفرمان التركي الذي وفّر الأمان، ومنهم بايرون المعجب بالإسلام، الذي فاقت قصائده عن الأتراك تلك عن اليونانيين. بنى محمد علي الإسكندرية، وحوّلها من «أكثر الأمكنة كآبة وخواء في العالم»، وفق شاتوبريان في 1806، الى عاصمة كوزموبوليتية، ومرفأ مزدهر، ومفتاح مستقبل مصر عند وفاته في 1849. ولد في كفلا، شمال شرق اليونان اليوم، لأب تركي صدّر التبغ الى مصر. صعوده الى السلطة، وليس الاحتلال الفرنسي، شكّل بداية الشرق الأوسط الحديث. لقّبه القنصل الفرنسي ب «الزعيم الألباني» لاعتماده على خمسة آلاف جندي ألباني في الجيش، لكنه كان تركي الهوية والقلب، وإن جهد للاستقلال عن الإمبراطورية وتثبيت وراثة ذريته حكم مصر. تميّز عن سائر الحكام العثمانيين بتعاليه عن التعصب، وسمح بقرع أجراس الكنائس، قائلاً إنه سيكون من سوء الحظ ألا يوجد الدين الصحيح بين كل تلك الأديان. اعتمدت الإدارة الأرقام الأوروبية في الحسابات، وضمّت محكمة التجارة في 1826 مسلمين ومسيحيين ويهودياً. تعلّم القراءة والكتابة بنفسه في الخامسة والأربعين، لكنه بقي يجهل العربية، وكان أول حاكم غير مسيحي أرسل البعثات الدراسية الى أوروبا، وضم الطلاب المستفيدون ابنيه حليم وحسن وحفيده اسماعيل. رفض أثرياء الإسكندرية إرسال أولادهم في البعثات العلمية، وفضّلوا إيفاد أبناء البوابين، فأجبرهم على إزالة أكوام النفايات المحيطة بالمدينة عقاباً. امتهن التجارة، وبات في أوائل حكمه أغنى باشا في الإمبراطورية، التي رفض الانصياع لأوامرها حين خالفت مصالحه الشخصية. ومع أن غرفة نومه كانت أوروبية الطراز تماماً في آخر حياته، بقي ينام على فراش على الأرض. سرّع تحديث مصر بتوظيف الفرنسيين، وكبَّر نفوذ الأجانب، خصوصاً في الجيش، الذي بني على الطراز الفرنسي، والقوات البحرية. نفى معارضيه من رجال الدين، وبعدما كانت مصر من أكثر المناطق تشدّداً في الإمبراطورية، باتت في عهده من أكثرها انفتاحاً. استاء مسلمون كثر من تفضيله الأجانب ونفوذ قناصلهم، الذين هدّدوا ببناء قناة السويس من دون موافقته إذا لم يفعل، واستاء هو مما سمّاه بؤس المسلمين وانحطاطهم. ومع ازدياد تحديث الإسكندرية وتوسعها، زنّرتها أحزمة البؤس، وعاش الفقراء في أكواخ كانت دون زرائب الكلاب. آمن محمد علي بتفوقه العرقي كتركي، وقارن المصريين بالوحوش. اقتصر الضباط على الأتراك، لأن الحكم كان حقاً لهم، ولم يسمح للمصري بتجاوز مرتبة النقيب. أسّس نادياً للكتّاب ومكتبة ومسرحين، فرنسياً وإيطالياً، ونحو ثمانية مطاعم أوروبية استوردت الثلج من جنوب تركيا، وأقيمت حفلات رقص فيها أبناء البلد مع بنات القناصل. في 1849، لاحظ غوستاف فلوبير، أن كل من ارتدى معطفاً نظيفاً ضرب في الشارع من كان معطفه قذراً، أو كان بلا معطف. بعد ثلاثة عقود، كان الضباط والرسميون يضربون المارة من أهل البلد بالعصا والسوط. الكاتب اللبناني أحمد فارس الشدياق، قال ساخراً في 1855، إن الأتراك رأوا أكثر وسائل النقل راحة ظهر العربي. كان محمد علي أول مُصلح زراعي في الشرق الأوسط، وأدخل الأناناس والموز والتين والمانغو والبرتقال والكرمة الى مصر، ووسّع زراعة القطن. خلفه حفيده عباس باشا، الذي شجّع الهوية المصرية لدى الضباط والرسميين، وخفض ضرائب الفقراء، وخضع عمه سعيد باشا لتهديد القناصل فبنى قناة السويس، التي حصدت شركتها الفرنسية معظم أرباحها، ولم يوافق أسلافه أو السلطان العثماني على إنشائها، لأنها كانت طريق بريطانيا الرئيس الى الهند، وأغرتهم باحتلال مصر، وهذا ما فعلوه في 1882 بعد ثورة أحمد عرابي، وزير الحرب. سادت الفوضى والنهب خلال الثورة، وأشعلت الحرائق التي حوّلت المدينة جحيماً دانتياً. اقترب عدد الأوروبيين في عهد سعيد باشا من الثلث، ووظف أثرياء الإسكندرية خادمات يونانيات أو إيطاليات، ومربيات فرنسيات أو إنكليزيات، وحدائقيين مصريين. أثرت عائلات سورية ولبنانية مهاجرة (سرسق، دبانه، زنانيري، زغيب)، وشاركت الأجانب