نتيجة القناعة بعدم جدوى المخرجات السياسية لمسار التسوية الجارية في تحصيل الحقوق الفلسطينية بالسرعة أو الحيثيات المأمولة، اقترح البعض إيلاء عناية فائقة بتعزيز مظاهر الاستقلال الاقتصادي وتقوية البناء الذاتي للمجتمع الفلسطيني. فمن شأن هذه المظاهر - من وجهة النظر هذه - أن تفضي إلى تأهيل الكيان الفلسطيني الدولة للحياة، وأن يكون إعلان الاستقلال السياسي مجرد إجراء شكلي أو اعتراف بحقيقة قائمة. تفترض هذه الرؤية إمكان الإلتفاف على عوائق "السياسي" ودحرها من المدخل الاقتصادي - الاجتماعي. وهي تميل من طرف خفي إلى النظرية التي تعتبر أن قابلية الحياة الاقتصادية تمثل شرطاً أولياً لنشأة الدول والكيانات السياسية. ومع أن الخبرات، بما فيها قيام إسرائيل ذاتها من دون الحديث عن عشرات الدول التي استقلت وانتشرت كالفطر، غداة الحرب العالمية الثانية بخاصة، تنفي صحة هذا الإعتقاد، فقد يقال جدلاً إنه لا بأس من محاولة تطبيقها على الحالة الفلسطينية، باعتبارها تعرضت لعملية أقرب إلى الإبادة الاجتماعية الاقتصادية في الأساس. وفي هذا الإطار، يتعين على أصحاب مدخل التكوين الاقتصادي لتحصيل الاستقلال السياسي، تقديم برنامج تفضيلي للتعامل مع هذا المدخل، لا أن يكتفوا برفع الشعار. والأرجح، أنهم سيصطدمون بصعوبات فصل الاقتصادي عن السياسي في النموذج الفلسطيني بل لعلهم يواجهون بمعطيات تدعو إلى الإحباط، تماماً كما أحبط الذين طرقوا المدخل السياسي في حدود شروط التسوية منذ مطلع التسعينات، ذلك أن المعطيات الاقتصادية القائمة في الضفة وغزة ليست مبشرة على الإطلاق، ولا تكاد تلهم أي برنامج يسعى إلى تطبيق النظرية المذكورة المفترضة. وتكمن علة هذا الواقع الاقتصادي بمفرداته المثيرة للأسى، في أن المخرجات السياسية للتسوية أطبقت على حركة الاقتصاد الفلسطيني، واحتاطت لإحتمال إفلاته من وحش السيطرة الإسرائيلية. إن التحليل المتأني قد يثبت أن المفاوض الإسرائيلي احترز لأفق الاستقلال الفلسطيني عبر الاقتصاد كما السياسة، وأنه أضمر ألا تتعدى حركة الاقتصاد الفلسطيني المسموح به على صعيد الحركة السياسية. هذا هو أحد أهم المعاني من السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المعابر مع العالم الخارجي وكذلك بين أجزاء الكيان الفلسطيني في الداخل. ولو كان الباعث على هذه السيطرة أمنياً فقط أو سياسياً، لجاز التفكير في إنشاء "معابر إقتصادية آمنة"، تقي الضفة وغزة شرور الحصارات الاقتصادية المتواترة. ثم ما علاقة الأمن الإسرائيلي، بأن تظل معاملات الإرتباط الاقتصادي الفلسطيني بالمحتل الإسرائيلي على حالها. على رغم اقتراب المرحلة الانتقالية على الأفول؟ فمازال حجم العمالة الفلسطينية المطلوب استيعابها في الاقتصاد الإسرائيلي كما هو. وما زالت إسرائيل تُصدّر للضفة وغزة 90 في المئة من احتياجاتهما وتستورد 88 في المئة من صادراتهما السلعية. ولا يوجد ما يبشر باستقلال "فلسطين" بعملة لها على رغم إنتشار عشرين مصرفاً لها أكثر من سبعين فرعاً في الداخل. وما زال حجم البطالة صعوداً أو هبوطاً معلقاً بأبواب إسرائيل فتحاً أو إغلاقاً. أكثر من ذلك، إنخفاض مساهمة قطاعات الإنتاج الحقيقي في الناتج الإجمالي لاقتصاد الضفة وغزة: الزراعة من 20 في المئة إلى 13 في المئة والصناعة من 5،10 في المئة إلى 5،8 في المئة بين عامي 1993 و1997. من يطالع البيانات الموثوقة، كتقرير الأمانة العامة للجامعة العربية عن تطورات الاقتصاد في الضفة وغزة، يتأكد من هذه الحقائق، ويستزيد عن مستوى الثبات أو التراجع - من دون أي تقدم - في ما يخص تأثير التسوية على معطيات الحياة الاقتصادية هناك. والمؤسف أن التعويل على عمليات الحقن الخارجية، تحت مسمى "العون الدولي" من القوى المانحة، لا تشي بدورها بإمكانات للخروج من هذه الحالة، أو تقديم منفذ غير تقليدي للوفاء باستحقاق الاستقلال الاقتصادي، وبالتداعي، السياسي في أجل ما قريب أو بعيد. فمعطيات التقرير المشار إليه، كمثال، لا تدعو إلى تفاؤل بخصوص آلية الدعم الدولي لتحويل مسار التبعية الفلسطينية الاقتصادية. بل لعلها تنذر بفتح باب آخر للتبعية الدولية. تضاف إلى هموم الاعتمادية التي كرسها الاحتلال الإسرائيلي المديد. قد يذهب المرء إلى أن المعونات الدولية، وفق تجربة السنوات القليلة الماضية، تساعد على تكريس واقع التبعية الأم - للاقتصاد الإسرائيلي، وتعمل من خلال هذا الواقع، وليس في الاتجاه المضاد. يتحدث التقرير بمرارة يتحسسها المتابع، عن العون الدولي وفاعليته. ومن خلال عمليات حسابية وتقييمات مبثوثة في جنباته، نفهم بصريح العبارات الآتي: - تدني نسب وفاء الدول والمؤسسات المانحة بالتزاماتها. - إنخفاض فاعلية العون وضعف كفاءته. - تتجه المساعدات الدولية إلى مجالات مهمة، لكنها قد لا تشكل أولوية للشعب. - استنزفت الخروقات الإسرائيلية السياسية الجزء الأكبر من العون. ولم تبرز بوادر - بإمكان استخدام الدول المانحة أدوات الضغط السياسي أو الاقتصادي ضد إسرائيل - أكثر من نصف العون الدولي منذ بدء التسوية استخدم لتخفيف آثار الممارسات الإسرائيلية "وليس له أي أثر تنموي تراكمي". - كلفة المساعدات الدولية تعد كبيرة بأي مقياس اقتصادي. وبكلمات جامعة يقول التقرير "العون الدولي بقي قاصراً، ضعيف القدرة محدود الفاعلية، ولم يتمكن حتى الآن ايار مايو 1997 من إحداث تغييرات جوهرية، ذات أثر تراكمي تُحوّل المسار النوعي في البنية الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية لاجتياز المرحلة الانتقالية". على أن عصيان المدخل الاقتصادي على المرور للإستقلال بفعل ضغط المعطيات السياسية والاقتصادية، لا يعني أن تعميد البناء الاجتماعي الاقتصادي الفلسطيني، والدأب على تقويته ليس مطلوباً في حد ذاته. لكن المؤكد هو أولوية انتزاع الحقائق الاستقلالية في الجانب السياسي. وإن لم يكن هناك بد من اجتراح المدخل الاقتصادي، وهو أمر مهم في كل الأحوال، فربما تكون المقاربة الصحيحة لهذا المدخل هي في الاعتماد على برنامج أقل طموحاً من إنشاء "سنغافورة" الفلسطينية، وقد يحتاج الجانب الفلسطيني إلى اعادة قراءة ملف "الاقتصاد التقشفي" المستلهم للقدرات الذاتية، الأمر الذي عرفه الناس زمن الإنتفاضة.