احتقار المصريين. ماكس دو زغيب قصد المدينة بائعَ فستق، وبات القنصل البرتغالي وكونتاً مليونيراً. نسيم موستاكي، اليوناني اليهودي ووالد المغني جورج، زيّن مكتبته «سيته دو ليفر» بصور الكتاب الشهيرين الموقَّعة. وكتب قسطنطين كفافي شعراً مثلياً في جو رحب ما كان ممكناً يومها إلا في باريس. استثمر اليهود في الثقافة، وقدّموا مبنى لمكتبة البلدية، وأسسوا متحفاً، وبنى اليسوعيون مدرسة، لكنهم لم يجبروا غير المسيحيين على حضور القداس، لأن «الإسكندرية ليست بيروت». بنى محمد علي بيروت الحديثة كما فعل مع الإسكندرية، وحين احتلها ابنه إبراهيم باشا بين 1831 و1840، كانت متاهة من الأزقة الضيقة القذرة خلف أسوار صليبية عريضة. وفي حين تميّزت الإسكندرية بحاكم محدث، برز في بيروت عدد المسيحيين الكبير وسلطتهم. بنى إبراهيم باشا الثكنات والمستشفيات في سورية، ورفع من شأن المسيحيين واليهود، وأشركهم في المجالس الاستشارية. كان الأمير بشير الثاني الشهابي حليفه المحلي، الذي حكمت عائلته جبل لبنان منذ 1697 كجابية ضرائب للعثمانيين وزعيمة الدروز الذين عاشوا في المنطقة منذ القرن الثامن عشر. اعتنق فرع عائلته المسيحية، ربما تأثراً بطبيب مسيحي، لكنه بقي يدّعي الإسلام علناً، تفادياً لغضب العثمانيين. حين هاجم البريطانيون والنمسويون إبراهيم باشا، انقلب بشير عليه وساهم في هزيمته، وكان توريث أسرة محمد علي حكم مصر من شروط الصلح. لقّب القنصل الفرنسي بيروت ب «جمهورية التجار»، وكان من محاسنها الطقس الصحي وسهولة بلوغ الجبال للهاربين من الطاعون أو الأتراك. رآها الشاعر لامارتين جنة، على الرغم من أن ابنته جوليا توفيت فيها بالطاعون، وفي 1839 وحدها، أُسست فيها تسعةٌ وستون شركة نصفها أجنبية. في 1860، تمرد فلاحون موارنة في جبل لبنان على الإقطاعيين الدروز، فأحرق هؤلاء قراهم، ودفعت المجازر مسيحيين كثراً الى الهجرة الى الإسكندرية. لكن الازدهار الثقافي والاقتصادي عاد بسرعة الى بيروت، وفي 1863 أنهى الكونت دي برتوي طريق الشام. باتت المدينة عاصمة العرب الفكرية والتربوية، ونشطت فيها ثلاثة أرباع المطابع العشرين في البلاد. كان على الطلاب المسلمين في الكلية البروتستنية السورية حضور القداس وتناول اللحم غير الحلال. إلا أنها تحولت مهداً للقومية السورية، وزوّدت معارضي الإمبريالية بالسلاح الفكري. وفي 1882، احتج طلاب على طرد معلّم، لتدريسه نظرية أصل الأنواع لتشارلز داروين. تخلّفت بيروت عن الإسكندرية في تبني المظهر الغربي، وفي 1878، فُتح أول محل خياطة أوروبي. ألحقت بيروت بدمشق بين 1862 و1888، ثم أعادها احتجاج أهلها عاصمةَ مقاطعة، وأُلحقت بها عكا ونابلس وطرابلس واللاذقية. استخدم السلطان عبدالحميد الثاني الإسلام سلاحاً، لكن مدينته المفضّلة كانت بيروت، المسيحية أساساً. عمل أربعة من عائلة ملحمة المارونية في إدارته، كان بينهم وزيران. كان البشر أهم السلع في بيروت، وانتقل «عملاء» بين القرى لتسهيل هجرة نحو عشرة آلاف لبناني وسوري سنوياً من مرفأي بيروت وطرابلس. كبر «المجتمع الراقي»، ولم يعد صالون مدام دي برتوي يتسع له، وهي لاحظت أن آل شهاب فقدوا نفوذهم وثروتهم، في حين بدأت عائلات سرسق وبسترس ودو فريج يستقبلون الزوار ويقيمون الحفلات في قصورهم الضخمة. لكن بيروت كانت، مثل سائر مرافئ الشرق، قنبلة موقوتة تَواجَهَ مسيحيوها ومسلموها أربع مرات في القرن التاسع عشر وحده. في 1956، أقيم المعرض العربي الأول للكتاب في الجامعة الأميركية في بيروت، وقال طه حسين إنها أطاحت القاهرة كعاصمة الثقافة العربية. لم تُفقدها الحرب مركزَها، وعلى رغم الأهوال، لم تستطع مدينة عربية أخرى أن تحل محلها عاصمةً لإقليمها، بفضل مزيجها الذي لا يضاهى من الأدمغة والمتعة والحرية. آخر المدن المشرقية، حيث لا المسيحية تسيطر ولا الإسلام، «تهدّدها اليوم القومية المفرطة لحكومات طهران ودمشق والقدس ودولة حزب الله المضادة الساخطة».